استغل اليمين المتطرف في فرنسا الاحتفالات الصاخبة التي أقامها مُشجّعي الجزائر، في باريس ومدن فرنسية أخرى، بعد الانتصارات الأخيرة، لتجديد خطابه المناهض للهجرة، ضارباً على وتر التوترات العميقة بشأن الهوية الوطنية والعلاقة المضطربة بين فرنسا والجزائر في أعقاب الاستعمار.
وضعَ وصول الجزائر والسنغال إلى الجولة النهائية من كأس إفريقيا كثيراً من الأمور على المحكّ في كلا البلدين؛ بالنسبة للسنغال كان بإمكان مباراة الجمعة الماضي أن تحقق أول فوزٍ بالبطولة للبلاد في تاريخها، في حين قد يعني الفوز انتصاراً قومياً بالجزائر في وقت تشهد فيه خلافاً سياسياً.
وكانت الجزائر والسنغال مستعمرتين فرنسيتين في الماضي، ولكن المُنتخب الجزائري ومظاهر التعبير عن حالة الفخر الجزائرية بكرة القدم برزت كأحداث عنيفة في فرنسا خلال كأس إفريقيا.
واستعمرت فرنسا الجزائر 132 عاماً، إلى أن فازت الجزائر في حرب الاستقلال الدموية عام 1962. وهاجرت حشود الجزائريين إلى فرنسا قبل تلك الحرب وبعدها.
ومن الصعب التوصُّل إلى رقم دقيق يُحصي الأشخاص الذين يعيشون في فرنسا من أصل جزائري، لأن القانون الفرنسي يحظر جمع البيانات الديموغرافية عن السلالة والعِرق.
ولكن في عام 2008، قدَّرت وزارة الداخلية الفرنسية عدد المواطنين الجزائريين، أو الذين هم من أصول جزائرية، بأكثر من 1.5 مليون نسمة. في حين قدَّر بعض الباحثين عددهم مؤخراً بما يتراوح بين أربعة وخمسة ملايين نسمة.
أتاح كأس إفريقيا فرصةً للجزائريين أو أحفادهم في فرنسا، للكشف عن تراثهم، فقد خرج أنصار المُنتخب الجزائري إلى شوارع باريس ومدن فرنسية أخرى بشكل جماعي بعد الانتصارات الأخيرة في البطولة، ونظَّموا احتفالات تحولت في بعض الأحيان إلى أحداث عنف.
وبعد فوز الجزائر في الدور قبل النهائي، تدفق المشجعون على الشانزليزيه بباريس خلال الساعات الأولى من صباح الإثنين الماضي، واقفين فوق السيارات المتوقّفة في الشارع وهم يهتفون ويلوّحون بأعلام الجزائر ذات الألوان الخضراء والبيضاء والحمراء، وأقاموا احتفالات مماثلة في مارسيليا وليون.
لكن التعبير عن التشجيع المفرط لكرة القدم أخذ منحى مغايراً، حين بدأ البعض بإلقاء الألعاب النارية والقذائف وإشعال النار في صناديق القمامة، بحسب ما ذكره موقع France 24. وقد واجهت شرطة مكافحة الشغب الحشود أمام قوس النصر، واعتقلت السلطات الفرنسية في نهاية المطاف 282 شخصاً على مستوى البلاد.
كيف استغل اليمين المتطرف هذه الأحداث؟
وجاءت تلك المصادمات في أعقاب موجة مماثلة من الاحتفالات والاعتقالات خلال الأسبوع الماضي، بعد تغلُّب الجزائر في مباراة الدور ربع النهائي على ساحل العاج. واستغل حزب "التجمع الوطني" اليميني المُتشدِّد، بقيادة مارين لوبان، حركة الاعتقالات في انتقاد مشجعي كرة القدم الجزائريين داخل فرنسا، باعتبارهم مناهضين لفرنسا وخطيرين.
وكتب الحزب في بيانٍ نشره الأسبوع الماضي: "بعيداً عن كونها مجرد مظهر من مظاهر فرحة مُشجّعي كرة القدم، كما وصفها غالبية المعلقين، فإنها حقاً مظاهرات لاستعراض القوة، والهدف منها الإشارة ظاهرياً إلى حجم وجودهم الهائل ورفضهم لفرنسا".
ورغم أن عديداً من المشجعين الجزائريين في فرنسا يحملون الجنسية الفرنسية، أو مزدوجو الجنسية، فإن السياسي اليميني المتطرف نيكولاس دوبونت آينان قال للتلفزيون الفرنسي، الجمعة الماضي، إنه يجب على مؤيدي الجزائر"العودة إلى الجزائر"، مردِّداً بذلك الإطار العنصري الذي استخدمه الرئيس ترامب مؤخراً ضد أربع نائبات بالكونغرس الأمريكي؛ وهو ما أسفر عن انتقادات كبيرة في الولايات المتحدة.
وقال دوبونت آينان: "لقد استضافتك فرنسا، وأطعمتك، وعلّمتك، واعتنت بك. لكن إذا كنت تفضل الجزائر، وإذا كانت الجزائر أفضل من فرنسا، فارجع إلى الجزائر".
وردَّ الجزائريون، والفرنسيون من أصل جزائري، بغضب، على تصريحاته، عبر موقع Twitter. إذ أشاروا إلى أن المهاجرين الجزائريين المقيمين بفرنسا يدفعون ضرائب للحكومة الفرنسية لتمويل برامج الدولة، وأن كثيراً من مُشجّعي منتخب الجزائر لكرة القدم وُلدوا في فرنسا.
وأصبحت التعبيرات المحتدمة عن الهوية الوطنية واضحةً بشكل خاص في ليلة الـ14 من يوليو/تموز، حين تزامنت مباراة نصف نهائي كأس إفريقيا مع يوم الباستيل، وهو يوم فرنسا الوطني.
وجرت الاحتفالات بالفوز الجزائري بمباراة كرة القدم، في الشوارع نفسها التي تصطف على جانبيها أعلام فرنسا ذات الألوان الثلاثة، وكان الجيش الفرنسي يقدِّم استعراضاً عسكرياً بالدبابات هناك قبل ذلك بساعات.
وقبل مباراة الـ14 من يوليو/تموز 2019، طالب حزب "التجمع الوطني" وزير الداخلية الفرنسي، كريستوف كاستانير، بحظر رفع العَلم الجزائري وإغلاق الشانزليزيه. ورفض وزير الداخلية من جانبه القيام بذلك، ولكن السلطات الباريسية عززت وجود الشرطة بالعاصمة في تلك الليلة.
وبحسب ما ذكرته صحيفة Le Parisien الفرنسية، أعلن رئيس شرطة باريس ديدييه لاليمنت، الأربعاء 17 يوليو/تموز 2017، أنه سينشر 2500 ضابط وشرطي -وهو العدد نفسه الذي نُشِر الأحد الماضي- تحسباً لما يعقب مباراة الجمعة.
وفي غضون ذلك، ناشد المدرب الجزائري جمال بلماضي، المشجعين بـ "احترام البلدان التي نعيش فيها"، قبل مباراة الجمعة التي نُظِّمت في القاهرة، وفقاً لما أوردته France 24.
ولطالما اعتُبر ملعب كرة القدم موقعاً للذعر بشأن الهوية الوطنية في فرنسا والجزائر؛ فاللاعبون من أصل جزائري أو من أصحاب الجنسية الجزائرية يرتدون ملابس زرقاء، للمشاركة في المنتخب الوطني الفرنسي، في حين اختار بعض المولودين بفرنسا الانضمام إلى المنتخب الجزائري بدلاً من ذلك.
ويعكس هذا التلقيح المتبادل الاختلاط بين الثقافات والخلفيات التي شكَّلت كلا البلدين منذ زمن الاستعمار.
إذ وُلِد زين الدين زيدان -الذي يعتبر أشهر لاعب كرة قدم فرنسي بالتاريخ الحديث- لأبوين جزائريَّين مهاجرَين في مارسيليا. وكان غالبية لاعبي منتخب فرنسا الفائز بكأس العالم، العام الماضي، من المهاجرين، وهي حقيقةٌ أشار إليها المعلقون بأنها علامةٌ على أن الهوية الفرنسية العالمية قد سادت.
أما الجزائر بدورها، فغالباً ما تملأ قائمتها بلاعبين مزدوجي الجنسية؛ إذ وُلِدَ كابتن المنتخب الجزائري رياض محرز، الذي أهّل هدفه الأحد الماضي، الفريق إلى المباراة النهائية، في فرنسا.
وحين اقترح سياسي محلي في حزب "التجمع الوطني" بمقاطعة بورجوندي، على تويتر، أن يدعم الفرنسيون نيجيريا في مباراتها ضد الجزائر في الدور نصف النهائي، لتجنُّب "العنف والنهب" و "فرصة رفع الأعلام الجزائرية"، وبَّخه "محرز" توبيخاً صفيقاً.
إذ كتب على حسابه بموقع تويتر، مرفقاً كلماته بوجوه مبتسمة: "كانت الركلة الحرة لأجلك. نحن معاً".