تحولت إدلب إلى معضلة عسكرية وسياسية بالنسبة لروسيا تحديداً، بعد أن تشابكت الأوراق وعجزت قوات النظام السوري المدعومة روسياً من تحقيق انتصار عسكري بدا مضموناً عندما انطلقت المعركة قبل أشهر، فما هي الخيارات المتاحة أمام موسكو؟
موقع المونيتور الأمريكي نشر تقريراً بعنوان "ما هي الخطوة التالية لروسيا في إدلب؟"، تناول فيه الخيارات الروسية للخروج من المأزق.
كان وقف إطلاق النار الذي اقترحه النظام السوري في منطقة خفض التصعيد في إدلب إحدى النتائج الرئيسية لجولة أستانا الثالثة عشرة من المحادثات بشأن القضية السورية في العاصمة الكازاخية نور سلطان. وتغطي منطقة خفض التصعيد في إدلب أجزاء من محافظات حلب وحماة واللاذقية بالإضافة إلى إدلب نفسها. وقد أيَّدت روسيا وتركيا وإيران، وهي الدول التي تضمن الالتزام بعملية أستانا، هذا الإجراء. وكذلك وافقت جماعات المعارضة السورية، وهيئة تحرير الشام، على الالتزام بوقف إطلاق النار.
ومن جانبه، قال الجنرال أليكسي باكين، رئيس المركز الروسي للمصالحة بين الأطراف المتحاربة، عقب المحادثات: "من أجل تحقيق استقرار الوضع في الجمهورية العربية السورية ودعم القمة الدولية بشأن حل القضية السورية التي عُقِدَت في إطار عملية أستانا في نور سلطان، اتخذ الرئيس السوري بشار الأسد قراراً بوقف القتال وأي اعتداءات في منطقة خفض التصعيد بإدلب تماماً اعتباراً من الساعة 12 مساءً في 2 أغسطس/آب من عام 2019. ورداً على المبادرة السورية، من المتوقع أن يلتزم الجانب التركي بتنفيذ تعليمات اتفاقيات سوتشي بأكملها، وإخراج الجماعات المسلحة وأسلحتها من المنطقة منزوعة السلاح، وإيقاف إطلاق النار وفتح الطريق السريع بين دمشق وحلب في غضون 24 ساعة" .
مطالب يستحيل تنفيذها
لكنَّ مهلة الـ24 ساعة وطبيعة المطالب تجعلان تنفيذها يكاد يكون مستحيلاً. ويبدو أنَّ السوريين والروس كانوا يريدون فقط ضمان احتفاظهم بالحق في إعادة شنِّ هجوم كامل حين يرون أنَّ ذلك ضروري.
يُذكَر أنَّ جيش النظام السوري قصف بلدات كفرزيتا واللطامنة والزكاة وخان شيخون في شمال حماة وجنوب إدلب يوم الإثنين الماضي 5 أغسطس/آب، وكذلك ذكر النظام السوري أنَّه سيستأنف عملياته البرية في بقية أنحاء إدلب بعد نهاية عيد الأضحى (الذي سيبدأ في يوم 11 وينتهي في 15 أغسطس/آب الجاري) إذا لم ينسحب المتشددون المتطرفون من المنطقة منزوعة السلاح التي يبلغ طولها 20 كيلومتراً.
وبعد وقت قصير من الغارات التي شنَّها النظام السوري، أعلن الجيش الروسي وقوع هجماتٍ على قاعدة حميميم التابعة له في محافظة اللاذقية، زاعماً أنَّها نُفِّذت بأيدي مسلحين متركزين في إدلب.
العودة لاتفاق سوتشي؟
ومن أجل تنفيذ اتفاقيات سوتشي، قد تشن تركيا حملة عسكرية على مقاتلي هيئة تحرير الشام بالاستعانة بجماعات المعارضة السورية. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ الحملة التي شنَّها النظام طوال فصلي الربيع والصيف في المناطق الشمالية من محافظة حماة ساعدت جماعات المعارضة المعتدلة على استعادة المناطق التي فقدوها في إدلب في أوائل العام الجاري أمام هيئة تحرير الشام.
وقال عمر أوزكيزيلسيك، المحلل في مركز مؤسسة البحوث السياسية والاقتصادية والاجتماعية SETA الذي يقع مقره في العاصمة التركية أنقرة، إنَّ القتال الدائر في ريف حماة، الذي انضمت إليه بعض فصائل الجيش السوري الحر، الذي حظي بتدريبٍ تركي، في عفرين ومناطق درع الفرات، قوَّض قدرة هيئة تحرير الشام العسكرية وقدرتها على نشر البيانات والخطابات.
وقال أوزكيزيلسيك في مقالةٍ نشرها معهد الشرق الأوسط الذي يقع مقره في واشنطن: "من الناحية التكتيكية، اضطرت جماعة (هيئة تحرير الشام) للسماح لخصومها بدخول إدلب من أجل التصدِّي للنظام، مما كسر سيطرتها وأضعف هيمنتها. لقد فشلت المحاولة الأولى لتنفيذ اتفاق سوتشي (بين روسيا وتركيا)، لكنَّ هذا ينبغي ألَّا يحول دون المحاولة مرةً ثانية، لا سيما مع إشارة تركيا إلى تصميمها على التنفيذ" .
وأضاف أوزكيزيلسيك أنَّ فصائل الجيش الحر، إلى جانب الجبهة الوطنية للتحرير التي تدعمها تركيا، يمكن أن توازن قوة هيئة تحرير الشام في إدلب "وإجبار المتطرفين على الخروج من المنطقة منزوعة السلاح" .
بيد أنَّ تحقيق هذا السيناريو قد يستغرق عدة أشهر، وعلاوة على ذلك، يبدو أنَّ إشراك جزء كبير من قوات الجيش الحر في المخطط أمر صعب، نظراً إلى أنَّ أنقرة وواشنطن تواصلان مفاوضاتهما الخاصة حول إنشاء منطقة عازلة في شمال غرب سوريا، وإذا تحقق ذلك، فمن المفترض أن يؤدي الجيش الحر دوراً مهماً في حمايتها. ولن تكفي الاستعانة بفرقةٍ محدودة من قوات الجيش الحر في إدلب.
ولكن بالرغم من التفاقم الحاد الذي يشهده التصعيد في الوقت الحالي، هناك بعض الحقائق التي تعطي سبباً نفترض أنَّ موسكو ودمشق مهتمتان بتقليل حدة القتال في إدلب في الوقت الراهن. ومع أنَّ وقف إطلاق النار الأخير لم يدم طويلاً، فمن المرجح أن يمتنع النظام السوري عن شن عمليات برية أخرى واسعة النطاق، لا سيما أنَّ هذا الهجوم الأخير لم ينجح كما كان مخططاً له.
حملة عسكرية فاشلة
فمن وجهة نظر النظام، كانت نتائج الحملة العسكرية التي استمرت ثلاثة أشهر في شمال حماة سيئة إلى حدٍّ ما، واتضح أنَّ الخسائر كانت باهظة، إذ شنَّت فصائل المعارضة في إدلب، بتعزيزاتٍ من قوات الجيش الحر، عدة هجمات مضادة ناجحة، بل ونفَّذت اعتداءاتٍ هجومية كذلك. وبعد ذلك، سعت موسكو إلى الخروج من المأزق الذي وقعت فيه مع حليفها النظام السوري.
فهل من الممكن أن تكون أنقرة قد سمحت لروسيا وشركائها بإنهاء الحملة في ثوب المُنتصر؟ ربما مارس الجانب التركي ضغوطاً على قوات المعارضة قبل اجتماع أستانا الأخير، مما أجبرهم على التنازل عن بلدتي تل ملح والجبين لقوات النظام التي فقدت سيطرتها عليهما في أوائل يونيو/حزيران الماضي بعد هجومٍ مضاد فعال شنَّته جماعات المعارضة. وقد ظل الجيش السوري يحاول استعادة البلدتين دون جدوى حتى 28 يوليو/تموز الماضي. لذا يُمكن القول إنَّ استعادة سيطرة النظام على البلدين قد سمحت لدمشق وموسكو بالموافقة على الحدِّ من التصعيد في إدلب مع حفظ ماء وجههما.
مشكلة اللاجئين
وفي الوقت نفسه، ومع أنَّ الجانب التركي نجح في الحفاظ على خط المواجهة في إدلب وتجنُّب خسارة مناطق كبيرة بدعم المعارضة المعتدلة، واصلت القوات الجوية الروسية والسورية قصف مدن المنطقة وأحيائها، مما يشكل مخاطر كبيرة على أنقرة، إذ قالت مصادر محلية تحدثت إلى موقع Al-Monitor، دون الكشف عن هويتهم، إنَّ المدنين في إدلب أصبحوا على حافة اليأس، وإذا استمر القصف، فمن المحتمل أن يتسبب الوضع في تدفُّق أعدادٍ كبيرة من اللاجئين إلى تركيا قد لا تتمكن أنقرة من منعهم. وعلاوة على ذلك، فقضية اللاجئين تُصبح أكثر حساسيةً تدريجياً للأجندة الداخلية للحكومة التركية.
ومع أنَّ قضية تدفق اللاجئين على وجه الخصوص تدفع الجانب التركي إلى مواصلة دعم سيطرة المعارضة على إدلب، فإنَّ هذه "نقطة ضعف" يمكن أن تستغلها موسكو ودمشق في حملتهما العسكرية المقبلة. ومع أخذ تجارب عملية حماة في الاعتبار، فقد يتخلى القادة العسكريون الروس والنظام السوري عن محاولات توسيع نطاق السيطرة البرية على أجزاء معينة من منطقة خفض التصعيد، مع قصر تحرُّكاتهم على "هجومٍ جوي" جديد على إدلب.
وهذه الاستراتيجية ستُجبر أعداداً كبيرة من اللاجئين على التحرُّك نحو الحدود السورية التركية، مما سيُشكِّل ضغطاً على أنقرة. وفي الوقت نفسه، سيتعين على تركيا وقف الدعم العسكري لمقاتلي المعارضة ونقل مواقع المراقبة التابعة لها إلى عمق منطقة خفض التصعيد. ثم يمكن أن يسيطر الجيش السوري على المناطق اللازمة لإعادة تشغيل حركة المرور على طريقي M4 وM5 السريعين بين حلب ودمشق واللاذقية. وإذا تحقَّق هذا السيناريو، قد تتقلَّص المناطق التي تسيطر عليها قوات المعارضة وتحميها تركيا إلى مجرَّد قطعة أرض طولية لا يتجاوز طولها 30 متراً في شمال منطقة خفض التصعيد وشمال غربها، وتتضمَّن المدينة المركزية في المحافظة.
ضغط أممي يعرقل خطط روسيا
وفي الوقت نفسه، قد تُسفر المبادرة التي طرحها الأمين العام للأمم المتحدة في أول الشهر الجاري أغسطس/آب عن تعطيل أي هجومٍ جوي جديد تُخطِّط موسكو ودمشق لشنِّه على إدلب. إذ اقترح الأمين العام تشكيل لجنةٍ للتحقيق في "ملابسات تدمير، أو توجيه ضرباتٍ إلى المُنشآت المدرجة في قائمة منع الاشتباك التي تعمل تحت رعاية الأمم المتحدة" في منطقة خفض التصعيد. ومن الواضح أنَّ اللجنة ستُركِّز على المنشآت المدنية التي تضررت من الغارات التي شنَّتها القوات الجوية الروسية والسورية.
ومن ثَمَّ، يُمكن القول إنَّ الوضع في إدلب ينطوي على العديد من التهديدات للنظام السوري وحليفته روسيا، لذا يمكننا توقُّع إجراء مزيدٍ من المشاورات الروسية التركية اللازمة لوضع حلول جديدة مناسبة للظروف المتغيرة. وعلاوة على ذلك، من الممكن أن نشهد توصُّل إلى اتفاقٍ آخر بشأن إدلب بحلول موعد انعقاد القمة القادمة لرؤساء الدول الثلاث المشاركة في محادثات أستانا المُقرَّر إجراؤها في الشهر المقبل سبتمبر/أيلول.