ليس غريباً أن تكون رؤية حاكم ما لأي دولة، في تحقيق مجتمع مثالي من خلال تحقيق رعاية صحية مجانية، وتعليم مجاني، لكن الأمر الغريب وغير المألوف، أن يكون حُلم رئيس دولة إضافة لما سبق، توفير دعم حكومي للآيس كريم.
هذا ما حدث مع الزعيم الكوبي فيدل كاسترو، الذي كان معروفاً بحبه للمثلجات، بحسب صحيفة The Telegraph البريطانية.
لكن الحصار التجاري الذي فُرض على بلاده دفعه إلى أن يجبر سفيره لدى كندا على أن يُرسل إليه 28 حاوية مثلجات من سلسلة Howard Johnson's.
في حين ذكر الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز أنَّه شاهد الزعيم الكولومبي وهو يلتهم 18 مغرفة مثلجات بعد أن تناول "غداءً دسماً".
قبل الثورة، كان الكوبيون يستهلكون المثلجات المستوردة من الولايات المتحدة. وحين حوَّل الحصار الأمريكي المثلجات المستوردة إلى سلعةٍ غير قانونية، أخذ كاسترو على عاتقه مهمة صنع مثلجات لها مذاق أشهى من مذاق خصومه الأمريكيين.
هدية كاسترو للشعب
أصبحت عبارة "مثلجات للشعب" صيحةً لجمع الحشود. وفي عنفوان الثورة، حين كان الاتحاد السوفييتي يُغدق العطاء على الحكومة الكوبية بما يصل إلى 5 مليارات دولار سنوياً، توفَّرت لدى كوبا السيولة النقدية الكافية. وقرَّر كاسترو أن يبني أكبر متجر مُثلجات لرفاق الثورة المُخلصين.
لذلك، قرر كاسترو إرسال مختصين فنيين إلى كندا ليتعلموا كيفية صنع المثلجات، وأحضر أحدث الماكينات من السويد وهولندا، وبدأ في تجربة الوصفات.
وصمَّم كبار المهندسين المعماريين في الحكومة مبنى مُستقبلياً واعداً وسط حي فيدادو الثري في هافانا، ليضم إمبراطورية المثلجات.
وبطريقةٍ يملؤها الفخر، ولا تصلح إلَّا للأبطال القوميين، افتتح محل المثلجات الأشهر Coppelia عام 1996، ليكون أكبر مطعم من نوعه على سطح الأرض. وامتدت الطاولات المخصصة لعامة الشعب في شوارع المدينة بما يسمح لقرابة ألف شخصٍ بتناول المثلجات بكل أريحية وفي أي وقت. وباتت هدية كاسترو لشعبه تُعرف باسم "كاتدرائية المثلجات الاشتراكية العُظمى".
الخلاصة: لعقود استمر الحُلم بأن يتمكن كل مواطن من تحمُّل تكلفة المثلجات عالية الجودة وسط يومٍ حار. ولكن، بالنظر إلى التحول الذي بدأ الاقتصاد الكوبي يشهده اليوم، ليس على المرء إلَّا أن ينظر في ساحات محال بيع المثلجات ليشهد حُلم كاسترو وهو يذوب.
واشتملت القائمة الأصلية على المثلجات بـ26 نكهة. وكان متاحاً أمام الكوبيين الاختيار من بين النكهات الأساسية مثل الفانيليا أو الشوكولاتة، أو الخيارات الأكثر غرابة وتميزاً مثل الأناناس وجوز الهند باللوز والجوافة.
امتدت الطوابير الطويلة أمام المحل، ولكن الوقوف في طوابير بات أمراً معتاداً لدى الكوبيين بجميع مناحي حياتهم؛ فتعلَّموا استغلالها في اكتساب أصدقاء جُدد، وفي العثور على شريك الحياة، وفي إنهاء العلاقات أحياناً. كل هذا في أثناء الوقوف بطابورٍ للدخول إلى Coppelia.
بدا أن حُلم كاسترو الاشتراكي الحديث تحقَّق، حيث يُمكن أن يتحمل الجميع تكلفة "سَلطة المثلجات" (أي خمس مغرفات).
انهيار الاتحاد السوفييتي غيّر كل شيء
في تسعينيات القرن العشرين، بدأت الاتحاد السوفييتي بالانهيار، وبذلك اختفى الدعم السنوي الذي كان يبلغ مليارات الدولارات بين عشيةٍ وضحاها.
وفي ظل غياب الفائض النقدي، كان هناك نقصٌ مستمر في الحليب. وارتجل الموظفون الحكوميون بمكونات محدودة، وهو ما ترك المثلجات خاليةً من أي نكهة، وهشةً وسريعة الذوبان.
ولكن "الكاتدرائية الكُبرى" تُقدِّم اليوم تجربةً مُختلفةً بلا شك. ورغم أنَّ القائمة المعلَّقة على الحائط ما تزال تتَّسع لـ26 نكهة، فإنَّ النكهات المقدمة نادراً ما تزيد على قلةٍ من النكهات الأساسية. وما تزال طوابير الانتظار طويلة، غير أنَّ جائزة الانتظار في الطابور لم تعُد كما كانت.
وفي هذا الصدد، قال المصور الكوبي آلان جوتزيرمان: "تنتظر في الطابور ساعة أو ساعتين، وما إن تصل إلى هناك، يمكن ألا تجد أي نكهة متبقية سوى الفراولة".
محاولة إنعاش للأحلام الوردية الكوبية
وأدَّت الفترة التي أعقبت سقوط الاتحاد السوفييتي إلى تصدُّع الأحلام الوردية للثورة الكوبية، وهوى ما ترك مساحةً لتجذُّر المساعي الرأسمالية.
وفي عام 2010، بدأ راؤول كاسترو، الرئيس الكوبي آنذاك، السماح بفتح المطاعم والكافتيريات ومحال المثلجات؛ إيذاناً ببدء محاولات إنعاش الاقتصاد المتعثر.
ويقول الباحث الكوبي ريتشارد فينبيرج: "دائماً ما كانت هناك مساحة صغيرة جداً لبيع المثلجات. إذ إنَّ الأمر يقتصر على أن تبيع العائلات التي تمتلك ماكينات مثلجات بعضاً منها أمام منزلها، ولكن فكرة وجود محل مثلجات حقيقي من القطاع الخاص فكرةٌ ظهرت مؤخراً".
وخير مثالٍ على ذلك متجر Helad'oro في البلدة القديمة بهافانا. إذ افتتحت سيدةٌ فرنسية وزوجها الكوبي هذا المتجر الصغير عام 2015. وبإمكان مرتادي المطعم أن يُصمِّموا تجربتهم الخاصة في تناول المثلجات، في ظل وجود بسكويتات من الوافل، وقهوة مصبوبة على المثلجات، وأكثر من 30 نكهة. ويُشبه هذا المتجر تجربة تناول المثلجات الكوبية في بداياتها.
وعلى بُعد مسافةٍ يسيرة من متجر Helad'oro، يُوجد متجر Mango Gelateria & Cafe في هافانا محشوراً وسط المعارض الفنية وحانات الموهيتو. وبالإضافة إلى الخيارات الإيطالية التقليدية مثل الستراسياتيلا، تُوجد نكهات الفاكهة الكوبية مثل فاكهة المامي والسابوتي.
وبذلك بدأت محلات المثلجات الخاصة في الظهور، ولكن أسعارها الباهظة لم تكن تعني سوى أنَّ الأثرياء فقط هم من يمكنهم تحمُّلها.
ولم يأتِ هذا التحسين دون تكلفة، إذ إن متجر Coppelia المحلي يبيع ملعقة المثلجات بسعرٍ يُقارب خمسة سنتات، بما يجعلها في متناول المواطن الكوبي العادي الذي يتقاضى 30 دولاراً في الشهر. أما متجر Helad'oro، فتصل تكلفة الملعقة الواحدة من المثلجات فيه إلى دولارٍ واحد. في حين تُكلِّف ثلاث ملعقات في مخروطٍ من الوافل 3.50 دولار، بما يجعله في متناول 1% من سكان كوبا، أو السائحين فيه. وهذا أمرٌ لم يكن ليُرضي فيدل كاسترو.
وبالنسبة لطبقة رواد الأعمال المتنامية والقطاع السياحي، فإنَّ متاجر المثلجات الخاصة هي ضالتهم المنشودة. وكما تفعل المنافسة بشكل عام، فإنَّ هذه المتاجر تُجبر الحكومة على تطوير المتاجر الخاصة بها.
وعلى سبيل المثال، بدأت عملية تطوير Coppelia قبل احتفالات هافانا في نوفمبر/تشرين الثاني، وبدأت وسائل الإعلام الحكومية تُشير إلى أنَّ جودة المثلجات ستتحسن. ومع ذلك، وحتى مع وضع طبقة جديدة من الطلاء، فإنَّ متجر المثلجات المتداعي سيظل موطناً لمجتمعٍ طوباوي عفى عليه الزمن.