اكتشف فريق علمي دولي، يقوده معهد ماكس بلانك لعلوم تاريخ الإنسان، أول دليل وراثي مباشر على طاعون جستنيان في الجزر البريطانية، الذي يعتقد أنه كان أحد الأسباب الرئيسية لسقوط الإمبراطورية الرومانية، بحسب تقرير لموقع The Daily Beast الأمريكي.
وعُثر على الدليل بالقرب من موقع إديكس هيل الأثري الأنجلو ساكسوني في جنوب كامبردجشاير. لذلك قد تعطينا هذه البقايا نظرةً جديدةً على المرض، الذي ساعد في إسقاط واحدة من أعظم الإمبراطوريات التي شهدها التاريخ، وحلّ أحد أعظم أسرار التاريخ.
في منتصف القرن الثاني الميلادي كان الرومان هم القوة الأبرز في العالم. امتدت الإمبراطورية من شمال بريطانيا غرباً، إلى الصحراء الكبرى جنوباً. وبعد خمسة قرون تآكل الكثير من تلك الإمبراطورية أو انهار. لقد أصبحت على حدِّ تعبير المؤرِّخ كايل هاربر "بقايا دولة بيزنطية صغيرة". ومن المؤكد أن روما عانت من خسائر عسكرية، بما في ذلك "عمليات نهب" متعددة مدمرة لروما، لكن هذه وحدها لا يمكن أن تتسبَّب في زوال روما، كيف حدث هذا التحوُّل الذي يطلق عليه في بعض الأحيان أكبر نكسة في تاريخ الحضارة الإنسانية؟
الأسباب التي دمَّرت الإمبراطورية الرومانية
وتشير كتب أكاديمية وتجارية شهيرة نشرت مؤخراً، أحدثها الكتاب الذي ألفه هاربر "The Fate of Rome: Climate, Disease and the End of Empire" (مصير روما: المناخ والأمراض ونهاية الإمبراطورية)، إلى أن تغير المناخ والعوامل البيئية كانت السبب الرئيسي لسقوط الإمبراطورية الرومانية.
وذُكِرَ عاملان بيئيان يُعدَّان سببين رئيسيين لسقوط روما: الأول هو طاعون جستنيان السابق ذكره، وهو وباء طاعون دملي، وصل إلى الإمبراطورية الرومانية حوالي عام 541 ميلادياً، وظهر بعدها من جديد بشكل متقطع في جميع أنحاء المنطقة على مدى القرنين التاليين. يبرز الطاعون بوضوح في العديد من التأريخات الحديثة لسقوط الإمبراطورية، وهو معروف لدينا من كُتاب القرن السادس عشر، مثل المؤرخ البيزنطي بروكوبيوس ومؤرخ الكنيسة السريانية يوحنا الأفسسي. يصف المؤرخان المرض الذي تسبَّب في حميات، ودمامل متورمة، وهلوسة.
وكشف تحليل الحمض النووي لبقايا الهيكل العظمي الذي يعود للقرن السادس، أن المرض كان طاعوناً دملياً. وقد قدَّر هاربر أن معدلات الوفيات خلال الوباء الأول كانت مرتفعة لما يتراوح بين 50 و60% من إجمالي سكان الإمبراطورية. وكتب مؤرخ العصور الوسطى ليستر ليتل، محرر كتاب "Plague and the End of Antiquity" (الطاعون ونهاية العصور القديمة)، أن الطاعون ساعد في "الخوض في العصور الوسطى".
والثاني هو مجموعة من التغييرات البيئية التي تشمل ما يسمى بـ "حدث الغبار الحاجب" (أو ربما كانت هذه كارثة، لكنها معروفة بشكل عام باسم "the Dust Veil Event")، الذي وقع عامي 535-536 وكان سببه الانفجارات البركانية، وتلاه ما يسمى بـ "العصر الجليدي الصغير في أواخر العصور القديمة"، وهي فترة باردة في القرنين السادس والسابع. يقول بروكوبيوس: "خلال الأعوام بين 535 و546 ميلادياً، وقع نذير شؤم مفزع… أعطت الشمس نورها بدون سطوع.
وبدا وكأنها أشبه بالشمس في الكسوف، لأن أشعتها لم تكن صافية". تشير أدلةٌ من أماكن أخرى حول العالم إلى حدوث شيء "كبير" في هذه الفترة، شوهد ضباب كثيف في الصين وأوروبا، وحدث جفاف في بيرو، وسقطت الثلوج خلال أشهر الصيف في الصين، وتشير السجلات السنوية الأيرلندية أيضاً إلى تلف المحاصيل.
دلائل من الطبيعة
كشف التحليل العلمي لطبقات الأشجار الذي أجراه مايك بيلي، الباحث بجامعة كوينز في بلفاست، أن نمو البلوط الأيرلندي كان محدوداً للغاية عام 536 (مع انخفاضٍ ثانٍ عام 542). وكشف تحليل عينة لبية جليدية من غرينلاند والقارة القطبية الجنوبية عن رواسب كبيرة من الكبريتات في عام 534 (تزيد عامين أو تنقص)، مما يوحي بوجود غبار حمضي في الغلاف الجوي. تبع ثوران هذه البراكين، وفقاً للعالم أولف بونتغن، ما يسمى بـ "لاليا"، وهي فترة انخفضت فيها درجات الحرارة بشدة في جميع أنحاء أوروبا، واستمرت من 536 إلى 660م.
ما يثير الإعجاب حول هذا العمل هو الطريقة التي يفتح بها إمكانية العمل المشترك متعدد التخصصات بحق بين العلماء والمؤرخين. شارك المؤرخ المشهور مايكل ماكورميك في كتابة المقال الأخير في "دورية وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم بالولايات المتحدة الأمريكية" (PNAS). ينبغي الإشادة بأعمال هاربر وماكورميك وليتل وغيرهم، لأخذهم العوامل البيئية في الاعتبار على محمل الجد. تضمَّنَت العديد من المنشورات التي راجعها غيرهم، والتي خرجت في هذا المجال من البحث بمجموعات من المؤلفين من تخصصات التاريخ ومن العلوم الطبيعية. في الوقت نفسه، يحتاج هذا النهج الجديد والمثير إلى بعض التغييرات والتبديلات الجادة، بحسب الموقع الأمريكي.
مشاكل مثل هذه الأبحاث
لَفَتَ مقالٌ نُشِرَ مؤخراً في دورية "Journal of Late Antiquity" للمؤرخة كريستينا سيسا، الأستاذة في جامعة ولاية أوهايو، الانتباه إلى بعض المشكلات التي تكمن في هذا النوع من الأبحاث. الأولى هي استخدام دليل وسيط لقياس التغيرات البيئية، وهذا دليلٌ استُخلِصَ من فترة زمنية أو منطقة جغرافية مقاربة (أو في بعض الأحيان ليست مقاربة للغاية)، لأن الأدلة المتعلقة بهذا الوقت والمكان المعينين غير موجودة، أو لا يتاح الوصول إليها اليوم. بالنظر إلى تباين أنماط الطقس الإقليمية وفي مناطق محددة، على سبيل المثال، هل ينطبق تحليل حلقات الأشجار من وسط أوروبا وجنوب شرق روسيا بشكل عالمي على منطقة البحر المتوسط القديمة؟
في بعض الأحيان لا تقدم التغيرات العامة، رغم صحتها، وصفاً دقيقاً للظواهر المحلية. لذلك فبينما يمكن القول إن القرنين السادس والسابع الميلاديين كانا أبرد وأكثر رطوبة من القرون التي سبقتهما، فإن عالمة الآثار بولا كوكي عندما ذهبت للبحث في مدى ارتباط أنماط الاستيطان القديمة في الأردن بأنماط الطقس، وجدت أن الطقس الجيد لا يرتبط دائماً بازدهار المجتمعات. كانت كوكي تنظر إلى القرنين السادس والسابع، وهي الفترة نفسها التي يُفتَرَض أن "التراجع" بدأ فيها، لكن نتائج بحثها لم تتوافق مع الافتراضات القائمة على نطاق واسع حول تغير المناخ وإعادة التوطين. كما تقول سيسا: "عندما ننتقل من المستوى الكلي إلى المستوى الجزئي الإقليمي، يكون من الواضح أن النشاطات المناخية والبشرية غالباً ما تكون العلاقة السببية بينهما بسيطة".
دليل وجود الطاعون
أما بالنسبة لأدلة الطاعون، فإن سيسا تحذِّر من استخلاص استنتاجات كبرى حول وفاة عشرات الملايين من الأدلة الأثرية المحدودة. وتسلط الضوء على أنه وقت نشر مقالها في الصحافة، كانت لدينا بقايا جسدية "لعشرة أشخاص على وجه التحديد نعرف أنهم ماتوا بالطاعون في القرن السادس"، وهذه الجثث هي من أجزاء نائية من الإمبراطورية الرومانية. بالطبع، كما لاحظ هاربر، يمكن أن يكون هذا دليلاً على استشراء الطاعون وانتشاره على نطاق واسع. من جانب آخر، وحتى مع تقديم الاكتشاف الجديد لأول دليل وراثي على طاعون جستنيان في الجزر البريطانية، فإن أدلتنا محدودة بعض الشيء (الدراسة الجديدة تصل بالعدد الإجمالي للبقايا إلى 30).
بالنسبة لعلماء الوراثة، الذين يهتمون بأدلة الجينوم، فإن عدد الأجساد لا يهم حقاً. لكن بالنسبة للمؤرخين، الذين يريدون معرفة عدد الأشخاص الذين ماتوا، فإن الأمر يشكِّل قضيةً مُلِحَّة. تعتمد البيانات المتعلقة بعدد من ماتوا على نماذج لانتشار الطاعون، تأتي اختلاف الكثافة السكانية عبر الفترات الزمنية. بالنظر إلى أهمية الكثافة السكانية في نشر المرض (أي أنه كلما كان الناس يعيشون أقرب مع بعضهم البعض، كلما ازداد انتشار العدوى، وبالتالي انتشار المرض بشكل أسرع) فإن ذلك ينبغي أن يدفعنا للتشكك.
لا تصبح الأمور أسهل عندما ننتقل من الدليل العلمي إلى الدليل الأدبي. ادَّعى البعض أن النظرة المُروِّعة للحياة والاهتمام بنهاية العالم التي نجدها في كتابات المؤلفين المسيحيين القدامى المتأخرين هي دليل على آثار الطاعون على الشعوب القديمة. وتقول الفرضية إنه مع وجود الموت حرفياً عند الباب، بدأ المسيحيون في التفكير في العالم باعتباره حلبة معركة بين الخير والشر، بحسب الموقع الأمريكي.
الخلاف بين التصور العلمي والأدبي
وبحسب الموقع الأمريكي تكمن مشكلة هذا التصوُّر في أنه يتجاهل الاهتمام المسيحي واسع النطاق، السابق على طاعون جستنيان، بنهاية العالم. خوفاً من جعل المسيحيين بالعصور القديمة المتأخرة يبدون وكأنهم حفنة من الأشخاص الغارقين في الدراما، فإن معظم الأدب المسيحي كان مُروِّعاً ويحوي على الأقل كماً من الاهتمام بنهاية العالم، وتبعاته، والقوى الكونية المتنافسة التي توجد في العالم في الحاضر. وعلى النقيض من اعتقاد العلماء في بعض الأحيان، فإن المسيحيين لا يحتاجون إلى أسباب سياسية أو بيئية حتى يهتموا بنهاية العالم والأفكار المتعلقة به. إنها طريقة مهمة في التفكير والكتابة وتؤدي وظيفة دينية هامة في غير أوقات الأزمات.
ولعل أكبر مشكلة هي إرجاع سقوط الإمبراطورية بأكملها إلى سلسلة واحدة من الأحداث البيئية غير البشرية. وبينما تحرص الدراسات الحديثة مثل دراسة هاربر على تجنب ذلك، فإن بعضها يُرجع كل شيء من صعود المسيحية إلى سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى مجموعةٍ واحدة من الأحداث البركانية، بالتأكيد الأمر أكثر تعقيداً من هذا.
هل ساهم الطاعون في التحوُّلات على الساحة الاجتماعية السياسية في القرن السادس؟ قطعاً، لكن ذلك لم يحدث في الفراغ. واحدةٌ من أغرب الأشياء في جعل تغير المناخ هو سبب سقوط الإمبراطورية الرومانية هي الطريقة التي تُجرَّد بها الأحداث من الفاعلين البشريين. قالت سيسا لموقع The Daily Beast الأمريكي: "أحد الأشياء الأخرى المثيرة للفضول حول موضوع "السقوط البيئي لروما" هو أنه مع كل تأكيده على تأثير المواد، فقد ابتعد للغاية عن تفسير التفاعل البشري مع تغير المناخ، ليترك الفاعلين البشريين كفكرة ثانوية… يبدو أن البراكين والميكروبات وكل شيء تقريباً وراء الأزمة البيئية في الإمبراطورية الرومانية المتأخرة إلا الرومان أنفسهم".
لماذا يهتم الناس بسقوط الإمبراطورية الرومانية؟
ولعل السؤال الأكثر إلحاحاً هو لماذا يهتم الناس بما أطلق عليه إدوارد جيبون "تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية". عندما يتعلق الأمر باضمحلال الحضارات السابقة وانهيارها، لا توجد إمبراطورية تأسر الجماهير بقدر ما يفعل الرومان. ربما يرجع السبب في ذلك إلى أن الكثير من المنشآت الحكومية في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية مستمدة من مشاريع البناء الرومانية القديمة، وأن الولايات المتحدة استعارت النسر من الدعاية الرومانية، أو أن الآباء المؤسسين لأمريكا والأيديولوجيات التعليمية الغربية غالباً ما يعودون إلى أيام المجد المفترضة لروما عندما يتحدثون عن مُثلهم العليا وهويتهم، بحسب الموقع الأمريكي.
من نواحٍ كثيرة، فإن السبب الذي جعل النظريات البيئية لسقوط روما تجذب انتباه وسائل الإعلام الشعبية في القرن الحادي والعشرين هو تردد صدى روما وتغير المناخ في عصرنا. يحتل تغير المناخ مكانة متقدمة على جدول الأعمال السياسي (توضيح: أعتقد أن ذلك ضروري)، وهوسنا الثقافي بالتعريف عن أنفسنا من خلال الرومان، يعني أنه من الممكن الاستفادة من الماضي لتقديم ادعاءات سياسية حول الحاضر. المشكلة هي أن الجميع يستخدم هذه الحيلة: كما أوضح المؤرخ أندرو جيليت، فإن اليمين المحافظ يحب استخدام "الغزوات البربرية" التي نهبت روما كتحذير سابق من مخاطر الهجرة. وعلى حدِّ تعبير سيسا "حقيقة أن المحافظين الجدد مثل نيال فيرجسون استحضروا سقوط روما لتحذير المجتمع الغربي وتخويفه من المهاجرين والمجتمع متعدد الثقافات خشية أن ينتهي بهم المطاف مثل الرومان، ينبغي أن يوقفنا عن استخدام هذه الرواية". للأسف، بالنسبة لكل منا، لا يقتصر توجيه التاريخ و "دروسه" فقط على من نتفق معهم، إنه جزء من تيار مهووس بنفسه بقدر ما هو قوي.