منذ أن تولى الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مقاليد الحكم، أصبح من السهل تقسيم الشرق الأوسط إلى "دول تنتمي للحزب الجمهوري"، ودول "مؤيدة للحزب الديمقراطي"، على الرغم من أن هذه الظاهرة تشكَّلت على الأقل طوال العقد الماضي، لكنها أصبحت أوضح في حقبة ترامب، بحسب مجلة Foreign Policy الأمريكية.
بغضِّ النظر عن الأردن -لا أحد تقريباً في واشنطن لا يحب الملك عبدالله- تبدو الاصطفافات واضحة: إسرائيل، ومصر، والإمارات، والسعودية جمهوريون، بمعنى أن قادة الحزب والمصوتين له متعاطفون معهم، أو أكثر تعاطفاً معهم عن الديمقراطيين. وفي الوقت نفسه، يميل الديمقراطيون إلى التماهي مع الاتفاق النووي الإيراني والفلسطينيين.
مكانة إسرائيل في الأحزاب الداخلية الأمريكية
منذ منتصف الألفينات، تحتل إسرائيل، موقعاً بين أهم المسائل التي تشكل أجزاءً أساسية في عقيدة الجمهوريين.
ويشير الجمهوريون إلى أن إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط التي تدعم أهداف الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة، وأنها ليست مصدر العنف العابر للحدود، وتتشارك في القيم الأمريكية.
يمكن أن ينتقد بعض المحللين والنشطاء هذه التأكيدات، ولكن لا يوجد مبرر للتشكيك فيها بين الجمهوريين الداعمين لإسرائيل (وهم كُثر). في الوقت نفسه، يصبح الديمقراطيون أكثر التباساً حيال ما يُدعى بالعلاقة الخاصة مع إسرائيل.
وتتضمن القضايا التي يتأثر بها الديمقراطيون تأثراً أكبر -خاصة المجموعة الصاعدة من نخب الحزب الديمقراطي ونشطاء السياسة الخارجية- قضايا حقوق الإنسان، والعدالة الدولية، وقلة الثقة في التدخل العسكري. فقد ساعد هذا في تقويض ما كان في الماضي توافقاً واسعاً بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري على دعم إسرائيل.
وما زاد الأمر سوءاً أن بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي، بذل جهداً إضافياً لمحاولة إفشال الاتفاق النووي الإيراني، وهي القضية البارزة في السياسة الخارجية، التي عُني بها الرئيس السابق باراك أوباما، الذي كان محبوباً بشدة بين أتباعه الديمقراطيين.
مصر حاضرة في السياسة الأمريكية
سُيست مصر كذلك بطريقة ربما لا يدركها المصريون أنفسهم. وظهر هذا بشكل واضح في اندفاع الحكومة المصرية شبه الصريح تجاه ترامب، بعد الأزمات والعواقب التي واجهتها القاهرة مع أوباما حول حقوق الإنسان، وتجدد الحكم الاستبدادي عقب انقلاب يوليو/تموز 2013، الذي أجبر محمد مرسي على التخلي عن السلطة.
لا تتصدر هذه المشكلات اهتمامات العديد من المشرعين الجمهوريين، خاصة مَن أفصحوا بوضوح عن مخاوفهم تجاه الخطر الذي يشكله الإسلام السياسي على الولايات المتحدة الأمريكية.
ورغم أن جمهوريين بارزين، أهمهم ليندسي غراهام، عضو مجلس الشيوخ عن ولاية كارولينا الجنوبية، وجهوا انتقادات للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، يميل تصنيف الجمهوريين وأجندتهم إلى اعتباره حليفاً في مواجهة التطرف.
في ديسمبر/كانون الأول 2015، أثلج السيسي قلوبَ سياسيّي ومعلقي وسط اليمين، حين دعا المؤسسة الدينية في مصر إلى إعادة النظر في تعاليمها وتفسيراتها، في ضوء ازدهار ظاهرة التطرف وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
الخلاصة: يعكس هذا الاختلاف الهام في الطريقة التي يرى بها الجمهوريون والديمقراطيون مصر؛ إذ يميل الجمهوريون -تماماً مثل مصر- إلى التركيز على الخلفية الأيديولوجية للتطرف، بينما يركز محللو وسط اليسار والديمقراطيون غالباً على الطريقة التي يؤدي بها القمع إلى الراديكالية والعنف.
تأتي بعد ذلك دولة الإمارات وقائدها، ولي عهد أبوظبي محمد بن زايد
ثمة تلاقٍ في وجهات النظر بين ولي العهد من ناحية، وبين المفكرين والسياسيين الجمهوريين البارزين من ناحية أخرى؛ إذ يرى كلاهما أن إيران والإسلام السياسي تهديدات كبرى. ولا يعني هذا أن الديمقراطيين يخالفون وجهة النظر هذه، لكن حلولهم لهذه التهديدات -التفاوض والتغيير الديمقراطي- في رأي أبوظبي والزعماء الجمهوريين هي حلولٌ ساذجة.
وفضلاً عن حقيقة أن الإمارات والجمهوريين يرون العالم من نقاط متشابهة، أصبح المسؤولون في أبوظبي على علاقة وثيقة بترامب وإدارته، ويتجسَّد ذلك بشكل واضح في حالتين:
- الأولى في ديسمبر/كانون الأول 2016، حين سافر محمد بن سلمان إلى نيويورك، دون أن يكلِّف نفسه عناء إبلاغ إدارة أوباما -وهذا خرق للبروتوكول- ليجلس مع شخصيات قريبة من الرئيس المنتخب، الذي لم يكن تقلَّد منصبَه حينئذ في برج ترامب.
- والثانية حين هاجم الرئيس سياسة قطر علناً عبر موقع تويتر، في نفس الوقت الذي فرضت فيه الإمارات وحلفاؤها ما تمنّوا أن يكون حصاراً عقابياً ضدّها، وكانت تلك بلا شك أغرب اللحظات في المرحلة المبكرة من إدارة ترامب. وقد أثار هذا الشكوك بين مراقبي المشهد بأنَّ ترامب يُصغي إلى كبار المسؤولين في أبوظبي حول هذه المسألة.
أكد محمد بن زايد والإمارات كذلك على أنهم "جمهوريون" بقوة، حين ساعدوا في إقناع الزعماء الأمريكيين والنخب الأخرى بمحمد بن سلمان، ولي عهد السعودية. فإذا كانت هناك أي دولة في الشرق الأوسط يمكن وصفها بأنها دولة ترامب، ستحمل السعودية بلا شك هذا اللقب، فهي وجهة ترامب في أول زيارة خارجية له.
وقد فعل ترامب كلَّ ما في وسعه لحماية ولي العهد من جهود الكونغرس لتحميله مسؤولية أي شيء، بدءاً من قتل الصحفي جمال خاشقجي وحتى الدمار الذي ألحقه السعوديون باليمن.
موقف الحزبين الأمريكيين من الحرب في اليمن، يفتقر إلى الإجماع، والتقارير الإعلامية التي ذكرت أن التشريعات
والقرارات تحظى بإجماع الحزبين أمر مبالغ به.
والسبب في ذلك كان واضحاً، في تصويت مجلس الشيوخ، لمنع بيع الأسلحة للسعوديين، فقط صوَّت ضد ذلك 7 أصوات جمهورية فقط، وأيد 17 نائباً جمهورياً فقط، مما ينفي وجود توافق بين الحزبين حول قضية اليمن.
الخلاصة: إذا استُثنيت مصر، سيتضح أن الرابط المشترك الآخر بين إسرائيل والإمارات والسعودية هو معارضة ثلاثتهم العلنية للاتفاق النووي الإيراني، وهو أبرز ما وقَّع عليه أوباما بالموافقة. ولا عجب في كونهم "جمهوريين" في هذا الشأن.
يملك الديمقراطيون من جانبهم مجموعة القضايا التي تمثلهم، ولا غرابة في كونها صوراً معكوسة لمشكلات الجمهوريين. على سبيل المثال، لا يناصر العديد من الديمقراطيين إيران، لكنهم يواصلون دعم الاتفاق النووي، ويعبِّرون عن غضبِهم لأن إدارة ترامب انسحبت من الاتفاق، مما زرع مزيداً من عدم الاستقرار في المنطقة بلا مبرر، فضلاً عن الخطر الإضافي بحدوث مواجهة عسكرية بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية.
يدعم هذا كله فكرة مفادها أن إسرائيل، والسعودية، والإمارات دولٌ مواليةٌ لترامب/للجمهوريين، نظراً لمعارضتهم للاتفاق الإيراني، ودعوتهم المستمرة بزيادة الضغط على الإيرانيين.
إضافة إلى الاتفاق النووي، تغدو المسألة الفلسطينية مقترنة اقتراناً وثيقاً بالديمقراطيين، حيث يعتبر تأييد إسرائيل مفيداً في السياسة الأمريكية، بغضِّ النظر عن الانتماء الحزبي، لكن محاور النقاش عن الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينين بدأت في التغير.
بدأ هذا التغيير يتَّضح في ردود الفعل، من نية إسرائيل ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية، وفي الطريقة التي تمنح بها مواقع التواصل الاجتماعي صوتاً أعلى للفلسطينيين في فلسطين نفسها. أضف إلى ذلك، انسحاب الحزب الديمقراطي لليسار، وتحذير المدافعين عن إسرائيل في الكونغرس لنتنياهو علناً من ضمِّ الضفة الغربية، ووصف مرشح الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية بيتو أورورك نتنياهو بـ "العنصري"، وحديث زميله المرشح الآخر بيت بوتيجيج عن فرض قيود على المساعدات الأمريكية لإسرائيل.
يجب إعادة النظر في هذه العقلية
ربما يتساءل الأذكياء من طيفي اليمين واليسار عن سبب اعتبارها إشكالية؟ إذ يبدو الجانب الآخر مخطئاً وخطيراً. فضلاً عن أن تنحية خلافاتنا جانباً فيما يتعلق بالسياسات الخارجية يحمل ضرراً لبلادنا، لكن العالم، رغم ابتذال الفكرة، أكثر فوضوية من خطاب الأمريكيين الاستقطابي، وساساتهم، والأخبار التلفزيونية المعتادة.
وترى المجلة الأمريكية أنَّ السياسة الأمريكية الخارجية بحاجة لإعادة التفكير، ولا سيما نظراً إلى أن النظام الذي بنته الولايات المتحدة الأمريكية عقب الحرب العالمية الثانية أوشك على الانتهاء. إضافة إلى أنه يصعب إنجاز أي شيء إذا بدأ الناس من فرضية أن السعودية دولة شريرة، أو أن إسرائيل فوق النقد، وهذا يؤدي إلى تراجع التوافق السابق بين الحزبين حول الشرق الأوسط.
كانت هناك أخطاء مرعبة ومكلفة نتيجة لذلك، ولكن لا يرجح أن تحقق الولايات المتحدة نجاحاً لو قسم الأمريكيون العالم إلى دول موالية للحزب الديمقراطي، ودول موالية للحزب الجمهوري.
الخلاصة: أثبت ترامب بالفعل، بحماسه الشديد لإلغاء كل ما فعله أوباما، أنَّ الخسائر الناجمة عن التقلبات الشديدة في السياسة الخارجية يمكن أن تحطِّم كلَّ شيء، بدءاً من الاقتصاد الأمريكي وحتى الاستقرار العالمي. سيكون ميل الديمقراطي القادم الذي سيحكم البيت الأبيض هو عكس كل ما قام به ترامب لإبطال سياسات حقبة أوباما، ما سيؤدي بدوره إلى دفع الجمهوري الذي يليه إلى عكس هذه القرارات، وهذه بالطبع ليست الطريقة المناسبة لإدارة أي دولة.
يُقال إن السيناتور آرثر فاندنبرغ، الرئيس الجمهوري للجنة مجلس الشيوخ الأمريكي للعلاقات الخارجية، صرَّح في نهاية الأربعينيات بأنَّ السياسة الحزبية يجب أن تتوقف حين يتعلق الأمر بالسياسة الخارجية.