"الإسلاميون يؤيدون الإرهاب ويريدون إعادتنا 14 قرناً للوراء"، كانت هذه تصريحات المرشح الباجي قايد السبسي قبل أن يصبح رئيساً لتونس، ولكن بعد ذلك أصبح تفاهم السبسي مع الغنوشي هو أساس النظام السياسي التونسي بعدما أصبح الرجل رئيساً للبلاد، حتى لو واصل انتقادهم في كلماته.
قامت السياسة التونسية منذ انتخاب السبسي رئيساً للبلاد، على التفاهم بينه وبين رئيس حزب النهضة راشد الغنوشي، وهو التفاهم الذي يبدو غريباً بالنظر إلى أن الرجل أسهم في إسقاط حكومة الإسلاميين، وجاء ببرنامج انتخابي يقوم على العداء لهم.
والمفارقة أن الإسلاميين قد يكونون الأكثر قلقاً الآن في ظل الأنباء عن تدهور الحالة الصحية للسبسي، وفي ظل احتمالات الفراغ في السلطة بالبلاد المستهدَفة من كثير من الأنظمة العربية التي تنظر بقلق إلى نجاح تجربتها الديمقراطية.
وهي التجربة التي اكتسبت طابعاً خاصاً بفضل البصمات التي تركها السبسي ومعه الغنوشي عليها.
الرجل الذي اختلف حوله الجميع
وينظر البعض إلى قايد السبسي، السياسي القادم من أروقة النظام السابق، باعتباره قائداً للثورة المضادة الناعمة في تونس، والرجل الذي يشعل الاستقطاب العلماني الإسلامي في هذا البلد لأغراض سياسية، مثلما فعل بموضوع المساواة في الميراث.
في حين ينظر إليه آخرون على أنه سياسي مخضرم تمكن، من خلال تفاهمه مع زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي، من حماية الديمقراطية التونسية، لتصبح تونس البلد الوحيد الذي نجا من الثورة المضادة في كل البلدان العربية.
فمن هو قايد السبسي في كل هؤلاء، هل هو قائد الثورة المضادة الناعمة التي تستغل الديمقراطية التونسية لإبقاء النظام السابق؟ أم السياسي الحكيم الذي رفض إغواء عرابي الثورات المضادة في العالم العربي للانقلاب على الديمقراطية التونسية؟
مِن وزير داخلية النظام إلى رئيس وزراء الثورة الذي يهاجم الصحفيين
يوصف السبسي بأنه أحد رموز نظام الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة الذي حكم البلاد بين عامَي 1956 و1987، وتولى في عهده عديداً من المناصب، بينها وزارات الداخلية والدفاع والخارجية.
كما تولى في بداية عهد الرئيس زين العابدين بن علي، منصب رئيس مجلس النواب، وكان عضو اللجنة المركزية للحزب الحاكم "التجمع الدستوري الديمقراطي" حتى 2003.
وفي مطلع فبراير/شباط 2011، عاد قائد السبسي إلى الاضطلاع بدور المسؤولية في دواليب الدولة بعد تعيينه رئيساً للحكومة خلفاً لمحمد الغنوشي المستقيل.
وبقي في هذا المنصب حتى نهاية ديسمبر/كانون الأول 2011، وهو تاريخ تسلُّم حركة "النهضة" الإسلامية الحكم إثر فوزها في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي التي أُجريت يوم 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011.
وخلال الفترة التي قضاها رئيساً للحكومة، توترت علاقة السبسي بالإعلام، وبنقابات الأمن التي تأسست بعد الثورة؛ بعدما وصف بعض مسؤوليها بـ "القردة".
عدو الإسلاميين الأول
أسس السبسي حزب "نداء تونس" في عام 2012، لمنافسة "النهضة" التي حققت فوزاً كبيراً بأول انتخابات حرة في أكتوبر/تشرين الأول 2011.
ويضم حزب "نداء تونس" نقابيين ويساريين ومنتمين سابقين إلى حزب "التجمع الدستوري الديمقراطي" الحاكم في عهد بن علي، الذي حكم تونس بين عامَي 1987 و2011. وتم حلّه بقرار قضائي في مارس/آذار 2011.
وفي 2013 نزل حزب "نداء تونس" بثقله في احتجاجات وتظاهرات طالبت بالإطاحة بحكومة "الترويكا" التي كانت تقودها حركة "النهضة"، وذلك إثر اغتيال قيادي معارض للإسلاميين (محمد البراهمي) في حادثة هي الثانية خلال أقل من عام، ومقتل عناصر من الأمن والجيش في هجمات نسبتها السلطات إلى "إرهابيين"، وأسهمت ضغوط السبسي في استقالة حكومة "النهضة".
قالوا عن حزبه إنه صورة جديدة من حزب بن علي
وتصف المعارضة "نداء تونس" بأنه حزب "تجمع جديد"، في إشارة إلى الحزب الحاكم في عهد الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، وأن قائد السبسي الذي تولى رئاسة البرلمان بين 1990 و1991 من "أزلام" نظام بن علي.
وقبل توليه السلطة حذَّر كثير من معارضيه من عودة "الاستبداد" إلى تونس إن وصل إلى الحكم.
وردَّ السبسي على هذه الاتهامات آنذاك بالقول: "إنه لم يضمّ إلى حزبه مسؤولين تولوا حقائب وزارية في عهد بن علي (2011/1987) أو التجمّعيين الذين عندهم مشكلة مع القضاء".
أنصاره يصفونه بـ "رجل الدولة".. ومعارضوه يتهمونه بالمشاركة في التعذيب
وينتقد معارضو حزب "نداء تونس" دوماً تقدُّم الباجي قايد السبسي في السن، ويقولون إنه لا يمثل الثورة التي قادها الشباب التونسي، في حين يصفه مؤيدون بـ "رجل دولة يمكن أن يفيد البلاد بخبرته السياسية".
وواجه قايد السبسي اتهامات بتعذيب معارضين عند توليه وزارة الداخلية خلال عهد بورقيبة. وقد أقام معارضون دعوى قضائية ضده في 2012 من أجل التعذيب، وهي تهمة نفاها عن نفسه.
وأظهر التقرير الختامي لهيئة الحقيقة والكرامة التونسيّة شهادات تشير إلى أنّ الرئيس الباجي قايد السبسي مسؤول عن تجاوزات لحقوق الإنسان حين كان مديراً للأمن الوطني عام 1965، ثم وزيراً للداخلية عام 1967، خلال حكم بورقيبة.
وأوضح التقرير أنّ "أعمال التحقيق بالهيئة أثبتت أنّ التعذيب كان جريمة ممنهجة ومخطّطاً لها من كبار المسؤولين عن الشؤون الأمنية، الذين أمروا وحرّضوا ووافقوا وسكتوا عن تعذيب الضحايا في أثناء مباشرتهم لوظائفهم".
وأكّد التقرير أنّ وزراء داخلية بورقيبة، وضمنهم الباجي قايد السبسي، "كانوا على علم بأنّ مرؤوسيهم قاموا بتجاوزات خطيرة".
وبحسب الهيئة، فإنّ ذلك "يجعل مسؤوليتهم الجزائية قائمة في نظر القانون الجنائي الدولي، على أساس ارتكابهم فعلاً سلبياً أدّى إلى حصول الانتهاكات ".
ولفتت في التقرير، خصوصاً إلى شهادة السجين السياسي خلال الستينيات، المنصف الماطري، الذي قال في شهادته إنّه تعرّض لعقاب شديد بعد أن تظلّم من ظروف اعتقاله، للباجي قايد السبسي، مدير الأمن الوطني آنذاك، خلال زيارة الأخير للسجن.
وأصبح رئيساً بعدما امتنع الإسلاميون عن دعم منافسه الذي هو حليفهم السابق
دأب قايد السبسي على توجيه انتقادات لاذعة إلى الإسلاميين، الذين وصفهم بـ "الرجعيين" و "الظلاميين"، وبأنهم "أكبر خطر على تونس"، التي تعتبر من أكثر البلدان العربية انفتاحاً على الغرب.
وقد قال عنهم في تصريح صحفي: "نريد دولة متطورة في القرن الـ21، ويفصلنا 14 قرناً عن هؤلاء الناس (الإسلاميين)".
وفاز السبسي في الانتخابات الرئاسية عام 2014، بعدما امتنعت "النهضة" عن دعم أي مرشح في الانتخابات، ليفوز السبسي على الرئيس السابق المنصف المرزوقي وهو السياسي العلماني الذي كان حليفاً لـ"النهضة" في السابق.
وحصل السبسي على نسبة 55.68 في المئة من الأصوات، في جولة الإعادة من انتخابات الرئاسة، ونال المرزوقي 44.32 في المئة من الأصوات، في حين بلغت نسبة المشاركة 60.11 بالمئة من إجمالي الناخبين الذين يتمتعون بحق التصويت.
العلاقة مع الإمارات زعيمة الثورة المضادة في العالم العربي
ويُعتقد أن الإمارات دعمت السبسي في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها على الرئيس السابق المنصف المرزوقي حليف "النهضة".
فوفقاً لموقع Lobelog الأمريكي، فلقد حاولت أبوظبي تقويض حزب النهضة الإسلامي المعتدل المؤيد للديمقراطية، ودعمت بهدوءٍ حزب "نداء تونس" العلماني، الذي يقوده السبسي باعتباره علمانياً ينتمي إلى النظام السابق.
وقيل إنَّ المسؤولين الإماراتيين عرضوا تقديم مساعدة كبيرة لحزب "نداء تونس" إذا ما كرر النموذج المصري بالاستيلاء على السلطة من "النهضة". وحتى الرئيس السابق المنصف المرزوقي اتهم الإمارات بمحاولة زعزعة استقرار الديمقراطية في البلاد ودعم القوى الرجعية، لكنَّ الافتقار إلى جيش قوي في تونس، عكس الحال بمصر، جعل من الصعب على الإمارات إحداث الفوضى في حالة الديمقراطية بالبلاد، بحسب موقع Lobelog.
هل خيَّب آمال الإمارتيين بعد تولي السلطة؟
ويبدو أنه بعد تولي السبسي السلطة خاب أمل الإمارات في سياسته، التي قامت على خليط من التعاون والمنافسة مع الإسلاميين، ولكن في إطار العمل السياسي.
ولذا فقد يكون موقف السبسي هو وراء تحرُّك أبوظبي لدعم انقلاب من قِبل وزير الداخلية التونسي السابق، لأنه يبدو أنها لم تقبل أن يُهزم الإسلاميون في تونس سياسياً، بل تريد انقلاباً، على النمط المصري يقضي على الإسلاميين تماماً ومعهم الديمقراطية التونسية برمتها.
لماذا احتاج السبسي للإسلاميين؟
بعد توليه السلطة خفف السبسي لهجته ضد "النهضة"، خاصة بعد تراجع قوة حزب "نداء تونس" داخل البرلمان، ومنافسة رئيس الوزراء يوسف الشاهد له على السلطة، وهو ما جعل تعاونه مع "النهضة" أمراً لا مفر منه.
فقد ثبت للسبسي أنه يحتاج الإسلاميين الذين كان يُعتبر أكبر خصم لهم.
فما إن استقرت أمور الحكومة بعد توليه الرئاسة حتى اندلع الاحتراب السياسي داخل "نداء تونس" بين رئيس الوزراء يوسف الشاهد من جهة وحافظ قايد السبسي نجل الرئيس التونسي، من جهة ثانية، والطامح إلى تولي منصب سياسي رفيع في الدولة مستقبلاً.
وأدى هذا التنافس السياسي إلى شروخ داخل الحزب، وانسلخ عنه اثنان وعشرون نائباً في مجلس البرلمان، وتراجع عدد أعضائه إلى سبعة وستين، لتصبح حركة "النهضة" الحزب الأول من حيث عدد المقاعد. ومع ذلك استمرت الحكومة تمارس صلاحياتها.
وها هو النظام يتشكل على أساس تفاهم السبسي مع الغنوشي
وهكذا انتقل السبسي من العداء السافر للإسلاميين إلى حالة غريبة يمكن وصفها بـ "تحالف الضرورة"، وهو التحالف الذي امتدحه الغرب ومؤيدو الديمقراطية في العالم العربي.
ولكن هذا التحالف أغضب آخرين.
إذ أغضب التفاهم بين الشيخين أنصارَ الثورة المضادة الذين يريدون من السبسي القضاء على الإسلاميين، ويحبذون الأطر غير الديمقراطية لتحقيق ذلك.
كما أغضب كثير من الثوار الراديكاليين، الذي رأوا في هذا التحالف تمديداً للسابق وتمكيناً للثورة المضادة بشكل آخر.
وأغضب بعضَ الإسلاميين في ظل مواقف السبسي التي يرون أنها مفرطة في العلمانية.
خبايا التفاهم بين الشيخين الغريمين
قام التحالف بين الحزبين الكبيرين أو بالأحرى الشيخين الغريمين في تونس عموماً على مسوغين.
أولاً، سعى السبسي والغنوشي إلى تسكين حالة الاستقطاب التي اجتاحت تونس في 2013، ومن ثم منع البلاد من الانسياق إلى مصير مصر في الارتداد عن المسار الديمقراطي.
ثانياً، اعتقد الرجلان أن التحديات الاقتصادية والأمنية التي تواجه البلاد تتطلب استقراراً ووحدة سياسية.
التفاهم بين السبسي والغنوشي لم يمنع مناوشة السبسي السياسي المحنَّك القادم من عهد بورقيبة لـ "النهضة"، تارة بتوجيه الاتهامات إلى الحزب الإسلامي الذي حضر مؤتمره العام العاشر بنفسه.
وتارة أخرى بمحاولة إحراجها من خلال طرح قضايا حساسة مثل مسألة المساواة في الميراث بين الذكر والأنثى.
والبعض يرى أن "النهضة" ساعدت السبسي في تحقيق مآربه
واللافت أن حزب النهضة بفضل قوته البرلمانية قد مرر كثيراً من القوانين التي تفيد تيار السبسي، الذي يُنظر إليه بشكل أو بآخر، على أنه صورة معدلة من النظام السابق.
ويرى البعض أن التوافق بين الرجلين سهَّل الطريق أمام قوى الثورة المضادة ومصالح حزب "نداء تونس" وفلول النظام الاستبدادي السابق.
أي إن هذا التوافق مكَّن من استمرار هيكل الدولة التونسية القديم بموافقة من "النهضة"، التي جاءت من خارج هذا الهيكل تماماً.
واللافت أنه رغم تناقض جذور الحزبين تماماً، فإن سياستها كانت متقاربة.
فالنهضة يمثل الإسلاميين وهو الأكثر تأييداً للثورة، والسبسي وحزب النداء حزب علماني ويعتبر امتداداً لنظام بن علي.
ولكن أربع سنوات من التوافق بين الحزبين جعلت عملية التمييز بين سياستهما صعبة تقريباً، حسب تقرير لموقع مجلة Foreign policy الأمريكية.
إذ يحاول كلاهما مكافحة الإرهاب من خلال مقاربة أمنية إلى حد كبير، فضلاً عن تعزيز النمو الاقتصادي من خلال إصلاحات صندوق النقد الدولي.
ولكن التحالف عاد ليواجه مشكلات كبيرة
وواجه هذا التفاهم مشاكل، نتيجة تعرُّض التحالف بين السبسي والغنوشي لضغوط، إثر رفض حزب النهضة إقالة رئيس الوزراء يوسف الشاهد، الذي خاض المنافسة مع حافظ قائيد السبسي، نجْل السبسي، على زعامة حزب "نداء تونس".
كما أن مجلس الشورى التابع لحزب النهضة لم يتفق علانية ولأول مرة، مع السبسي في إحدى القضايا السياسية، رافضاً اقتراحه بالمساواة في الميراث.
وظلت العلاقة بين الطرفين تتسم بالغرابة، فبعد أن أعلن السبسي العام الماضي (2018) نهاية التوافق مع "النهضة"، صدر عن "النهضة" خلال 24 ساعة، بيان ضمنته التزامها مسار التفاهم القائم مع الرئيس، رغم الاختلاف في وجهات النظر بينهما.
وظل الرئيس السبسي يطالب بضرورة رحيل حكومة يوسف الشاهد، في محاولة منه لإنهاء الأزمة التي تعصف بحزبه ولإفساح الطريق أمام نجله، ربما لتولي المنصب نفسه كما يقول معارضوه.
غير أن طلب الرئيس ظل يواجَه برفض قوي ومعارضة شديدة من حركة النهضة، التي رأت أن أي مساس بحكومة الشاهد من شأنه أن يؤدي إلى أزمة سياسية تقوض الاستقرار الهش في البلاد، مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية والرئاسية.
وتزايدت مؤشرات انفراط العقد بين الحليفين، مع رفض الحركة تقرير الحريات الفردية والمساواة في الإرث بشكل علني وصارم، ورفضها أيضاً لمرشحي حزب "النداء" والسبسي شخصياً للمحكمة الدستورية.
وبهذا الخلاف ضعف التوافق السياسي بين الحزب والحركة وبات اتخاذ القرارات السياسية بشكل مشترك، أكثر صعوبة.
وفي مؤشر على تغير شكل العلاقة بين الشيخين الغريمين، لم يستبعد راشد الغنوشي خلال الأيام الماضية، أن يترشح لرئاسة البلاد، في الوقت الذي أعلن فيه السبسي أنه لن يخوض الانتخابات القادمة، قبل أن تتداعى الأخبار بتدهور حالته الصحية.
فهل يؤدي غياب السبسي إلى تشجيع الغنوشي على الترشح للانتخابات أم أن غياب غريمه التقليدي وشريكه في تشكيل النظام السياسي التونسي قد يؤدي إلى تغيير قواعد اللعبة الديمقراطية التي التزم بها السبسي الأمر الذي يضع التجربة التونسية كلها على المحك.