في شهر مايو/أيار من عام 2017، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية وجهةً لأول زيارةٍ خارجية يُجريها بعد توليه الرئاسة، ورأى بعض حلفاء أمريكا في الخليج آنذاك أنَّ هذه الزيارة تُمثِّل "فرصة العمر" لإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بعد حقبةٍ من الانتفاضات الشعبية في المنطقة، والتوترات مع أوباما سلف ترامب بسبب إيران. وفي "القمة العربية الإسلامية الأمريكية" التي عُقِدت آنذاك، ناقش الحاضرون أجندةً مشتركة للسنوات المقبلة تحت قيادةٍ سعودية، تتضمَّن "استراتيجية لكبح نفوذ إيران، والقضاء على السياسات الطائفية في بلدانٍ مثل العراق، ومكافحة التطرف، وإحياء عملية السلام العربية الإسرائيلية، واحتواء الصراعات المحتدمة".
لكن الآن، بعد ذلك بعامين، أسفر تعاون حلفاء واشنطن الإقليميين عن حالةٍ من الفوضى كما تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية. التي ترى أنَّ هذه القمة كانت من الأسباب المباشرة لاندلاع العديد من الأزمات الأكثر إلحاحاً في المنطقة، بدءاً من حصار قطر، الذي بدأ قبل عامين، إلى اندلاع الحرب مجدداً في ليبيا في أبريل/نيسان الماضي. فكتلة الدول التي تقودها السعودية، والتي تشكَّلت قبل عامين، بعيدة تماماً عن تحقيق أهدافها الجماعية، وأعاقت نفسها في الغالب، وبدأ أعضاؤها ينقلبون على بعضهم البعض.
خلافات "الناتو العربي" المخفية.. الإخوة الأعداء
انسحبت مصر مؤخراً من التحالف الاستراتيجي المقترح إقامته في الشرق الأوسط، الذي يُطلَق عليه اسم "الناتو العربي"، بعد خلافٍ حاد مع المملكة العربية السعودية. وبحسب الفورين بوليسي، وفقاً لدبلوماسي عربي مُطَّلع على الاجتماعات رفيعة المستوى التي سبقت الانسحاب، اعترضت القاهرة على أسلوب القيادة الذين تنتهجه الرياض؛ فالسعوديون لم يحددوا دور كل دولة ولا الغرض المحدد للتحالف، واعتبروا مشاركة بعض الدول فيه، مثل مصر "أمراً مضموناً".
وكان المسؤولون السعوديون ينتظرون من شركائهم العرب أن يوقِّعوا على وثيقةٍ مُعَدَّةٍ سلفاً، دون نقاشاتٍ كثيرة، قبل تقديمها رسمياً إلى واشنطن. وبوجهٍ أعم استاء المسؤولون المصريون من الطريقة التي تعاملت بها السعودية والإمارات مع مصر، معتبرين إيَّاها شريكاً أدنى منزلةً، بسبب المساعدات المالية التي قدمتها الدولتان لمصر بعد الانقلاب الذي أوصل الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى السلطة في عام 2013. لكن هناك كذلك اختلافات جوهرية في لُبِّ النقاط التي يُفترض الاتفاق عليها؛ إذ ذكر الدبلوماسي العربي أنَّ الجانبين مختلفان حول كيفية التعامل مع الحروب في اليمن وليبيا.
وكذلك فالسعودية والإمارات ليستا متفقتين دائماً مع بعضهما البعض، لاسيما بشأن قضية اليمن. وبعض المسؤولين الإماراتيين والسعوديين يعترفون سراً بمثل هذه الاختلافات، ومن بينها أنَّ الإمارات اعترضت على تخطيط السعودية للتعاون مع حزب الإصلاح الإسلامي، ولديه شبكاتٌ عميقة في اليمن، ولجأت بدلاً من ذلك إلى تشكيل عددٍ متزايد من الميليشيات التابعة لها. وسعت الإمارات كذلك إلى تنحية عبد ربه منصور هادي، رئيس الحكومة اليمنية المدعومة من السعودية، الذي يقيم الآن في المملكة العربية السعودية.
وفي الوقت نفسه، كثيراً ما يعترض المسؤولون السعوديون على التنازلات التي يشعرون بأنهم مُلزَمون بتقديمها لإبقاء الإماراتيين ضِمن التحالف. فوفقاً لمصدرٍ سعودي على اتصالٍ بدوائر مسؤولين نافذين في السعودية، نقلت عنه المجلة الأمريكية، شهد العام الماضي اندلاع جدلٍ حاد في السعودية حول ما إذا كانت المصالح الإماراتية الخاصة قد أسهمت إسهاماً أكبر من اللازم في تشكيل سياسة السعودية الإقليمية، بما في ذلك دعم الرياض للانقلاب في مصر في عام 2013، والتحريض على النزاع مع قطر في عام 2017، وحرب الوكالة المستمرة في ليبيا. فالنهج السعودي الحالي معاكس تماماً للنهج الذي ظهر مدةً وجيزة في أوائل عام 2015، حين سعت المملكة العربية السعودية إلى بناء تحالف واسع النطاق تضمَّن إصلاح العلاقات مع تركيا، قبل أن تتسبب حرب اليمن في تقريب الرياض إلى أبوظبي.
خلافات كبيرة حول الأعضاء.. مَن يخضع لمن؟
وكذلك يتزايد الخلاف داخل دول الكتلة التي تقودها السعودية. فإمارة دبي، على سبيل المثال، تعتقد أنَّ اقتصادها تضرَّر ضرراً مباشراً بسبب السياسية الإقليمية العدوانية التي تتبعها إمارة أبوظبي. فلطالما كانت أولوية دبي هي تشجيع السياحة والتجارة والاستثمار الأجنبي، مع تجنُّب النزاعات الإقليمية.
لكنَّ الحرب المستمرة في اليمن، والحصار المفروض على قطر، والقيود الأمنية الداخلية المفروضة في جميع أنحاء الإمارات العربية المتحدة من جانب إمارة أبوظبي ذات الهيمنة المتزايدة، أثَّرت سلباً في اقتصاد دبي. إذ يُقدِّر بعض الخبراء أنَّ دبي تخسر 5 مليارات دولار سنوياً بسبب توقف التجارة مع قطر وحركة النقل منها وإليها، حتى دون حساب الخسائر الأخرى الناتجة عن توقف السياحة، والأنشطة التجارية الأخرى، والخسائر التي تتكبدها شركة طيران الإمارات بسبب تجنُّب استخدام المجال الجوي القطري. وقال أندرياس كريغ، الأستاذ المساعد في كلية كينغز في لندن: "لقد كانت آثار الأزمة الخليجية أشد وطأةً في دبي. ربما تكون الأضرار الاقتصادية التي لحقت بدبي من جرَّاء الأزمة أكبر بكثير من تلك التي لحقت بقطر".
وصحيحٌ أنَّ دبي لم تُعلِن قط استياءها من سياسة الإمارات الخارجية، لكنَّ هذا الاختلاف بين الإماراتين حول كيفية التعامل مع النزاعات يمكن ملاحظته بسهولة داخل المنطقة. ولعل أبرز مثالٍ على ذلك هو سلسلة التغريدات التي نشرها الشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، في أغسطس/آب من العام الماضي، والتي فسَّرها الكثيرون عبر وسائل الإعلام العربية على أنَّها تتحدث ضمنياً عن نهج البلاد في المنطقة.
إذ وصفت التغريدات، التي كُتِبَت تحت عنوان "علمتني الحياة"، إستراتيجية دبي بأنَّها تركز على السياسات المحلية بدلاً من النزاعات الإقليمية. وحتى لو لم يكن المقصود من هذه التغريدات هو انتقاد أبوظبي، فقد أظهرت بوضوحٍ رؤيةً بديلة للتعامل مع شؤون المنطقة. إذ قال محمد بن راشد في إحداها: "وظيفة السياسي الحقيقية هي تسهيل حياة الاقتصادي والأكاديمي ورجل الأعمال والإعلامي وغيرهم. وظيفة السياسي تسهيل حياة الشعوب، وحل الأزمات بدلاً من افتعالها… وبناء المنجزات بدلاً من هدمها".
وقد تجَّلت اختلافاتٌ متزايدة من هذا النوع في الشهر الماضي مايو/أيار في مكالمةٍ هاتفية بين رئيس الوزراء البحريني وأمير قطر بمناسبة بداية شهر رمضان. فبعد انتشار أنباء المكالمة، أكدت وكالة الأنباء الحكومية في البحرين إجراء الاتصال، لكنَّها نقلت عن وزير شؤون مجلس الوزراء البحريني تصريحه "السخيف غير المنطقي" بأنَّ مكالمة رئيس الوزراء لا تمثل الموقف الرسمي للبحرين تجاه قطر، ولن "تؤثر في التزامات (البحرين) تجاه المملكة العربية السعودية".
يرى الكثيرون أنَّ مقاطعة البحرين لقطر مجرَّد خضوعٍ للإرادة السعودية، وليست نابعةً من مظالم بحرينية خاصة. فالبحرين إحدى الدول الأكثر تضرراً بسبب الحصار، من ناحية التجارة والسياحة والاستثمار، فضلاً عن أنَّ بعض المسؤولين البحرينيين، مثل رئيس الوزراء، لم يكونوا موافقين على هذه الخطوة.
انعدام الثقة بالقيادة السعودية
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ هذه الدينامية توضِّح عيباً رئيسياً في التحالف العربي: وهو انعدام الثقة في القيادة السعودية المحتملة. ومع تصاعد إخفاقات السياسة العامة بمرور الوقت، يرغب كلٌّ من الحلفاء رغبةً متزايدة في فرض مصالحه على الآخرين. والشيء الوحيد الذي يميلون إلى الاتفاق عليه هو الحفاظ على التحالف الشكلي فقط، وهو ما يُسفر عن تأثيرٍ ضار، يتمثل في السماح للسياسات الفاشلة والصراعات بالاستمرار بالقصور الذاتي دون حل. وقد وصف الدبلوماسي العربي هذه المعضلة بـ "مشكلة المحرضين المتعددين"، إذ يجب أن تتفق الإمارات والسعودية معاً على إنهاء الصراع في اليمن، ولا يمكن للأخيرة أن تتوصل وحدها إلى تسويةٍ مع قطر دون الأخذ في الاعتبار ما يراه البعض المطالب الإماراتية الأكثر تزمُّتاً، الساعية إلى إجراء تغييرٍ داخل قطر والمنطقة ككل.
هذه هي الوصفة المتسببة في الفوضى المتصاعدة الواضحة في المنطقة اليوم، حيث يتغلَّب الانقسام والخوف على الوحدة والاستقرار. وهي تُمثِّل كذلك الإرث المحزن لأول زيارةٍ خارجية أجراها ترامب منذ عامين.