في 7 يونيو/حزيران 2019، أعلنت وزارة الخزانة الأمريكية فرضَ عقوبات اقتصادية على شركة الخليج الفارسي، التي تعد أكبر الشركات الإيرانية في مجال صناعة البتروكيماويات، وواحدة من أكبر الشركات القابضة في العالم.
وزارة الخزانة الأمريكية قالت إن الغرض من فرض عقوبات على تلك الشركة هو تمويلها المالي القوي لمقر "خاتم الأنبياء"، الذي يعد المؤسسة المالية الأقوى والأهم للحرس الثوري الإيراني، الي عيَّنته الولايات المتحدة في الشهر الماضي منظمةً إرهابية أجنبية.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل حدَّدت وزارة الخزانة عدداً كبيراً من الشركات الإيرانية التي تعمل في مجال صناعة الغاز والصلب والحديد، لإدراجها في قائمة العقوبات، بسبب تعاملها المالي مع مقر "خاتم الأنبياء"، لكن ما هو مقر خاتم الأنبياء، وما سبب سيطرته على السوق الإيراني؟
الحرب العراقية الإيرانية كانت السبب وراء وجود مقر خاتم الأنبياء
يعدُّ الحرسُ الثوريُّ واحداً من أهم المؤسسات في إيران، وله نفوذٌ هائل في كافة القطاعات، أنشئ الحرس الثوري الإيراني في وقت مبكر بعد قيام الثورة الإسلامية في عام 1979، بأمر مباشر من المرشد الأعلى للجمهورية وقتها آية الله الخميني.
كانت مهمة الحرس الثوري في البداية هي حماية الثورة من الأعداء المتربصين لها في الداخل والخارج الإيراني، ولكن بعد الحرب العراقية الإيرانية التي دامت لثماني سنوات من عام 1980 إلى 1989، أصبح الحرس أهم كيان في الدولة الإيرانية.
بعد الدمار الذي خلّفته الحرب مع العراق المجاور، كان لا بد من إعادة إعمار الدولة الإيرانية التي كانت بحاجة إلى الكثير من الموارد والمعدات والأموال لإعادة بناء ما دمّرته الحرب المريرة.
أدركت المؤسسة السياسية بقيادة خامنئي أن القطاع الخاص والحكومة لن يقدرا بمفردهما على عملية إعادة الإعمار، ومن هنا جاء التفكير في طريقة الاستفادة من الموارد المالية والبشرية للحرس الثوري، انتهى التفكير إلى إنشاء مؤسسة مالية تابعة للحرس الثوري، تستطيع الدولة إسناد كافة المشاريع الكبرى لإعادة بناء البنية التحتية الإيرانية، وفي عام 1989 تم بناء مقر خاتم الأنبياء، الذي سيصبح بعد سنوات أهم كيان اقتصادي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
هل إنشاء مقر خاتم الأنبياء له سند قانوني؟
المادة 147 من الدستور الإيراني تتيح للقوات المسلحة المشاركة في مشاريع البناء والإغاثة من الكوارث الطبيعية، وعلى أساسها وبناء على المادة 10 من قانون الحرس الثوري الذي أقره البرلمان الإيراني في عام 1982، يتم السماح للحرس الثوري بممارسة الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بتقديم خدمات البناء والخدمات التعليمية، وعمليات الإغاثة بطلب من الحكومة.
في تلك الفترة كان يتولى رئاسة البلاد الرئيس هاشمي رفسنجاني، الذي أيّد بكل قوة دخول الحرس الثوري المجال الاقتصادي في البلاد، والذي رأى أن الحرس يمتلك كافة المقومات للعب دور فعال في إعادة بناء إيران.
يقول الخبير الاقتصادي الإيراني فرامرز خالقي لـ "عربي بوست": "في البداية كان مقر خاتم الأنبياء مهمته الأساسية والأولى هي الإنشاءات، لمساعدة البلاد في إعادة إعمار خراب الحرب الطويلة مع العراق، وفي حقيقة الأمر لم يكن موجوداً في إيران أي قطاع، سواء أكان خاصاً أو عاماً، يستطيع أن يتولى تلك المهمة كما أنجزها مقر خاتم الأنبياء".
يقول خالقي إن فضل مقر خاتم الأنبياء على الدولة الإيرانية كبير، فأغلب الطرق والسدود والجسور التي بُنيت بعد الحرب مع العراق كانت من تنفيذ المقر "المئات من الطرق وخطوط إمداد المياه والنفط والغاز كانت مدمرة بالكامل، وحده فقط مقر خاتم الأنبياء هو مَن استطاع إعادة بناء كل تلك الأمور".
العقوبات الأمريكية تزيد من قوة خاتم الأنبياء
كما كانت الحرب مع العراق هي السبب في إنشاء مقر خاتم الأنبياء، جاءت العقوبات الأمريكية لتثبت إقدام الكيان الاقتصادي أكثر وأكثر، يرى الخبراء الاقتصاديون في إيران أن العصر الذهبي لمقر خاتم الأنبياء هما الثماني سنوات، فترة ولاية الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، ففي تلك الفترة وقَّع مقر خاتم الأنبياء العديد من عقود الشراكة مع الحكومة، لتولّي عدد كبير من المشروعات.
وعندما اشتدّت ضراوة العقوبات الأمريكية على طهران بدءاً من عام 2011، توسعت مشاريع مقر خاتم الأنبياء، ليدخل سوق النفط الإيراني، وتولى المقر مشاريع عديدة لتطوير حقول النفط والغاز في البلاد.
حامد قدوسي، محلل اقتصادي إيراني، يرى أن تلك الفترة وبالأخص دخول مقر خاتم الأنبياء المجال النفطي هي نقطة التحول الكبيرة في تاريخ المقر، فيقول لـ "عربي بوست": "طموحات وأحلام القائمين على مقر خاتم الأنبياء تغيّرت وتبدّلت بدرجة كبيرة، بعد دخول مجال الاستثمارات النفطية، ومن ذلك اليوم بدأت الإمبراطورية الاقتصادية للحرس الثوري في النمو بسرعة كبيرة".
يرى قدوسي أن خاتم الأنبياء استطاع بكل سهولة التحول إلى عملاق اقتصادي كبير في فترة ولاية أحمدي نجاد، وأصبح من أهم الكيانات الاقتصادية الإيرانية التي تعقد صفقات دولية.
بداية من عام 2014 بدأ المقر في امتلاك العديد من الشركات الاستثمارية، إلى أن وصل عددها إلى 800 شركة، بحسب الصحفي الاقتصادي حسين رضا، يقول رضا لـ "عربي بوست": "عمل مقر خاتم الأنبياء بفروعه العديدة في كافة الأنشطة، فدخل في الاستثمار في مرافق النفط والغاز الطبيعي، والطاقة وإمدادات المياه، والصناعات البحرية والموانئ، والنقل البري والبحري، وصناعات التعدين والمناجم، وتكنولوجيا المعلومات، والزراعة، الصرف الصحي والبرامج الثقافية والتعليمية".
لم يتوقف الأمر عن هذا الحدِّ، فمقر خاتم الأنبياء يمتلك مركز بحوث كبيراً للغاية، أنشِئ هذا المركز في عام 2013، وتتركز مهمته على تحسين المعايير العلمية والاقتصادية، والأبحاث التي تهتم بتحقيق الاكتفاء الذاتي ومواجهة العقوبات الأمريكية.
يعمل في هذا المركز عددٌ كبير من خريجي الجامعات، كجزء من فترة تأدية الخدمة العسكرية الإلزامية، لم يكتفِ مقرُّ خاتم الأنبياء بالاستثمارات فقط، بل عمل على مواجهة الفقر في إيران.
يستخدم مقرُّ خاتم الأنبياء مصطلح مساعدة المناطق المحرومة، بدلاً من المناطق الفقيرة، يقول علي (اسم مستعار) وهو شاب من أحد العاملين في مركز بحوث مقر خاتم الأنبياء "إن المقرَّ في عام 2018 فقط أدار حوالي 80 مشروعاً لتنمية المناطق المحرومة، بميزانية تبلغ حوالي 140 مليون دولار".
يعمل مقر خاتم الأنبياء بشكل كبير في المحافظات الإيرانية الفقيرة، وخاصة الحدودية منها، فعلى سبيل المثال تولّى مهمة بناء ما يزيد عن ألفي مدرسة في محافظة سيستان وبلوشستان، وعندما وقع الزلزال المدمر عام 2017 في محافظة كرمانشاه، كان أول مَن بادر بإرسال الإغاثات والمساعدات للسكان.
مثلما فعل في الفيضانات العنيفة التي ضربت عدداً كبيراً من المدن الإيرانية، في مارس/آذار من العام الجاري.
يتولى المقر أيضاً مهمة توزيع الأدوية بشكل دوري منتظم، على أصحاب الأمراض المزمنة في تلك المناطق الفقيرة، وتوفير الأدوات المكتبية والدراسية لغير القادرين من الطلاب.
يقول علي، الباحث في مركز بحوث مقرّ خاتم الأنبياء: "المقر أيضاً يتولى الاهتمام بدور العبادة في تلك المناطق المحرومة، وإعادة بناء المباني الإدارية لرجال الدين هناك، وبناء النصب التذكارية للشهداء من سكان تلك المناطق".
انتقادات واسعة لدور مقر خاتم الأنبياء الاقتصادي
رويداً رويداً بدأت الانتقادات تتعالى، بسبب الدور الكبير الذي يلعبه الحرس الثوري في الاقتصاد الإيراني عن طريق مقر خاتم الأنبياء، وبدلاً من الإشادة بفضل خاتم الأنبياء في إعادة إعمار الدولة الإيرانية، بدأت الأصوات تطالب بخروج الحرس الثوري من الاقتصاد الإيراني؛ لكي يتمكن من التعافي، ويفتح المجال أمام شركات القطاع الخاص.
بدأت تلك الانتقادات من أكبر داعم لوجود الحرس الثوري في الاقتصاد الإيراني، فبعد أن كان الرئيس الإيراني الأسبق هاشمي رفسنجاني من أوائل الداعمين لإنشاء مقر خاتم الأنبياء، صرح قائلاً: "إن الحرس الثوري لن يكون سعيداً، إلا عندما تصبح الدولة بأكملها تحت سيطرته"، لدرجة أنه قال في أحد لقاءاته الصحفية القديمة: "لديهم الآن السلاح والمال، فكيف سنخرجهم من الاقتصاد؟".
ومن المدهش أنه حتى أشد المقربين للحرس الثوري في تلك الفترة انتقد الدور الكبير لمقر خاتم الأنبياء واحتكار السوق الإيرانية، ففي هذا الفيديو في عام 2011 قال أحمدي نجاد مازحاً أمام عدد كبير من قيادات الحرس الثوري ومقر خاتم الأنبياء، واصفاً الدور الاقتصادي المتنامي بسرعة جنونية للمقر "المهربين للإخوة".
لكن الصراع الأكبر بين خاتم الأنبياء والإدارة الإيرانية كان في عهد روحاني، في بداية فترته الرئاسية الأولى كان روحاني منشغلاً بالمحادثات النووية مع الغرب، وكان يريد أن يفوز بتأييد كبير من الحرس الثوري ورجال الدين لإكمال الصفقة النووية، فلم ينتقد مباشرة وعلانية الدور الاقتصادي الكبير واحتكار مقر خاتم الأنبياء لكافة المشروعات الاستثمارية في البلاد.
وقتها اكتفى المتحدث باسم الحكومة ومدير منظمة التخطيط والموازنة، محمد باقر نوبخت، بالقول إن الحكومة ستسند المشروعات الكبيرة فقط التي لا يستطيع القطاع الخاص إنجازها إلى مقر خاتم الأنبياء.
لكن وقتها ترددت شائعات بوجود خلافات صغيرة إلى حد ما بين روحاني والحرس الثوري، بسبب الدور الاقتصادي لمقر خاتم الأنبياء، وصرح حينها قائد الحرس الثوري محمد علي جعفري بأنه يأمل في أن تتفهم الإدارة الجديدة قدرة مقر خاتم الأنبياء على الاستثمار في السوق الإيرانية.
توقفت الأمور عند هذا الحد، لكن في بداية الفترة الرئاسية الثانية لروحاني بدأ الصراع يزيد بين الإدارة ومقر خاتم الأنبياء وقالها روحاني صراحةً وعلانيةً في أحد خطاباته السابقة: "لقد سلمنا الاقتصاد الإيراني إلى حكومة بالبنادق".
روحاني يُغضب قائد الحرس الثوري
أغضب وصف روحاني لمقر خاتم الأنبياء قائدَ الحرس الثوري وقتها؛ مما جعله يصرح قائلاً: "يقولون لنا إننا أصحاب سلاح، ونقول لهم إننا نملك سلاحاً يسحق عدونا، وإن حكومة بدون أسلحة تُسحق من أعدائها بكل سهولة".
لم يكتفِ الجنرال محمد جعفري بهذا الحد، بل تفاخر بعدد المشروعات التي أنجزها مقر خاتم الأنبياء، وأنه لولاه ما كانت الحكومة ولا القطاع الخاص استطاعا إنجاز نصفها، وأضاف أن حكومة روحاني مازالت مدينة بمبالغ كبيرة لمقر خاتم الأنبياء مقابل المشاريع التي قام بها المقر.
يرى المحلل الاقتصادي حامد قدوسي أن مقر خاتم الأنبياء هو السبب الأول والأكبر في المشاكل الحالية للاقتصاد الإيراني؛ فيقول لـ "عربي بوست": "خاتم الأنبياء توغَّل بصورة كبيرة جداً في السوق الإيرانية، احتكر كافة المجالات بدلاً من مساعدة الحكومة، وساعده في ذلك القوة التي استمدها من نفوذه العسكري وقربه من المرشد الأعلى، لدرجة جعلته ينهي وجود القطاع الخاص تماماً في إيران".
بعد إبرام الاتفاق النووي مع الغرب في عام 2015 توقَّع العديد من خبراء الاقتصاد والإيرانيين زيادة الاستثمارات الأجنبية في البلاد، وانتظر الجميع هذا الأمل، ولكن لم يتغير شيء وتدهورت الأوضاع الاقتصادية كأن اتفاقاً لم يوقَّع.
يُرجع قدوسي السبب إلى سيطرة الحرس الثوري على الاقتصاد الإيراني، فمقر خاتم الأنبياء مدرج على قائمة المنظمات الإرهابية التابعة للولايات المتحدة، وأغلب المستثمرين الأجانب خشَوا من الاستثمار مع كيان تدعي الولايات المتحدة المسيطرة على النظام المالي والتجاري العالمي أنه إرهابي.
يقول قدوسي: "كان لابد من دخول القطاع الخاص بقوة في تلك الأيام، فمن يريد أن يأتي إلى بلد يتعافى من العقوبات ليستثمر مع مؤسسة مالية يسيطر عليها عسكريون، الأمر مثير للريبة".
حينها حاول قائد مقر خاتم الأنبياء نفى تلك الاتهامات عن المقر؛ فصرح قائلاً إن خاتم الأنبياء لم تحتكر السوق الإيرانية، والدليل أنها تتعامل مع حوالي 5 آلاف شركة من القطاع الخاص الإيراني لتنفيذ مشاريع البناء وغيرها من المشروعات بشكل مشترك.
وفي هذا الصدد يرى الصحفي الاقتصادي الإيراني حسين رضا أن تلك الشركات التي تحدث عنها الجنرال عبدالله، قائد مقر خاتم الأنبياء، كلها في النهاية تابعة للحرس الثوري بشكل أو بآخر، فيقول رضا: "في محاولة من خاتم الأنبياء للتهرب من العقوبات الأمريكية، كانوا ينشئون شركات صغيرة مدَّعين أنها شركات تابعة للقطاع الخاص الإيراني لتتمكن من التعامل مع الشركات الدولية الأجنبية، دون الوقوع في فخ العقوبات، لكن بدلاً من أن تفيد تلك الشركات الاقتصاد الإيراني، ساعدت في تدميره؛ لأن وزارة الخزانة الأمريكية كل فترة من الوقت تكتشف وتحدد تلك الشركات وتدرجها على قوائم العقوبات، فأدت كل تلك الأمور إلى هروب المستثمر الأجنبي خوفاً من كل تلك المشاكل".
هكذا يرى المسؤولون في خاتم الأنبياء دورهم
لكن يبدو أن الأمر مختلف داخل خاتم الأنبياء، تواصل "عربي بوست" مع أحد المسؤولين الكبار في إحدى الشركات التابعة للمقر، بشريطة عدم الكشف عن هويته، يوضح لنا وجهة النظر الأخرى بعد كل تلك الانتقادات الموجهة لخاتم الأنبياء.
يقول المصدر المسؤول لـ "عربي بوست": "لولا الحرس الثوري وخاتم الأنبياء لكانت إيران مازالت في دمار الحرب والعقوبات، فالكل داخل إيران مدين لخاتم الأنبياء بالدور الاقتصادي الكبير الذي لعبه في البلاد".
ويرى المسؤول أن خاتم الأنبياء منظمة ساعدت على خلق الآلاف من فرص العمل للشباب الإيراني، بجانب دورها الكبير في عمليات الإغاثة من الكوارث الطبيعة وإمداد المناطق الفقيرة بالموارد اللازمة، وهو الدور الذي لم تستطِع فعله الحكومة.
فيقول: "أقرب مثال ما حدث في الفيضانات في الأشهر الأخيرة، فلولا جهود الحرس الثوري ومؤسساته المختلفة لكانت غرقت إيران بالكامل تحت الفيضانات".
في حقيقة الأمر يرى أغلب المراقبين للشأن الاقتصادي لإيران أنه لولا سيطرة الحرس الثوري على الاقتصاد، لكان الوضع أفضل ولو قليلاً من الآن، فأبسط دليل هناك العديد من القطاعات الاقتصادية في البلاد تعرضت للعقوبات بسبب شراكتها مع الحرس الثوري، وهناك العديد من الشركات الاستثمارية الإيرانية خارج البلاد تم وقف التعامل معها بسبب خوف البلاد المضيفة من العقوبات الأمريكية لو تمَّ إثبات تعامل تلك الشركات الإيرانية مع الحرس الثوري.
يقول البرلماني السابق أحمد توكلي والمعارض لدور خاتم الأنبياء الاقتصادي: "لقد تم جلب الحرس الثوري إلى الاقتصاد بضجة، والآن لا يمكن طردهم بسهولة".