من الغزو الصريح إلى تنظيم انقلابات قصور مروراً بالعقوبات والمؤامرات، لم تتوقف محاولات الولايات المتحدة لتغيير الأنظمة المعادية لها، والنتيجة كانت تعاسة الملايين إن لم يكن عشرات الملايين من البشر.
اللافت أن التدخل الأمريكي والغربي بصفة عامة، يجد له أصولاً في الديانة المسيحية فيما يُعرف باسم الحرب العادلة، ولكن هناك تساؤلات جدية تثار الآن عن أخلاقيات تغيير الأنظمة وكذلك النتائج المروعة للعقوبات الدولية.
هيلينا كوبان، المحللة المتخصصة بشؤون الشرق الأوسط، والمديرة التنفيذية لجمعية Just World Educational التعليمية، كتبت مقالاً في موقع Lobe Log الأمريكي تستعرض فيه النتائج الكارثية لمفهوم الحرب العادلة ونتائج التدخلات الغربية في عديد من بلدان العالم.
آخر فصول المؤامرات الغربية.. قصة انشقاق وزير الدفاع السوري
ظهرت روايتان مفصلتان مؤخراً عن عمليات تآمر نفذتها وكالات استخبارات غربية للتسبُّب في انشقاق مسؤولين رفيعي المستوى في حكوماتٍ مستهدفة باستراتيجيات تغيير النظام.
ففي كتابه الجديد "Assad or We Burn the Country: How One Family's Lust for Power Destroyed Syria"، يروي الصحفي سام داغر كيف أنَّه في عام 2012، هرَّب عملاء فرنسيون الجنرال السوري رفيع المستوى مناف طلاس من سوريا.
والرواية الأخرى هي تقرير لأنتوني فايولا مؤخراً في صحيفة The Washington Post، عن كيفية إقناع العملاء الأمريكيين لمدير وكالة الاستخبارات الفنزويلية، الجنرال مانويل ريكاردو كريستوفر فيغيرا، لتأييد مؤامرة تغيير النظام التي بدأت في 30 أبريل/نيسان 2019. وبعد ذلك، عندما فشل المخطط، يروي التقرير كيف أخرجوه من فنزويلا.
قراءة هذه الروايات تسلط الضوء أيضاً على المدى الذي لا يزال يعتمد فيه جزءٌ كبير من جهود تغيير الأنظمة التي اضطلعت بها الحكومات الغربية -التي تجري خلف واجهةٍ عامة لدعم الحركات الجماهيرية و "تعزيز الديمقراطية" – على تغذية هذا النوع من "انقلابات القصور"، التي كانت العنصر الرئيسي لعمليات وكالة الاستخبارات الأمريكية خلال الحرب الباردة، كما يرد بالتفصيل، على سبيل المثال، في كتاب تيم وينر لعام 2008 "Legacy of Ashes: The History of CIA".
وها هي جهود الاستخبارات الغربية تؤول إلى الفشل التام، والشعوب تدفع الثمن
قصص انشقاق طلاس وفيغيرا جديرة أيضاً بالاهتمام، لأنَّ الجهود الضخمة التي بذلها المسؤولون الغربيون في بلديهما لإحداث تغييرٍ بالنظام (أو تدمير النظام) قد فشلت حتى الآن.
فالسكان المدنيون في كلٍّ من سوريا وفنزويلا –ونحو ست دول أخرى تستهدفها الحكومات الغربية لتغيير أنظمتها- يجدون أنفسهم الآن محاصَرين بأزماتٍ من الفقر الشديد والتشرد وانهيار البنية التحتية، وكلها أمور لا يمكن التعافي منها بسهولة.
تتحمل الحكومات التي أطلقت أو دعمت كل جهود تغيير الأنظمة هذه بعض المسؤولية عن هذه المعاناة. ويحتاج مواطنو الدول الغربية الذين تتبع حكوماتهم هذه السياسات ئالتحرك بسرعة لوضع حد لتلك التدخلات.
تعرف على محتويات الصندوق الأسود لأدوات الإطاحة بالأنظمة
التحريض على الانشقاقات في مستويات القيادة العليا بالطبع هو مجرد أداة من الأدوات الموجودة في صندوق أدوات تغيير الأنظمة.
أما الأدوات الأخرى التي استُخدمت ضمن توليفاتٍ مختلفة في السنوات الأخيرة ضد الحكومات المستهدفة، مثل حكومات إيران أو كوبا أو كوريا الشمالية أو غزة (إلى جانب سوريا وفنزويلا) فتشمل:
1- تشديد العقوبات الاقتصادية، والتي تكون آثارها (على الرغم من مزاعم "الاستهداف") مدمرة تقريباً بالنسبة لمواطني الدولة التي فُرضت عليها العقوبات، كما أوضحت باربرا سلافين مؤخراً.
2- خلق "حركات احتجاج جماهيرية" جديدة في هذه البلدان، أو استيعاب الحركات القائمة واستغلالها.
3- الاستخدام المكثف للإعلام والاتصالات بهدف تعزيز موقف "المعارضة"، وتشويه سمعة الحكومة المستهدفة. (كانت تلك الأداة أساسية وقت الحرب الباردة كذلك).
4- الهجمات الإلكترونية،وضمن ذلك الهجمات الإلكترونية لتعطيل البنية التحتية الحيوية لرفاهية المدنيين.
5- تنظيم أنشطة "إنسانية" مُسيَّسة إلى حدٍ كبير بهدف تخفيف معاناة السكان المعارضين للحكومة المستهدفة فقط، وليس أولئك الذين ما زالوا موالين لها. (هذا التسييس للإنسانية ينتهك المبدأ الأصيل المتمثل في أهمية الحياد السياسي للعمل الإنساني؛ ومن ثم يقلل من فرص العمل الإنساني الحقيقي في المستقبل).
6- في بعض الأحيان، كما في حالتي غزة وسوريا، استخدام القوة العسكرية الفعلية (ودعم استخدام الآخرين لها).
بغض النظر عن نية الحكومات الغربية التي استخدمت هذه الأدوات، تمثلت آثار استخدامها في جميع الحالات المذكورة أعلاه في إلحاق أضرارٍ هائلة بالسكان المدنيين.
من أين جاءت عقيدة الحرب العادلة التي أحدثت تحولاً كبيراً في المسيحية؟
في حالة العمل العسكري الفعلي، توجد منذ القرن الخامس الميلادي طريقةٌ راسخة إلى حد ما، يستخدمها الزعماء (والمواطنون) للحكم على مبرر أي حرب بعينها (مسوغات الحرب)، وكذلك مبرر التكتيكات المستخدمة في تلك الحرب (قانون الحرب).
قدَّم رجل الدين الشمال إفريقي القديس أوغسطين نظرية "الحرب العادلة" هذه إلى شريعة الديانة المسيحية المسالمة سابقاً، وقد أصبحت تمثل محكّاً يحظى باحترامٍ واسع من الناس من مختلف الأديان.
جاء تدخل أوغسطين في وقتٍ كانت فيه المسيحية قد أصبحت منذ فترةٍ صغيرة، دين الدولة للإمبراطورية الرومانية، وكان على رجال الدين المسيحيين لأول مرة أن يواجهوا قضايا تتعلق بكيفية ممارسة سلطة الدولة أخلاقياً.
كان أيضاً وقتاً مزقته المعارك على الشاطئ الشمالي للبحر الأبيض المتوسط، حيث ذهب أوغسطين للتبشير والعمل. لذلك، عندما تقاعد ومكث في منزله بشمال إفريقيا للتفكير في قضايا العدالة والحرب، فهِم الكثير حول ما تنطوي عليه الحرب.
تتميز عقيدة "الحرب العادلة" بفهمٍ راسخ، مفاده أنَّ الحرب دائماً ما تُلحق الضرر بالسكان المدنيين؛ ومن ثم لا ينبغي اللجوء إليها إلا كملاذٍ أخير، إذا كان احتمال نجاحها كبيراً، وإذا شنتها جهة شرعية مُعترف بها على النحو الواجب. يمكن الاطلاع هنا على قائمة الشروط الكاملة لشن حرب عادلة بموجب هذه النظرية.
ثم أصبحت الأمم المتحدة هي التي تضع المعايير بعد الحرب العالمية الثانية
منذ عام 1945، استُبدلت هذه المعايير الخاصة بـ"الحرب العادلة" إلى حدٍ كبير بإنشاء الأمم المتحدة، وتركيزها الشديد على تجنب الصراع العسكري في جميع الظروف باستثناء عددٍ قليل للغاية من الحالات المحددة.
ويسمح القانون الدولي الحالي باستخدام القوة فقط في الدفاع المنضبط عن النفس، ولمقاومة ودحر الاحتلال العسكري الأجنبي (كما هو الحال في احتلال العراق للكويت 1990-1991).
ولكن هناك غرض آخر أُقر منذ عام 2005، مثيراً كثيراً من الجدل، وهو عندما يرى مجلس الأمن أنَّ إحدى الحكومات الوطنية لم تلتزم "مسؤوليتها عن حماية" المدنيين الخاضعين لسيطرتها من الفظائع، مثل التعرض للإبادة الجماعية أو التطهير العرقي، ويُعرف هذا الالتزام باسم مبدأ مسؤولية الحماية.
وفي ليبيا أسيء استخدام مبدأ مسؤولية الحماية
في مارس/آذار 2011، أصدر مجلس الأمن قراراً رئيسياً بشأن مبدأ مسؤولية الحماية، يجيز استخدام الحكومات الأعضاء للقوة للمساعدة في حماية المدنيين الذين يُزعم أنَّهم معرضون للخطر في مدينة بنغازي الليبية.
لكنَّ حلف شمال الأطلسي (الناتو) وبعض حلفائه من دول الخليج استخدموا هذا التصريح لمواصلة قتال قوات الرئيس الليبي معمر القذافي حتى هزموها بالكامل. فشعرت روسيا والصين، اللتان سمحتا للقرار المبدئي بالمضي قدماً بعدم استخدامهما حق النقض ضده، بامتعاضٍ شديد من حرية الحركة التي تمتع بها الناتو بعد هذا القرار، وتعهدتا بعدم السماح مطلقاً بتمرير أي قراراتٍ مشابهة تتعلق بمسؤولية الحماية.
في عام 2016، توصل تحقيقٌ برلماني بريطاني متعمق إلى أنَّ التهديد الذي يتعرض له المدنيون في ليبيا كان مبالغاً فيه خلال مناقشات الأمم المتحدة الحاسمة بشأن قرار مسؤولية حماية المدنيين.
ومنذ عام 2011، استخدمت الولايات المتحدة وحلفاؤها القوة العسكرية ضد الحكومة السورية بعدة طرق، رغم أنَّ هذه الهجمات لم يكن لها مطلقاً أي تفويض شرعي من الأمم المتحدة.
وأيضاً تقع الهجمات الإسرائيلية على الحكومة المنتخبة في غزة، بدعمٍ من الولايات المتحدة، في حيز غامض من الناحية القانونية، لأنَّ الأمم المتحدة تعتبر غزة طوال الوقت "أرضاً محتلة من قِبل إسرائيل".
وفي بقية المناطق المذكورة أعلاه، لم تستخدم واشنطن وحلفاؤها القوة العسكرية المباشرة، واختاروا بدلاً من ذلك السعي إلى تغيير الأنظمة باستخدام أدوات أخرى من صندوق أدوات تغيير الأنظمة خاصتهم.
إلى أي مدى يمكن تطبيق المبادئ المنصوص عليها في عقيدة "الحرب العادلة" بالحملات العسكرية للنجاح في تغيير الأنظمة عبر وسائل أخرى؟ نظر عددٌ قليل فقط من المؤسسات والمفكرين في هذا السؤال، وركَّز كل هؤلاء تقريباً على دراسة أخلاقيات العقوبات الاقتصادية فقط، ولم يُركزوا على الأدوات الأخرى لتغيير الأنظمة.
والآن الأمم المتحدة تقر بالأثر المحزن للعقوبات
في عام 2000، وضعت دراسة رائدة للأمم المتحدة ستة أسئلة ينبغي الإجابة عليها، لتقييم شرعية أي استخدام مقترح للعقوبات، وهي:
- هل فُرضت العقوبات لأسباب وجيهة؟
- هل تستهدف العقوبات الأطراف المناسبة؟
- هل تستهدف العقوبات البضائع أو المواد المناسبة؟
- هل العقوبات محددة زمنياً على نحوٍ منصف؟
- هل العقوبات فعَّالة (من حيث تحقيق التحسُّن السياسي المنشود، وليس فقط إلحاق الضرر)؟
- هل هناك أي اعتراضات على العقوبات بسبب انتهاكها "مبادئ الإنسانية وما يمليه الضمير العام"؟.
نظرت هيئة الأمم المتحدة التي أعدت هذا التقرير في ثلاث دراسات حالة ببعض العمق. وهي أنظمة العقوبات متعددة السنوات التي فرضتها الأمم المتحدة على العراق، والتي بحسب التقرير "تشير إلى مشاكل خطيرة في النظرية التقليدية للعقوبات الاقتصادية …"؛ وتلك التي فرضتها مجموعة من الدول الإفريقية على بوروندي، ويصفها التقرير بأنَّها "مثال محزن آخر على الآثار الضارة للغاية التي تلحقها العقوبات الاقتصادية الشاملة بجميع جوانب المجتمع"؛ والتي فرضتها الولايات المتحدة من جانب واحد على كوبا "والتي تنتهك قانون حقوق الإنسان بطريقتين مختلفتين".
وفي عام 2014، رأى الأسقف الكاثوليكي ستيوارت سويتلاند أنَّ "هدوء النظام" يُخدم عادةً بشكل أفضل من خلال الاستخدام الحكيم والمستهدف للعقوبات الاقتصادية وليس وحشية الحرب. وحتى الأفضل من ذلك هو العمل من أجل تنمية اقتصادية واجتماعية حقيقية وعدالة حقيقية، بحيث لا تكون العقوبات أو الحرب ضرورية.
اختتمت الخبيرة في علم الأخلاقيات البريطانية إليزابيث إليس مسحاً واسعاً عن أخلاقيات العقوبات، من خلال الإشارة إلى أنَّ "الأدبيات الحالية حول أخلاقيات العقوبات الاقتصادية، على الرغم من أهميتها، تتطرق بالكاد إلى قشور الموضوع، وأنَّ مزيداً من البحث ما زال مطلوباً في هذا المجال".
والتدخل الخارجي مثلما حدث بمصر في 30 يونيو 2013 يقوض رغبات السكان
عديد من التقنيات الموجودة في صندوق أدوات تغيير الأنظمة المذكورة أعلاه (أرقام 1، و4، و5) تنتهك بوضوحٍ مبدأ قانون الحرب العادلة، الذي يقتضي من أي طرف يخوض حرباً أن يميز بين العمليات التي تستهدف الأهداف العسكرية بشكلٍ صحيح، وتلك التي تُلحق الضرر بالمدنيين من دون وجه حق. (في حالة رقم 5، قد تخدم المساعدات الإنسانية بعض المدنيين، لكنَّها تميز بشكلٍ غير عادل ضد الآخرين).
وفيما يتعلق بالأداة رقم 2، عندما تتدخل أطراف خارجية لخلق أو استقطاب حركات احتجاج جماعية، كما حدث على نطاق واسع في سوريا وفنزويلا، وفي أثناء الثورة المضادة التي دعمتها السعودية والإمارات بمصر في عام 2013، فهي تقوض فرصة ترعرع الحركات الجماهيرية الأصيلة المعبرة عن السكان، وكذلك فرص تفاوضها مع حكوماتها على مستقبلٍ أفضل. وغالباً ما تمهد هذه التدخلات الطريق لمواجهةٍ أكبر بكثيرٍ عكس ذلك.
العقوبات الأمريكية لتغيير الأنظمة.. تاريخ طويل من الفشل والافتقاد إلى الشرعية
دعونا نلقِ نظرة على أخلاقيات الانخراط في أي مشروعٍ لتغيير حكومات الشعوب الأخرى. هنا، تكون ضوابط مسوغات الحرب ذات فائدة. فعندما تبدأ حكومة غربية مشروعاً لتغيير النظام في بلدٍ آخر، هل تقوم بذلك كملجأٍ أخير فقط؟ هل تفعل ذلك فقط إذا كان احتمال النجاح كبيراً؟ وهل تفعل ذلك فقط إذا سُمح لها بذلك من هيئة شرعية معترف بها مثل الأمم المتحدة؟
الإجابة في عصر ترامب، ولفترةٍ طويلة قبل ذلك، هي "لا" من جميع النواحي. منذ فشل محاولة جون كينيدي في أبريل/نيسان 1961، لإطاحة حكومة كوبا بالقوة، تستخدم الولايات المتحدة العقوبات الاقتصادية وغيرها من الأدوات لإحداث تغييرٍ في النظام بكوبا وفي بلدانٍ أخرى. وفي الغالبية العظمى من هذه الحالات، لم تكن لديها أي سلطة شرعية للقيام بذلك، سواء سلطة مَنحتها إياها الأمم المتحدة أو أي هيئة أخرى عابرة للحدود الوطنية. وفي السنوات الأخيرة، عاد عملاء واشنطن وحلفاؤها المقربون في حلف الناتو إلى أنواعٍ أخرى من عمليات المؤامرة والجاسوسية التي اتسمت بها الحرب الباردة في أوج عنفوانها، لا سيما بمنطقة الشرق الأوسط المتنازع عليها بشدة.
عندما تبنَّت الأمم المتحدة مبدأ مسؤولية الحماية في عام 2005، صدح عديد من مؤيدي القاعدة الجديدة بأنَّ الصلاحية التي من المفترض أن تمنحها لمختلف "التدخلات" حول العالم ستضع حداً "للماضي العصيب" لسيادة الدول القومية غير المحدودة تقريباً. كان تهليلهم سابقاً لأوانه بالتأكيد. ومن المؤكد أنَّ الدول المذكورة على رأس أجندة تغيير الأنظمة في واشنطن ليست مبتهجة.