"مصريون يحملون علم الجزائر في شوارع القاهرة"، لو حدث هذا منذ عشر سنوات، لطوردوا في الشوارع من قبل الجماهير ولاتهموا بالخيانة من قبل أهاليهم وذويهم، فلماذا أصبح المصريون يشجعون الجزائر بهذه الحماسة؟.
بطبيعة الحال يميل المصريون في الأغلب لتشجيع الفرق العربية في كأس الأمم الإفريقية، ولكن اللافت أنه رغم وصول تونس والجزائر للدور قبل النهائي، كان كثير من المصريين يشجعون الجزائر بحماس أكثر حتى من تونس رغم العداء الكروي المرير بين البلدين الذي استمر لسنوات وجعل مباراياتهما تتحول إلى أزمات أمنية وسياسية تتورط فيها أحياناً بلدان أخرى.
حتى أن موقع المعرفة المشاعية ويكبيديا يخصص صفحة لما يسميه نزاع كأس العالم بين مصر والجزائر في 2009.جذور العداء الكروي بين مصر والجزائر
جذور العداء الكروي بين مصر والجزائر
لم يبدأ العداء الكروي بين البلدين العربيين الإفريقيين بمعركة أم درمان الشهيرة في 2009.
بل إنه أقدم من ذلك فقد برزت المشكلات الكروية بين البلدين في الثمانينيات، حيث وقعت اشتباكات بين الفريقين عام 1983 في مباراة باستاد القاهرة ضمن التصفيات المؤهلة لدورة الألعاب الأولمبية في لوس أنجلوس بالولايات المتحدة عام 1984.
وتأهلت مصر بعد أن أحرز لاعب نادي المقاولون علاء نبيل هدفاً لصالح المنتخب المصري.
وتعرف جماهير الجزائر جيداً نبيل بسبب هدفه الشهير في استاد القاهرة بجانب أحداث استاد عنابة حين أصيب من الجماهير في تصفيات كأس العالم 2002، يوم كان مساعداً للمدرب المصري الشهير محمود جوهري.
المفارقة أن علاء نبيل تنبأ في مقابلة صحفية قبل بداية بطولة كأس الأمم الإفريقية 2019 بأن فريقي الجزائر والسنغال سيصلان للنهائي، مشيداً بمدرب منتخب الجزائر.
مصر تتأهل على حساب الجزائر عام 1989 وأزمة الأخضر بلومي
في لقاء تاريخي آخر، تأهلت مصر على حساب الجزائر في عام 1989 إلى كأس العالم 1990 بعد أن أحرز اللاعب المصري الشهير حسام حسن هدفاً في مرمى الجزائر في مباراة الفريقين التي أقيمت في 17 نوفمبر/تشرين الثاني 1989 لتعود مصر إلى المونديال بعد 56 غياباً، وكالعادة أحيطت لقاءات الفريقين بالتوتر.
واُتهم اللاعب الجزائري الشهير الأخضر بلومي في ذلك الوقت بفقء عين طبيب مصري وأصبح مطلوباً من الإنتربول، وحرم من مغادرة الجزائر لفترة، بسبب هذا الاتهام قبل أن تتقادم الدعوى ويتدخل أطراف من الجانبين المصري والجزائري لحل القضية.
وسبق أن قال بلومي تعليقاً على هذه المشكلة"لن أزور مصر، ليس كحقد لي على هذا البلد الشقيق، بل أظل أعترف أن مصر تبقى أم الدنيا. ، أحب من أحب وكره من كره، واحترامي لشعبها وتاريخها الكبير لا يمكن وصفه، لكن السبب وراء عدم تنقلي إلى مصر، هو أن ما عشته من ظلم لن أنساه، لأنني قلتها وأقولها في كل مرة، ليس بلومي من اعتدى على طبيب المنتخب المصري، وإنما هو لاعب آخر، وأنا من دفعت الثمن.
ولكن التوتر الأكبر بين البلدين سيأتي بعد ذلك.
مباراة أم درمان.. أم المعارك الكروية التي تحركها أغراض سياسية
شكلت مباراة البلدين في أم درمان وما قبلها وبعدها أسوأ فصل في تاريخ البلدين الشقيقين، ووصلت دعوات التصعيد في الجانبين لمستوى خطير.
ورأى كثير من المحللين أن هناك جهات في الجانبين حشدت لأغراض سياسية.
إذ كان جمال مبارك نجل الرئيس الأسبق حسني مبارك يريد التمهيد لوراثة والده عبر اكتساب شعبية من كرة القدم والظهور بمظهر الأبطال في مواجهة الجزائريين.
كما أن الرئيس الجزائري الأسبق عبدالعزيز بوتفليقة كان يريد التغطية على عملية التمديد لولايته في الحكم ويريد أن يعيد للجزائر دورها الإقليمي بعد خروجها من العشرية السوداء.
الإعلام لا يرى إلا ضحاياه.. هنا نشأ سيناريو التحريض الذي سينتشر لاحقاً
وقدمت المباراة نموذجاً واضحاً للدور السلبي الذي يلعبه الإعلام في عصر كان قد بدأ فيه للتو مظاهر الإعلام الجديد من قنوات وصحف خاصة ومواقع إلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي.
وكانت الأزمة نموذجاً واضحاً لكيف يمكن أن يرى الإعلام نفس الحدث بعدسات مختلفة تماماً.
وكانت المباراة الأخيرة في المجموعة التي أقيمت على استاد القاهرة في 14 نوفمبر/تشرين الثاني 2009 ، قد انتهت بفوز منتخب مصر 2-0 مما استلزم إقامة مباراة فاصلة بينهما في بلد محايد وقد تم اختيارأم درمان بالسودان في 18 نوفمبر/تشرين الثاني والتي انتهت بفوز الجزائر 1-0 وتأهلها إلى بطولة كأس العالم في جنوب أفريقيا، ولكن بعد أزمة كبيرة بين البلدين.
إذ يقول باحث إعلامي مصري لـ"عربي بوست" تمثل مباراة القاهرة ومن بعدها مباراة أم درمان نموذجاً لازدواجية التغطية الإعلامية التي سنراها لاحقاً بشكل أوسع في المنطقة، ازدواجية بدأت بظلم الأشقاء من خارج الوطن لتظلم بعد ذلك الأشقاء داخل الوطن.
فقبل مباراة أم درمان وقعت أحداث لجماهير الجزائر في مصر التي جاءت للقاهرة لحضور مباراة الفريقين.
إذ وقعت مناوشات ومشكلات محدودة، ولكن الإعلام الجزائري هول مما حدث وأشاع أخباراً عن وفاة مشجعين جزائريين، ولم تستطع السفارة الجزائرية بالقاهرة نفي الأمر لأن تأكيد عدم وفاة مشجعين يحتاج لمراجعة كل المستشفيات المصرية.
وقبل التأكد من عدم صحة الخبر كان الرأي العام الجزائري قد اشتعل حتى ضد السفير الجزائري في مصر في ذلك الوقت عبدالقادر حجار.
في المقابل، فإن الإعلام المصري لم يتحدث البتة عما حدث لجماهير الجزائر في القاهرة.
وتكرر نفس الشيء في أم درمان بشكل معاكس بالغ الإعلام المصري في وصف أحداث السودان، واصفاً ما حدث بأنه مجزرة وأن الجزائر أرسلت فرق كوماندوز وليس مشجعين.
وقال جمال مبارك نجل حسني مبارك وأمين لجنة السياسات في الحزب الوطني في ذلك الوقت إن تصرفات الجزائريين في الخرطوم تم الترتيب لها.. ولن نتهاون في حقوق المصريين.
أما علاء مبارك الذي كان ينظر له أنه عازف عن السياسة فقد كان موقفه أكثر حدة.
إذ قال في اتصال هاتفي أجراه مع برنامج رياضي إنه يتحدث علاء مبارك "كمواطن مصري فقط"، ووصف علاء مبارك الجمهور الجزائري الذي حضر المباراة في ملعب أم درمان بأنه ليس جمهور كرة قدم، وقال إن المشجعين كانوا قادمين على متن طائرات عسكرية جزائرية حطت في مطار الخرطوم وأن انطباعه أنهم كانوا "عساكر".
والمفارقة فإنه وفقاً لهذا الباحث الإعلامي فإن عدد إصابات جماهير الجزائر في القاهرة التي ضخمها الإعلام الجزائري وتجاهلها الإعلام المصري كان في حدود الثلاثين مصاباً (من الواضح أن أغلبها خفيفة).
وأيضاً عدد الإصابات فيما وصف بمذبحة أم درمان هي نحو 30 مصاباً مصرياً أو أكثر قليلاً (من الواضح أنها أيضاً كانت خفيفة).
وأيضاً في أم درمان أشعر الإعلام المصري جماهيره أن المصريين يذبحون في الشوارع مثلما فعل الإعلام الجزائري في مباراة القاهرة.
ويقول صحفي رياضي مصري كان موجوداً في أم درمان لـ"عربي بوست" "مشكلة ما حدث في أم درمان أن جماهير الجزائر كانت جماهير كرة قدم تقليدية بما فيها من ميل للشغب والاحتكاك، أما الجمهور المصري الذي ذهب للسودان فقد كان جمهوراً نخبوياً من الفنانين والنجوم والسياسيين صدمته أساليب جمهور كرة القدم الجزائري، التي قد تكون أكثر حدة من جماهير كرة القدم في مصر ولكن لا تختلف عنها كثيراً، فكانت النتيجة هذه الفوضى التي سميت زوراً بمذبحة أم درمان.
هل مهدت الفتنة الكروية المصرية الجزائرية للربيع العربي؟
رغم أنه يعتقد على نطاق واسع أن هذه الفتنة وراءها أجنحة في السلطة في البلدين ، إلا أنها جاءت بنتيجة سلبية على هذه السلطات في الأغلب خاصة في مصر.
فبسبب هذه الفتنة، حدثت تغيرات في طبيعة تصرفات الشارع المصري.
إذ أدى الغضب إلى احتشاد الشباب في محاولة لاقتحام شارع البرازيل بالزماك الذي توجد فيه السفارة الجزائرية بالقاهرة، وألقى الشباب الغاضب الحجارة وأحياناً شعلات نار على الشرطة التي تحاول منعه من دخول الشارع.
كان هذا بمثابة بروفة لاحتكاك المحتجين بالشرطة، وتحت مظلة الحماسة الوطنية الكروية الهوجاء سمح النظام للغضب أن يخرج بشكل لم يكن مسموحاً به في السابق.
كما يرجح أن هذه الحماسة الجماهيرية قوت من روابط المشجعين التي تعرف بالألتراس التي لعبت دوراً كبيراً في ثورة يناير 2011.
الربيعان العربيان الأول والثاني يقربان الأجيال التي تقاتلت في الشوارع
ظلت مباراة أم درمان ماثلة في أذهان المصريين والجزائريين لسنوات، ولكن جرت مياه كثيرة في هذه السنوات خففت من التوتر الجماهيري بين البلدين بل قلبت العلاقة في النهاية لتعاطف لافت.
وكان لافتاً أنه رغم التوتر بين البلدين تمتع اللاعب المصري محمد أبو تريكة بشعبية طاغية في الجزائر، شعبية جعلت الجمهور الجزائري مثله مثل جمهور منتخبي تونس والمغرب يهتف باسمه في الدقيقة 22 في مباريات كأس الأمم الإفريقية 2019 في وقت يخشى الكثير من أفراد الجمهور المصري من عاقبة النطق باسم اللاعب المحبوب.
كانت طول السنين كفيلاً بتقليل التوتر، ولكن أيضاً التقلبات السياسية التي مر بها البلدان ساهمت في تغيير المزاج الكروي.
فالجيل الذي خاض معارك التعصب الكروي في شوارع القاهرة وأم درمان والجزائر، هو الذي خرج في ثورة يناير أبرز ثورات الربيع العربي.
ورغم أن الجزائر لم تنل نسختها من الربيع العربي الأول بسبب مخاوف الجزائريين من الفوضى، إلا أن هذا لم يمنع الجزائريين من التعاطف مع ثورات العربي مثل مصر وتونس وغيرها.
ثم أطلق الجزائريون ما يمكن أن نسميه النسخة الثانية من الربيع العربي بعد رفضهم لترشح رئيسهم الكهل للرئاسة.
واللافت في الحراك الجزائري أنه يضع في اعتباره دوماً عدم تكرار أخطاء الثورة المصرية.
إذ تبدو مصر موجودة في خلفية أي حدث في الجزائر، واللافت أن محاولة الجزائريين تجنب أخطاء ثورة يناير، والتأكيد على ذلك في تظاهراتهم، لا يغضب النشطاء المصريين بل إن هؤلاء بدورهم يقدمون العديد من النصائح لأقرانهم الجزائريين لعلهم يتجنبون مصيرهم.
لماذا أصبح المصريون يشجعون الجزائر بهذه الحماسة؟
وإذا كان طول السنين والسياسة قد خفف التوتر الكروي بين جماهير البلدين فإن هناك عاملين ضاعفا من تعاطف جمهور مصر مع منتخب الجزائر.
الأول هو الأداء السيئ للمنتخب المصري الذي صدم الجماهير وازداد الغضب جراء سلوكيات لاعب مثل عمرو وردة أو الإعلان الاعتذار الذي سجله لاعبو المنتخب وتسرب حسب الشركة المنتجة له.
في المقابل، أثار الأداء الجميل لمنتخب الجزائر حماس المصريين، الذين رأوا فيه منتخباً عربياً يقاتل من أجل الفوز بطريقة كان يتوقعونها من منتخب بلادهم.
ولذا لم يكن غريباً أن يتحول اللاعب الجزائري رياض محرز للنجم المفضل للمصريين في البطولة وأن يتقدم اللاعب المحترف بمانشستر يونايتد ليحيي الجمهور المصري الذي كان يشجع فريقه في مباراة الجزائر ونيجيريا التي انتهت بفوز الجزائر 2/1.
فبعد سنوات العراك الكروي تبين للجمهور المصري والجزائري الحقيقة التي أخفاها الإعلام لعشر سنوات أو يزيد وهو أن ما يجمع الجمهورين أكثر مما يفرقهما.
كلاهما يحب أبو تريكة، ويستمع لأم كلثوم، ويعشق عبدالحليم، وكلاهما يتطلع لوطن أفضل، وطن يمنحه حق أن يختار ممثليه ورؤساءه، وطن يوفر له فرصة عمل تغنيه عن الهجرة في قوارب الموت ليجابه إذا نجا من الغرق العنصرية الأوروبية المتفاقمة.
ما قد غُيب عن جمهور الفريقين أنهما يجمعهما تاريخ من النسب والدماء والكفاح أكبر مما قد يتخيلان.
فملايين المصريين تنتهي جذورهم لأصول جزائرية والعكس صحيح، إذ لم تتوقف حركات الهجرة الواسعة للقبائل العربية والأمازيغية بين البلدين لمئات السنين.
والكفاح والدماء في العصر الحديث تحلى واضحاً في مساعدة مصر وغيرها من الدول العربية للجزائر في ثورتها ضد فرنسا وصولاً للوقفة الجزائرية الشهيرة بجوار مصر وسوريا بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 وفي دماء الجنود الجزائريين التي سالت مع إخوانهم المصريين في معركة الأدبية بمدينة السويس في مواجهة القوات الإسرائيلية عام 1973.