بعد 12 ساعة من التفاوض وقَّع المجلس العسكري الانتقالي في السودان وقوى إعلان الحرية والتغيير، أمس، بالأحرف الأولى على اتفاق سياسي يوضح مؤسسات الحكم ومهامها في الفترة الانتقالية التي تستمر ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، ولكن بقي كثير من كواليس وتفاصيل الاتفاق بين العسكري السوداني والمعارضة محاطاً بالغموض، وسط مخاوف من أن هذا الغموض قد يجدد الخلاف بين الجانبين.
ويوضح الاتفاق السياسي الذي يمثل حصيلة 50 يوماً من المحادثات عدداً من النقاط التي اتفق عليها المجلس وقوى التغيير في اتفاق تقاسم السلطة، الذي تم التوصل إليه في الخامس من يوليو/تموز الجاري.
وبحسب الاتفاق، يتشكل المجلس السيادي من 11 عضواً، بينهم خمسة عسكريين، يختارهم المجلس العسكري، وخمسة مدنيين يختارهم تحالف قوى إعلان الحرية والتغيير، بالإضافة إلى عضو مدني آخر يتفق عليه الجانبان.
ويحيل الاتفاق السياسي البتّ في بعض القضايا الخلافية على الإعلان الدستوري، الذي ينتظر أن يتم توقيعه يوم غدٍ الجمعة، بحسب ما أعلن الطرفان، ويتعلق الأمر بصلاحيات وسلطات مجلس السيادة ومجلس الوزراء.
واحتاج التفاوض بين المجلس العسكري وقوى الحرية والتغيير لساعات طويلة من المداولات والنقاش، في قاعة سرت بفندق كورنثيا بالخرطوم لصياغة الاتفاق السياسي.
وقالت مصادر مطلعة إنَّ الوسيطين الإفريقي والإثيوبي كانا مُصرين على عدم رفع المفاوضات، ما لم يخرج الطرفان باتفاق كامل حول الاتفاق السياسي.
أبرز النقاط التي لم يتم الاتفاق عليها أو يشوبها غموض
نسبة التمثيل في المجلس التشريعي
أبرز نقاط الخلاف التي استغرقت وقتاً طويلاً من النقاش، تلك المعنية بالسلطة التشريعية، وموضوع نسبة تمثيل القوى السياسية في المجلس التشريعي الانتقالي في ظل تمسك طرفي التفاوض بموقفهما، حيث تمسكت قوى الحرية بنسبة 67% من عضوية المجلس، ونسبة 33% للقوى الأخرى غير الموقعة على إعلان الحرية والتغيير، فيما تمسك العسكري بمراجعة النسب.
وبعد نقاش تم تثبيت موقف كل طرف في الاتفاق بعد تراجع العسكري عن عدم تضمينه.
من جهتها، أعلنت قوى الإجماع الوطني السودانية -وهي إحدى الكتل المكونة لقوى الحرية والتغيير- أنها رفضت المشاركة في جلسة المفاوضات مع المجلس العسكري الانتقالي، التي أفضت إلى توقيع الاتفاق السياسي.
وقال القيادي البارز في هذه القوى صديق يوسف، إن قوى الحرية والتغيير قدَّمت تنازلاً غير متفق عليه بين مكوناتها، يتعلَّق بمنح المجلس العسكري الحق في تعيين وزيري الدفاع والداخلية، مشيراً إلى أن ذلك يعد تراجعاً عمَّا تم الاتفاق عليه، قبل الثالث من يونيو/حزيران الماضي.
وأشار صديق إلى أن وثيقة الاتفاق السياسي لم تحسم نسب المجلس التشريعي، وأرجأت نقاشها إلى ما بعد تشكيل الحكومة الانتقالية، مما يعني إبعاد قوى الحرية والتغيير عن النقاش بشأن المجلس التشريعي، ويجعله من مهام الحكومة المرتقبة.
من يأخذ الدور التشريعي إلى حين تشكيل المجلس.. الحكومة أم السيادي
النقطة الثانية تعلقت بالآلية التشريعية البديلة لحين تشكيل المجلس التشريعي خلال 90 يوماً، حيث أصرَّ العسكري على أن يقوم مجلس الوزراء بالتشريع، فيما يكون للمجلس السيادي حق إجازة القوانين، وهو ما يمنحه (فيتو) تجاه أي تشريع، بينما شدَّدت قوى الحرية والتغيير على أن يتم التشريع عبر غرفة مشتركة بين السيادي والحكومة.
وبعد جدل طويل تراجع المجلس العسكري ليتم التوافق على المادة 17 من الفصل الثالث، المعنية بالتشريع باللجوء لاجتماع مشترك بين السيادي ومجلس الوزراء، لممارسة السلطة التشريعية، على أن يرفع التشريع لمجلس السيادة للاعتماد والتوقيع، ويعتبر التشريع سارياً بعد مرور 15 يوماً من إيداعه لمجلس السيادة.
وليس من الواضح ما الموقف إذا رفض المجلس التشريع.
لجنة التحقيق في الاعتصام.. بند فضفاض للاستعانة بالدعم الإفريقي
في الفصل الرابع سعت قوى الحرية والتغيير لجعل لجنة التحقيق المستقلة في فضِّ اعتصام وزارة الدفاع، في 3 من يوليو/تموز 2019، وما سبقه ولحقه من أحداث تحت إشراف الاتحاد الإفريقي كخطوة وسطى، بعد تراجعها عن لجنة التحقيق الدولية.
إلا أنَّ المجلس العسكري سعى لقطع الطريق أمامها، قبل أن يوافق على استعانة اللجنة بالدعم الإفريقي إذا اقتضت الضرورة.
وخرجت بالنص الذي يقول: "بعد تشكيل الحكومة الانتقالية تشكل لجنة تحقيق وطنية مستقلة، في أحداث العنف في الثالث من يونيو/حزيران 2019، وغيرها من الأحداث والوقائع التي تمَّت فيها انتهاكات وخروقات لحقوق وكرامة المواطنين، مدنيين أو عسكريين، ويجوز للجنة الوطنية أن تطلب أي دعم إفريقي إذا اقتضت الحاجة ذلك".
الوجه الآخر لحميدتي.. رجل المجلس العسكري المعتدل
نائب رئيس المجلس العسكري، الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ "حميدتي" كان له دور بارز في التوصل لهذا الاتفاق، بحسب ما ذكرته مصادر مطلعة لـ "عربي بوست" .
وقال المصدر لـ "عربي بوست" إنَّ حميدتي، الذي أمَّ المصلين لصلاة الفجر عقب نهاية إحدى الجلسات، ظلَّ طوال الجلسة يحاول التقريب بين وجهات النظر بين أعضاء وفد الحرية والتغيير والمجلس العسكري، لتجاوز النقاط الخلافية.
حتى أنه كان يقول لأحد أعضاء المجلس العسكري المتعنِّتين بالدَّارجة السودانية (مشيها، مشيها) أي دع تلك النقطة تمر.
ولعلّ النقطة الوحيدة التي فشل حميدتي في إجبار قادة المجلس العسكري على تمريرها، وقوى التغيير على التنازل عنها هي قضية النِّسب في المجلس التشريعي المقبل، ليضطر الطرفان إلى تضمين ضرورة مراجعتها في الفترة المقبلة، عقب الاتفاق على الإعلان الدستوري، وخلال فترة الثلاثة أشهر المقررة لتعيين المجلس التشريعي.
تواجُد سعودي مكثف
ووفقاً لمعلومات موثَّقة حصل عليها "عربي بوست"، فإن التواجد الدبلوماسي الخارجي والعربي تحديداً كان حاضراً، إلى حين الوصول لاتفاق كامل، إذ ظلَّ السفير السعودي بالخرطوم علي بن حسن مرابطاً داخل فندق كورنثيا طوال الليل وحتى صبيحة التوقيع، بل نقل مقر إقامته إلى الفندق بشكل شبه دائم، ودخل في اجتماعات مطولة مع الطرفين قبل بداية الجلسات، مشدداً على استعداد المملكة العربية السعودية لتكون سنداً للسودان.
وبحسب ما رصد "عربي بوست" فإن السفير السعودي إلى جانب عدد من الدبلوماسيين الغربيين ظلّا بين الحين والآخر يدخلان في نقاشات مع الوسيطَيْن الإفريقي والإثيوبي، للاطمئنان على سير المفاوضات، فيما ظلَّ أعضاء الوساطة ينخرطون في حوارات فردية مع أعضاء الوفدين على انفراد عند تعثر الوصول إلى نتيجة في إحدى النقاط، فيما يعمد أعضاء الوفد الآخرين للانزواء خارج ردهات الفندق لإجراء مكالمات هاتفية مطولة، على غرار الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري، الفريق شمس الدين كباشي، الذي كثيراً ما ظلَّ يستخدم الهاتف.
ضغوط دولية.. الأمريكيون مع العسكري في الأمني ومع الحراك بالسياسة
بعض المصادر أشارت إلى أن الوساطة الإثيوإفريقية لعبت دوراً كبيراً في تسهيل الاتفاق، عبر إسناد ودعم دبلوماسي كبير، تكلَّل بتوقيع الطرفين على الاتفاق.
وقالت إن المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، دونالد بوث، الذي وصل الخرطوم الإثنين، والتقى رئيس المجلس العسكري عبدالفتاح البرهان، وقيادات من المعارضة، أبلغ الطرفين بضرورة التوقيع، حيث تحدَّث مع العسكر بشأن مسألة الحصانة المطلقة الواردة في الاتفاق المقترح، وأنه لمس أنهم غير متمسكين بها.
وبرزت إلى السطح خلافات خلال الأسبوع الماضي، بسبب طلب المجلس العسكري منح حصانة قضائية لأعضائه.
ومن المنتظر أن يمكث بوث أياماً في الخرطوم، ثم يتوجه بعد ذلك إلى الرياض لاستكمال المشاورات مع القيادة السعودية، بشأن كيفية دعم السودان خلال المرحلة المقبلة.
وتسعى الولايات المتحدة لإيجاد تسوية توافقية، تكون فيها أقرب لتصورات العسكر في الشق الخاص بالمسؤولية الأمنية، بناء على التخوفات السابقة، فيما تغلب رؤية قوى الحرية والتغيير في المسائل المدنية والسياسية.
والاتفاق سيبقى حبراً على ورق إذا لم تتم هذه الخطوات
تشير مصادر مطلعة من قوى الحرية والتغيير، إلى أن التحالف بمكوناته المختلفة درس خلال الأيام الماضية المسودة، قبل أن يضع عليها ملاحظاته، ليتم تضمينها بالاتفاق، والتوقيع عليها بالأحرف الأولى.
وقال إن الملفات الكبرى تم حسمها في الاتفاق السياسي، وإنه لا يتوقع حدوث اختلافات في الجلسة القادمة من المفاوضات، إلا أن ذات المصادر تؤكد أن الاتفاق الحالي سيكون مجرد حبر على ورق، إذا لم يتم التوقيع على الوثيقة الدستورية والتوصل لتفاهمات مع الحركات المسلحة.