حذرت صحيفة Haaretz الإسرائيلية من أن الأوضاع الاقتصادية في مصر وصندوق النقد قد تكون هي السبب الحقيقي الذي يهدد حكم الرئيس عبدالفتاح السيسي وليس جماعة الإخوان المسلمين والمعارضة المصرية.
وقالت الصحيفة الإسرائيلية: لدى الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي هوس بالتهديدات على حكمه، أو مثلما يقول، على استقرار مصر. وقد لاحق الإسلاميين وحظر جماعة الإخوان المسلمين. وأحكمت أجهزته الأمنية قبضتها على وسائل الإعلام والإنترنت والمنظمات غير الحكومية.
وأوردت تقارير أنه يخشى على وجه الخصوص جيل الألفية من الطبقة الوسطى، وهو الجيل الذي أشعل فتيل ثورة 2011.
وكما يقولون، فحتى المصابين بجنون الارتياب قد يكون لهم أعداء. لكن في حالة السيسي، يبدو أن هوسه أغفل أكبر التهديدات على الإطلاق؛ جماعة التكنوقراطيين معسولي اللسان في صندوق النقد الدولي، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
صندوق النقد لا يريد إسقاط النظام
وبحسب "هآرتس"، يسهل فهم سبب إغفال السيسي لهذا الخطر. فعلى عكس الإسلاميين، لا يريد صندوق النقد الدولي إسقاط حكمه، وعلى عكس كتَّاب المدونات ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية، لا ينتقده أبداً على الملأ، أو يفعل ذلك بمصطلحاتٍ لطيفةٍ يجب أن تكون خبيراً في الأمور الفنية لكي تستوعبها. بل على العكس، حين كانت مصر والسيسي في أزمةٍ ماليةٍ طاحنةٍ منذ ثلاث سنوات، جاء صندوق النقد الدولي بقرضٍ بقيمة 12 مليار دولار كانت البلد في أمسِّ الحاجة إليه.
ونتج عن ذلك تغيرٌ ملحوظٌ طرأ على الاقتصاد المصري، بالمقارنة قطعاً بالسنوات العجاف التي تلت إطاحة حسني مبارك. إذ نما إجمالي الناتج المحلي المصري بنسبة 5.6% في السنوات المالية الأخيرة، ومن المرجَّح أن يظل ثابتاً أو يزيد خلال العامين المقبلين. وقد انخفضت نسبة البطالة، وصار معدل التضخم -الذي بلغ في مرحلةٍ ما 33% على أساس سنوي- الآن "بالكاد" 8.7%. علاوةً على تراجع عجز ميزانية الحكومة في ديونها الخارجية بالنسبة إلى حجم الاقتصاد.
هذه هي المقاييس التي يهتم بها مستثمرو الأسواق الناشئة واقتصاديُّو صندوق النقد الدولي قبل أي شيءٍ آخر في العالم النامي.
شروط الصندوق القاسية
لكن صندوق النقد يشتهر بفرضه شروطاً قاسيةً. في حالة مصر، كان قرض الـ12 مليار دولار رهناً بتحرير أسعار الصرف، وتخفيض دعم الوقود والغذاء، وخصخصة الشركات، وفرض ضرائب جديدة. وقد لبَّى السيسي معظم ما طُلِب منه وتقاضت مصر الأسبوع الماضي من صندوق النقد آخر دفعةٍ من القرض بقيمة ملياري دولار.
إنها عملية مؤلمة، لكن هدف صندوق النقد هو منع وقوع كوارث على المدى البعيد مثلما حدث مع اليونان أو الأرجنتين. والمنطق هو أنه ينبغي عليك أولاً تحسين نظامك المالي، ثم ستنعكس المنافع على سائر النواحي الاقتصادية، ويعمُّ الخير على الجميع.
لكن المشكلة في حالة مصر هي أن بعد مضيِّ ما يقرب من ثلاث سنوات، لم يتحقَّق حتى الآن النصف الثاني من قصة النجاح.
أسوأ مما قبل الربيع العربي
ظهر أحد أكثر الإحصاءات دلالةً بعد وصول آخر دفعات صندوق النقد. إذ كشفت الحكومة عن وصول نسبة المصريين تحت خط الفقر إلى 32.5% العام الماضي، بعد أن كانت 27.8% في عام 2015، قبل عامٍ من تطبيق برنامج صندوق النقد. وهذا فقرٌ مدقعٌ لأن الحكومة تحدِّد خط الفقر عند 1.40 دولار فقط يومياً، أي أقل بخمسين سنتاً عن معايير البنك الدولي.
تعاني الطبقة الوسطى هي الأخرى، وقد يمثِّل هذا تهديداً أكبر من وجهة نظر السيسي، لأن الثورة من المرجَّح أن تأتي من تلك الطبقة بالذات. فالعام الماضي، كاد معدل البطالة بين الشباب يبلغ الثلث، أي أكثر مما كان عليه عشيَّة الربيع العربي.
يمكن إلقاء اللوم في معاناة الطبقتين الفقيرة والوسطى على صندوق النقد، لأن تحرير سعر الصرف نتج عنه خفضٌ حادٌّ في قيمة العملة وزيادة في معدل تضخمٍ بأكثر من 10%. ورفعت تخفيضات الدعم أسعار السلع المنزلية الأساسية وقلَّصت تخفيضات الميزانية حجم الإنفاق على الصحة والتعليم.
المواطن يدفع الثمن
وربما كان هذا ثمناً معقولاً يتحمله الشعب لو كان هناك نموٌّ في الاقتصاد المصري انعكست آثاره على المواطنين. لكن الانتعاش الاقتصادي كان لصفوة الـ1% أكثر من أي أحدٍ آخر. وهذا سيناريو يبدو مشابهاً إلى حدٍّ مأساويٍّ بالسيناريو الذي وقع في السنوات السابقة 2011. فبفضل عددٍ من الإصلاحات التي أُجرِيت على السوق الحرة، كانت الأرباح الاقتصادية أقوى حتى مما هي عليه الآن، لكن لم تكن المنافع تصل إلى معظم المصريين، بحسب الصحيفة الإسرائيلية.
من أهم طرق عمل الاقتصاد التوسعي هي الصادرات. كان المفترض لخفض قيمة الجنيه المصري أن يؤدِّي إلى قفزةٍ في حجم الصادرات، التي كانت لتخلق وظائف وتساعد في تسديد القرض الذي حمَّلت الدولة نفسها ديوناً أخرى لتسديده بالاقتراض من البنك الدولي وفي الأسواق الدولية. لكن رغم ارتفاع صادرات الطاقة بفضل اكتشاف احتياطياتٍ بحرية، فهناك ركودٌ في الصادرات الأخرى.
يبدو أن المشاكل الاقتصادية في مصر أعمق من تحسين أوضاع مصادرها التمويلية.
فما زال الاقتصاد خاضعاً لرقابةٍ مشددةٍ، ويتفشَّى فيه الفساد، وصارت إمبراطورية أعمال الجيش أكبر وأكثر تحصيناً من أي وقتٍ مضى. ولا توجد فرصةٌ لتعلن دوافع ريادة الأعمال في مصر عن نفسها. وإذا كنت تعجز عن إنشاء شركةٍ، فلم لا تبدأ ثورة؟
صحيحٌ أنه من السطحيِّ بعض الشيء أن نقول إن مئات الآلاف من المصريين قد نزلوا إلى ميدان التحرير في يناير/كانون الثاني 2011 لأنهم لم يجدوا وظائف، ولم يروا مستقبلاً أمامهم، وكانوا يقضون أيامهم في إحباط مستمر. لكن على الجانب الآخر، لم يأتِ دخان المظاهرات التي سرعان ما أسفرت عن عزل مبارك بلا نار.
يبدو أن السيسي كان مستعداً لأخذ علاج صندوق النقد؛ لأنه لم يملك خياراً آخر. وكان ينبغي أن يأتي الشفاء من إصلاحاتٍ حقيقيةٍ في السوق الحرة، ولكن بدلاً من ذلك نجد أن جهات الدولة الأمنية هي من توزِّع العلاج. والتشخيص المبدئي سيئٌ للغاية.