لا يزال تعامل السلطات الأمنية في مصر مع الحوادث التي يسقط فيها المدنيون بفعل عمليات إرهابية عصياً على الفهم، بسبب تضارب الروايات التي خرجت في الواقعة الأخيرة، فبعد الترويج أولاً لرواية التصادم بين سيارة ملاكي مسرعة أمام معهد الأورام في وسط القاهرة واصطدامها بثلاث سيارات ما أدى لانفجارها، خرج بيانٌ رسمي من قبل وزارة الداخلية، أثار التساؤلات من جديد مرة أخرى، فما هي القصة؟
روايات شهود العيان التي انتشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي منذ وقوع الانفجار المدوّي، قبل منتصف ليل الأحد-الإثنين، والعدد الكبير من الضحايا، والتدمير الذي أصاب واجهة مبنى معهد الأورام، وصوت الانفجار الذي أدّى لاهتزاز المباني، في دائرة قطرها كيلومتر على الأقل، كلها مؤشرات على أن ما حدث يستحيل أن يكون ناتجاً عن حادث تصادم سيارات بالمواجهة!
مواقع الصحف المصرية، وخصوصاً موقع اليوم السابع، ظلت تروج لرواية حادث السير عكس الاتجاه، نقلاً عن مصادر أمنية، لأكثر من 18 ساعة متواصلة، وكذلك القنوات الفضائية المصرية الحكومية والخاصة، والتي تكرر هذه الرواية قبل أن تأتي وزارة الداخلية بروايتها.
ظلَّت كلمة السر في الحادث المروّع هي "السير عكس الاتجاه، وهو ما نتج عنه التصادم، ومن ثَمَّ الانفجار" لساعات طويلة، رغم أن كل الشواهد تؤكد أن هناك تفجيراً ضخماً قد وقع، وهو ما ذكرته وزارة الداخلية أخيراً حوالي الساعة الخامسة بتوقيت القاهرة، أي بعد نحو 18 ساعة، فماذا قال بيان الداخلية:
"انتقلت الأجهزة المعنية وقامت بإجراءات الفحص والتحرّي وجمع المعلومات، حيث توصلت لتحديد السيارة المتسبِّبة في الحادث وتحديد خط سيرها، حيث تبيَّن أنَّها إحدى السيارات المبلَّغ بسرقتها من محافظة المنوفية منذ بضعة أشهر"، بحسب ما ذكره موقع "اليوم السابع" .
وأضاف: "كما أشار الفحص الفني إلى أنَّ السيارة كانت بداخلها كمية من المتفجرات، أدى حدوث التصادم إلى انفجارها"، ولفت البيان إلى أن التقديرات تشير إلى أن السيارة "كان يتم نقلها إلى أحد الأماكن لاستخدامها في تنفيذ إحدى العمليات الإرهابية" .
سيارة مسروقة منذ أشهر
بيان الداخلية يقول إن الفحص الفني للسيارة -بعد وقوع الانفجار- أثبت أنها "مبلغ عن سرقتها في محافظة المنوفية منذ أشهر"، وأنها كانت تحمل متفجرات، وأن "التصادم" هو الذي أدَّى لانفجارها، لكن الفيديو المنتشر للحظة وقوع الانفجار والمأخوذ من إحدى كاميرات المراقبة يُكذِّب رواية "التصادم" .
الفيديو يُظهر حركة المرور في شارع الكورنيش في محيط معهد الأورام، وتَظهر السيارة الركاب الصغيرة "الميكروباص" البيضاء تسير بطريقة عادية -وليس عكس اتجاه السير- ثم يَحدُث الانفجار، أي أن السيارة لم تكن تمشي عكس اتجاه السير، والانفجار لم يحدث نتيجة "تصادم"! (شاهد الفيديو واحكم بنفسك)
بيان الداخلية يقول أيضاً إن السيارة كان "يتم نقلها إلى أحد الأماكن، لتنفيذها في إحدى العمليات الإرهابية"، وكأن الانفجار الذي راح ضحيته 20 قتيلاً و42 مصاباً أغلبهم من أهالي مرضى الأورام القادمين من شتى المحافظات بحثاً عن العلاج المجاني لذويهم، لا يعتبر عملاً إرهابياً في حدِّ ذاته!
ولو افترضنا جدلاً أنَّ الانفجار وقع بطريق الخطأ في هذه النقطة لسبب أو لآخر، فإنَّ بيان وزارة الداخلية نفسه يمثل إدانة للأجهزة الأمنية، التي يُفترض أنَّها تكافح الإرهاب، فالسيارة مسروقة منذ أشهر في محافظة المنوفية، فكيف وصلت مُحمَّلة بالمتفجرات إلى هذه المنطقة الحيوية، والتي يوجد فيها عشرات الأهداف المحتملة لأي عمل إرهابي، من مبانٍ حكومية وسفارات أجنبية، أبرزها السفارتان الأمريكية والبريطانية؟
الانفجار وقع في الساعة الحادية عشرة ليلاً، وخط سير السيارة "الميكروباص" توجد به عشرات النقاط المرورية والأمنية، ومع ذلك وصلت للنقطة التي وقع فيها الانفجار، ولو لم تنفجر في تلك النقطة لوصلت لهدفها ووقعت العملية الإرهابية، وكان على الأرجح سيصدر البيان ذاته الذي أصدرته الداخلية.
تحديد الجهة والبدء في عمليات المداهمة
الغريب أنَّ بيان الداخلية حدَّد من خلال التحريات المبدئية وجمع المعلومات "الجهة التي تقف وراء الإعداد والتجهيز لتلك السيارة، استعداداً لتنفيذ إحدى العمليات الإرهابية بمعرفة أحد عناصرها"، وهي "حركة حسم التابعة لجماعة الإخوان"، التي تُصنِّفها القاهرة جماعةً إرهابية، ولو كان الأمر كذلك، فلماذا لم يتم التعامل مع تلك العناصر قبل وقوع الكارثة؟ السيارة مسروقة منذ أشهر كما قال بيان الداخلية وفي محافظة تبعد عن القاهرة بأكثر من مائة كيلومتر.
الأغرب هو انطلاق حملات المداهمة والقبض تزامناً مع صدور البيان، المناقض أصلاً للفيديو الذي رصد لحظة الانفجار، وهو ما يستدعي للذهن مشاهد القبض العشوائي على المواطنين، والزَّجّ بهم في المعتقلات دون تهم حقيقية، بحسب منظمات حقوق الإنسان العالمية.
وتكرار حالات التقصير الأمني بشكل واضح مع عدد كبير من العمليات الإرهابية، ورغم ذلك لا يحدث أي تغيير، سواء في بيانات وزارة الداخلية ورواياتها المتناقضة، أو في طريقة القبض على المتهمين الحقيقيين بهذه العمليات، بل جُل التركيز في مصر منذ 2013 ينصبُّ على ملاحقة كل من كان له دور في ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011، واعتقال الناشطين السياسيين، والزج بهم خلف القضبان في نفس الوقت، الذي يتجلى فيه التقصير الأمني بشكل كبير.