تدور زجاجات المياه في سيورٍ بمصنع مياه "بيرين" في العاصمة السعودية الرياض، فيما تتجمَّع بِركة صغيرة من المياه على الأرض الخرسانية. وفي مخزنٍ ثانٍ بالمصنع، تُصدِر الخزانات طنيناً خافتاً، بينما تُسحَب المياه من الآبار الجوفية الثمينة لتمرّ بعملية تنقية تتكون من ست مراحل قبل تعبئتها في زجاجات.
يقول أحمد سفر الأسمري لصحيفة The Guardian البريطانية، الذي يدير أحد مصنَعي شركة بيرين في الرياض: "في السعودية، هناك مصدران للمياه فقط: البحر والآبار العميقة. نحن في وسط البلاد، لذا لا يوجد هنا سوى الآبار العميقة" .
ربما ليس مستغرباً أن يكون هذا رأي شخصٍ يكسب قوت عيشه من بيع المياه، إذ يؤكد الأسمري أنَّه لا يقلق بشأن مستقبل مخزون المياه في السعودية. ويقول: "تُظهر الدراسات أنَّ احتياطي المياه في بعض المناطق يكفي الاستهلاك لمدة 150 عاماً أخرى. في السعودية، لدينا احتياطيات كثيرة من المياه، ولا نعاني من أي مشكلةٍ في هذا الشأن" .
استنزاف بوتيرة سريعة جداً
ولا تتسق توقعات الأسمري الواثقة مع الحقائق، إذ تنبّأ خبيرٌ سعودي في مجال المياه الجوفية في جامعة الملك فيصل عام 2016، أنَّ المملكة تمتلك احتياطي مياه جوفية يكفيها فقط لمدة 13 عاماً أخرى.
كانت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) قالت في 2008 إن "موارد المياه الجوفية في السعودية تُستنزف بوتيرةٍ سريعة للغاية، تأتي معظم المياه من الطبقات العميقة الحاملة للمياه الأحفورية، وتفيد بعض التوقعات بأن هذه الموارد لن تدوم لأكثر من 25 عاماً" .
في بلدٍ يندر سقوط المطر فيه، فإنَّ عادة استنزاف المياه الجوفية، مثلما يفعل مصنع بيرين، قد تكون محفوفة بالمخاطر: تشكل المياه الجوفية نسبة 98% من المياه العذبة الموجودة بشكلٍ طبيعي في السعودية.
بالتأكيد، ربما يكون النفط قد بنى دولة السعودية الحديثة، لكن نقص المياه قد يُدمرها إذا لم يصلوا إلى حلولٍ جذرية.
وتبدو هذه الحالة الطارئة مستترة في الرياض، التي تنمو بها فقاعة عقارية، ويتعالى ارتفاع بنيانها، لينضمَّ إلى مجموعة من ناطحات السحاب الشاهقة.
المياه مهمة كدرجة أهمية النفط
رغم أن الجميع يعرف أن هذه المدينة القابعة في الصحراء تدين بوجودها إلى اكتشاف النفط في عام 1938، قليلون هم من يدركون أن المياه مهمة بالدرجة نفسها. وأدت جهودٌ امتدت لعقودٍ لزراعة الصحراء لإطعام سكان المدينة إلى ظهور مشروعات زراعية، تستهلك المياه بكثافةٍ مثل القمح، في أراضٍ مُنحت لأفرادٍ مفضلين لدى العائلة المالكة.
بينما يتشكك كثيرون في دقة التوقعات المتفائلة للمملكة بشأن احتياطات النفط لديها، قد يشكل الخطر المتوقع لنقص المياه مشكلةً أكبر. تستهلك السعودية ضعف المتوسط العالمي لاستهلاك المياه لكل فرد، إذ يبلغ متوسط الاستهلاك اليومي في السعودية 263 لتراً لكل فرد، وهو آخذ في الارتفاع وسط التغير المناخي الذي سيقلص احتياطات المياه أكثر.
محاولات خجولة لخفض استهلاك المياه
في مارس/آذار الماضي، أطلقت المملكة برنامج قطرة لمطالبة المواطنين بتخفيض استهلاكهم للمياه بشكلٍ جذري. وتهدف السعودية إلى خفض استهلاك المياه ليصل إلى 200 لتر للفرد يومياً بحلول عام 2020، و150 لتراً بحلول 2030.
وحاولت السعودية أيضاً إصلاح القطاع الزراعي المتعطش للمياه، عبر تقليص الحوافز الحكومية لزراعة الحبوب. غير أنَّ إجمالي مساحة الأراضي الزراعية لم ينخفض، إذ تحول المنتجون إلى المحاصيل الأكثر ربحاً، التي لا تزال تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه.
وبدأت شركة "المراعي"، وهي شركة كبرى متخصصة في المنتجات الغذائية، تشتري أراضي صحراوية في الولايات المتحدة، في مواقع بالقرب من مدينة لوس أنجليس وولاية أريزونا، وفي الأرجنتين أيضاً لزراعة البرسيم الحجازي، الذي يستهلك المياه بكثافةٍ، لإطعام أبقارها المنتجة للألبان.
ويهدف برنامج التحول الوطني السعودي، والمعروف أيضاً باسم رؤية 2020 -وهو جزٌء من مبادرة رؤية 2030 التي تهدف إلى تنويع الموارد الاقتصادية للمملكة بعيداً عن النفط- إلى خفض كمية المياه المستخرجة من الآبار الجوفية والمستخدمة في الزراعة. وتسعى إلى استخدام 191% من موارد المياه السالف ذكرها في الزراعة، بدلاً من مستوى استهلاك المياه الحالي في الزراعة والبالغ 416%.
وتقول ريبيكا كلير، من مركز ستراتفور الأمريكي، المتخصص في التحليلات الجيوسياسية والاستخباراتية: "يعني هذا أنَّ السعودية تستهلك في المتوسط أربعة أضعاف المياه المتجددة، وهذا وفقاً لرؤية 2020" . وتتابع ريبيكا، التي تقول إنها صُدمت عندما علمت بمعدل استهلاك البلاد من المياه: "يقيناً، هم يستخدمون مياه أحفورية، التي تتجدد بوتيرةٍ بطيئة للغاية. كان إجمالي حجم الاستهلاك المفرط ملحوظاً للغاية بالنسبة لي" .
تحلية مياه البحر حل باهظ التكلفة
لَطالما كان يُنظر إلى تحلية مياه البحر كبارقة أمل وسط خطر نقص المياه المتزايد في منطقة الشرق الأوسط. وتحتل السعودية الصدارة على مستوى العالم من حيث حجم تحلية المياه، وتدير حالياً 32 مصنعاً لتحلية المياه. وتشكل المياه المحلاة، مقارنةً بالمياه العذبة الموجودة بشكلٍ طبيعي، حوالي نصف حجم المياه المستهلكة في السعودية. وأما النصف الآخر فيجري استخراجه من المياه الجوفية.
غير أن هذه المياه المحلاة تأتي بتكلفةٍ مرتفعة من حيث حجم الطاقة المستهلكة. وفقاً لوكالة الطاقة الدولية، ساهمت عمليات التحلية في توفير 3% من إمدادات المياه في الشرق الأوسط في 2016، لكنها استهلكت 5% من إجمالي تكلفة الطاقة في المنطقة. ويقدر الباحثون في جامعة الملك عبدالعزيز في مدينة جدة ارتفاع الطلب على المياه المحلاة سنوياً بحوالي 14%، لكنهم أضافوا أن "تحلية المياه عمليةٌ مكلفة للغاية وغير مستدامة". وتلحق محطات تحلية المياه الضرر بالبيئة المحيطة أيضاً، إذ تنبعث ملوثاتها في الهواء، وتعرّض النظام البيئي البحري للخطر بسبب مياه صرفها.
إنشاء المنتجعات السياحية.. الاستهلاك سيزداد
وتعني الجهود الأخيرة الرامية إلى استخدام الطاقة الشمسية بدلاً من الوقود الحفري لتحلية المياه أنَّ أول مصنع تجاري يعمل بالطاقة الشمسية لا يتوقع تشغيله قبل عام 2021، رغم التقارير التي تفيد بتأخر وتيرة العمل عن الجدول المتوقع.
تقول ريبيكا إنَّ تطور استخدام السعودية لتكنولوجيا تنقية المياه قد يعدل أيضاً علاقتها بالدول الأخرى المجاورة لها في المنطقة، وخاصةً إسرائيل، مضيفة: "هم ينتجون أحدث تقنيات تحلية المياه، وخاصةً التقنيات المستخدمة في الإنتاج كبير الحجم. كما نرى لدى الدولتين العديد من الأهداف الجيوسياسية المشتركة المتعلقة بموقفهما من إيران، وهناك مجال أكبر لزيادة التعاون بينهما، ويعد قطاع المياه السعودي أحد المجالات التي قد تستفيد من هذا التعاون"، حسب تعبيرها.
يكمن التحدي الأصعب في تغيير عادات الاستهلاك لتجنُّب أزمة مياه وشيكة. وتمضي المملكة قدماً في تنفيذ مشروع البحر الأحمر، وهو مشروع سياحي تبلغ مساحته مساحة بلجيكا تقريباً، ويهدف إلى جذب مليون سائح سنوياً إلى شواطئها البكر، و50 فندقاً جديداً. وتعني هذه الإنشاءات العملاقة أن استهلاك المياه سيزداد، إذ تفيد توقعات حالية بأن سلسلة المنتجعات هذه سيبلغ حجم استهلاكها من المياه حوالي 56 ألف متر مكعب يومياً. تقول ريبيكا: "إنها (طبيعة) الصحراء. بالتأكيد تعد المياه قيداً طبيعياً" .