"إيران أغرقت حاملة طائرات أمريكية" حدث هذا بالفعل، ولكن في مناورة للجيش الأمريكي تهدف إلى التعرف على نتيجة المواجهة البحرية بين أمريكا وإيران.
نعم، هناك فارق ساحق بين القوى البحرية الأمريكية والإيرانية، ولكن الأمور ليست بهذه البساطة، فهناك عديد من العوامل التي ستحدد نتيجة أي حرب محتملة بين البلدين، حسبما ورد في تقرير نُشر بمجلة The National Interest الأمريكية كتبه جيمس هولمز أستاذ كرسي الاستراتيجية البحرية بكلية الحرب البحرية الأمريكية، ومؤلف الدليل الموجز للاستراتيجية البحرية الذي سيصدر قريباً.
يقول هولمز إن هناك عديداً من التساؤلات حول التطورات في منطقة الخليج: هل ستُغلق إيران مضيق هرمز؟ هل تستطيع ذلك؟ وهل ستردُّ الولايات المتحدة بقوة السلاح في حال حاولت طهران ذلك؟
ربما يحدث ذلك، إذ حدثت واقعةٌ سابقة: حين هاجمت إيران سفن التجارة والشحن البحري خلال "حرب الناقلات" في الثمانينيات خلال الحرب العراقية الإيرانية، كانت إيران تستهدف آنذاك أرباح العراق، من الصادرات النفطية.
أمريكا لا تعتمد على نفط الخليج.. فلماذا تهتم بهذه المنطقة؟
اليوم الولايات المتحدة، الشيطان الأكبر بالنسبة للملالي، لا تعتمد على التجارة التي تمر بالخليج الفارسي (العربي) مثل العراق في عهد صدام حسين. ولكن واشنطن لها مصالحها المهمة بهذا الممر المائي المتنازع عليه، وهو ما يمنح طهران فرصةً لإيذاء الولايات المتحدة في حال اختارت ذلك.
ربما لا تعتمد أمريكا على النفط والغاز الطبيعي الآتي من الخليج، لكن الحلفاء والشركاء التجاريين لواشنطن يعتمدون عليه.
وتحتفظ الولايات المتحدة بتحالفات وثيقة في المنطقة مع مجلس التعاون الخليجي، لكن قد تتهرب هذه الدول من هذه الالتزامات في حال الخطر.
ولا يمكن أن تسمح واشنطن لجزءٍ كبير من القوة البحرية الأمريكية، أي الأسطول الخامس المتمركز في البحرين، بأن تنقطع به السبل، لأنَّ القوات الإيرانية تقطع الطريق بين مياه الخليج والمحيط الهندي الأوسع.
ويجب على الولايات المتحدة أن تقاتل لدعم موقفها هناك، دون أن تصل إلى مرحلةٍ تُصبح مُجبرةً فيها على مغادرة منطقة الخليج، حسب تقرير المجلة الأمريكية.
ما هي نتيجة المواجهة البحرية بين أمريكا وإيران في ظل الجغرافيا المعقدة للخليج؟
إنَّ التوقُّع هو مسعى عقيم وسط عالَم السياسة والحروب الدولية المتقلب، ولكن من الممكن أن نستشفَّ بعض الخطوط العريضة لحربٍ بَحرية بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة.
وبإمكان إيران أن تستغل الجغرافيا لمصلحتها عن طريق شنِّ حرب بَحرية غير منتظمة داخل وحول مضيق هرمز، إذ يحفظ البحارة الإيرانيون هذه المنطقة عن ظهر قلب. ولا ينبغي أبداً التقليل من أفضلية صاحب الأرض.
يتراوح عرض هذا البحر الضيق بين 18 و51 ميلاً بحرياً تقريباً، ويكفي عُمقه لتظل الغواصات تحت الماء وتتجنب الظهور في أثناء عبورها. لكن ممر الشحن يضيق ليصل إلى 1.6 ميل بحري فقط في أقصى شمالي ممر العبور، ويُعزى ذلك بشكلٍ أساسي إلى أن المياه ضحلة جداً في بعض الأماكن، حتى تسمح بمرور سفن السحب العميق بأمان.
ولا يمكن أن تأخذ حركة المرور مساراً مستقيماً بمضيق هرمز، على غرار ما يحدث في مضيق باب المندب غرب شبه الجزيرة العربية مثلاً.
إذ تأخذ السفن مساراً شمالياً، ثم تنعطف بحدَّة إلى اليسار نحو الجنوب الغربي قُبالة الطرف الشمالي من سلطنة عمان، قبل أن تميل بشكل طفيف إلى اليمين، لتمضي قدماً إلى الغرب.
لذا يتطلب الإبحار في مضيق هرمز عبور مسارٍ طويل إلى حد ما، مع القيام بمناورةٍ حادة في مكان يمكن التنبؤ به على الخريطة؛ ومن ثم يمكن استهدافه بسهولة.
هكذا ستحاول إيران استغلال تضاريس مضيق هرمز
ولا تُشكِّل تضاريس المضيق متاعب جمة في ظروف أوقات السِّلم المعتادة، لكن الأمر يختلف في أثناء الحرب.
إذ تعبر السفن تحت التهديد المستمر من الأسلحة الإيرانية المضادة للسفن، والمنصوبة على الشاطئ، مثل صواريخ كروز والطائرات التكتيكية، فضلاً عن الأسراب الصغيرة من المقاتلين التابعين للحرس الثوري الإيراني على السطح، إلى جانب أساطيل الجمهورية الإسلامية المتواضعة من زارعي الألغام وغواصات الديزل الروسية من طراز كيلو، والتي تزيد المشكلة تعقيداً.
وتُشكِّل مثل هذه الأسلحة تحدِّياً في المياه المفتوحة، وتهديداً حقيقياً في المياه الضيقة، حيث يكون أمام السفن مساحة محدودة للمناورة من أجل الأغراض الدفاعية أو الهجومية.
لكن هذه ليست العقبة الأخيرة أمام الحركة البحرية؛ إذ ينبغي أن تمُرَّ السُفن العابرة قرب جزر أبو موسى وطنب بعد الخروج من المضيق، وهي الجزر المُتنازع عليها بين إيران والإمارات العربية المتحدة، ولكنها تخضع للسيطرة العسكرية الإيرانية.
وباختصار صُمِّم هذا الوضع خصوصاً من أجل قوة محلية أضعف مثل إيران، حتى تضع استراتيجية فعالة للتحكم في الوصول إلى المنطقة أو الحرمان منها، وهو ما يُسبِّب المتاعب للخصوم المحليين والأجانب الأقوياء.
فالمواجهة لن تكون في شكل حرب تقليدية
وربما تحظى إيران بأفضلية واضحة نتيجةً لتلك الاستراتيجية. وفي ضوء هذه الجغرافيا الوعرة؛ فإن الحرب بين الولايات المتحدة وإيران لن تكون حرباً بَحرية فقط بالمعنى الدقيق للكلمة، ولن تكون هناك مواجهاتٌ بين أساطيل متقاربة القوة في المحيطات المفتوحة.
ولا تحتاج إيران الموارد اللازمة لحرب تقليدية حتى تحقق أهدافها، ولا يتطلب الأمر وجود منصات هائلة مثل حاملات الطائرات، أو الطرادات، أو المدمرات لإغلاق المياه الضيقة.
إذ يستطيع المدافعون الإيرانيون استخدام الألغام البحرية، أو الغواصات، أو أسطول من القوارب السريعة، لمضايقة مرور السفن أو إيقافها تماماً.
إنها حرب عصابات بَحرية
وتُشبِهُ الاستراتيجية البحرية الإيرانية حرب العصابات، وليس الحرب البحرية التقليدية. إذ سيُركِّز المدافعون الإيرانيون جهودهم وقوة نيرانهم غير المتكافئة على أضيق النقاط وأصعبها في المضيق، حيث يُمكن التنبُّؤ بمكان وجود العدو مسبقاً، بما يُسهِّل استهدافه ويُصعِّب هروبه. وسوف يُمطرون السفن المارة بالألغام، والقذائف، والطوربيدات في أثناء اقترابها من المنطقة الحرجة، وبعد عبورها، في حال عبرت بنجاح.
وتُمثِّل المياه الضيقة على الخرائط البحرية ساحات القتال المحتملة.
والولايات المتحدة ستضطر إلى استخدام جزء من قوتها وليس كلها
يجب تجنُّب الوقوع في خطأ مقارنة موازين القوة بين إيران والولايات المتحدة، والذي سيُؤدِّي إلى استنتاج أنَّ البحرية الأمريكية ستسحق القوات الإيرانية بفضل العدد الإجمالي لسفنها، وطائراتها، وأسلحتها الحربية.
إذ ستجري المواجهة بين جزءٍ بسيط من البحرية الأمريكية ضد القوة الكاملة للجيش الإيراني، وليس القوات البحرية الإيرانية وحدها، بل يُضاف إليها الدعم الناري من الشاطئ.
ويعتمد تقدير حجم البحرية الأمريكية المنخرطة في مواجهات الخليج، على عددٍ لا يُحصى من العوامل، ومنها: اهتمام القيادة السياسية الأمريكية بمصالح الولايات المتحدة في الخليج، ومُستجدَّات الأوضاع في الأماكن الأخرى المحيطة بمنطقة أوراسيا، وكيفية تصنيف الإدارة لأهمية منطقة الخليج، مقارنةً بالتزاماتها في النقاط المحورية مثل بحر الصين الجنوبي أو البحر المتوسط.
هل يستطيع الإيرانيون إغراق حاملة طائرات أمريكية؟
ويُمكن القول إنَّ النجاح في هذه المواجهة ليس محسوماً للجيش الأمريكي، ولن تضمن الولايات المتحدة النصر عن طريق تغيير موقع مجموعة حاملة الطائرات الهجومية لتقترب من الخليج، على غرار ما فعلته إدارة ترامب هذا الأسبوع.
إذ قام الفريق الأمريكي بول فان ريبر، الذي كان يقود المجموعة الحمراء التي تمثل العدو، بضرب حاملة مهمات بَحرية خلال مناورات "تحدي الألفية" التدريبية عام 2002، وذلك باستخدام الموارد المتوافرة لدى طهران بشكل مبتكر.
ومن ثم يستطيع السكان المحليون نظرياً أن يفعلوا ما فعله العسكري الأمريكي، وربما بطريقةٍ أفضل.
لذا تُعتبر إيران عدواً مُحتملاً يستحق أن يأخذه الجيش الأمريكي على محمل الجد.
مَن المستفيد من المعركة مع إيران؟
هناك أمر آخر تجب مراعاته أكثر من نتيجة المعركة المباشرة بين البلدين، وهو تأثير هذه المعركة المحتملة على الساحات الأخرى بالنسبة للولايات المتحدة.
إذ إنَّ تكلفة الفرصة البديلة للخسارة في الخليج -أو حتى الفوز بنكلفةٍ باهظة- ستكون مؤلمةً أكثر من التكاليف المباشرة التي تظهر في خسائر المعركة.
وتُشكِّل منطقة الخليج الآن مسرحاً ثانوياً بالنسبة لجهود الجيش الأمريكي، استناداً إلى تصريحات قيادة البنتاغون، إذ تراجعت مكانتها مقارنةً بالمناطق الأخرى التي تواجه فيها أمريكا وحلفاؤها مساعي قوى عظمى أخرى مثل الصين وروسيا.
وهو ما يعني أن الولايات المتحدة مُضطرةٌ إلى أن تضع في الحسبان مصالح أكثر أهمية، في المنافسة الاستراتيجية مع القوى العظمى الأخرى مثل الصين وروسيا، بغض النظر عن مدى إلحاح المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط.
كيف يُقسَّم الجهد بين المهام المتعددة؟ يُقدِّم كارل فون كلوزويتز، الخبير العسكري، اقتراحاً ثميناً لتوفير الموارد والجهود وتلبية الأهداف المتعارضة. وأُطلِق عليه داخل الفصل الدراسي اسم "الميمات الثلاث": مكاسب، وموارد، ومخاطر.
ويُحذِّر كلوزويتز من التفرُّع إلَّا في حال كان المقابل "استثنائياً"، أو كان القادة يتمتَّعون "بتفوُّقٍ حاسم" (أي فائضٍ في القدرات) على المسرح الأوَّلي للأحداث.
ويُمكن أن تستقطع القيادة العسكرية المُتفوِّقة الموارد من المسرح الرئيسي، دون التعرض لخطرٍ غير مُبرَّر من وجهة نظر صانعي السياسة بالبلاد، وذلك في حال كانت الظروف الاستراتيجية مطابقة لهذا المعيار.
أو كما قال الأدميرال اللورد جاكي فيشر، القائد الأول للبحرية الملكية لبريطانيا العظمى، في حديثه إلى وينستون تشرشل، اللورد الأول للبحرية في السنوات التي سبقت الحرب العالمية الأولى: "من العبث أن تكون قوياً في المسرح الفرعي للحرب، دون أن تكون المهيمن بشكل ساحق في المسرح الحاسم". ومن الحماقة أن تُخاطر بالأمور الأهم لمصلحة الأمور الأقل أهمية. وكان فيشر يدافع عن تقسيم القوى، بحيث تحرس البحرية الفرنسية البحر المتوسط، حتى تستطيع البحرية البريطانية أن تُركِّز على المحيط الأطلسي. ويسمح مثل هذا الترتيب لكلا الطرفين -الحليفين المُحتملين- أن يُرتِّب أسطوله في الأماكن نفسها، لتعزيز التفوق البحري الأنجلو-فرنسي داخل المُسطحين المائيين.
أي خسائر لأمريكا مع إيران ستكون لمصلحة الصين وروسيا، وهما جبهتان أهم من الشرق الأوسط
ويجب أن تتبع واشنطن حسابات كلوزويتز من أجل تقسيم الموارد بين المسارح الأساسية والثانوية، مع مراعاة المخاطر والمكاسب. إذ إنَّ الجزء الذي ربما يُفقَدُ أو يُدمَّرُ من القوات الأمريكية في القتال ضد إيران لن يكون متاحاً للمساعدة في مواجهة الصين أو روسيا، وهو ما سيُعرقل قدرة الولايات المتحدة على تحقيق أهدافها الرئيسية التي تتعلق بهاتين الدولتين، من أجل حفظ التزامٍ ثانوي في الشرق الأوسط.
وهذا يعني أنَّ البيت الأبيض يجب ألا يندفع إلى مغامراتٍ عسكرية في الخليج دون تفكيرٍ عميق. ويجب أن تسود الرصانة دوائر صنع القرار، وليس الاستعراض. وهذا هو ما طالب به كلوزويتز وفيشر.
جيمس هولمز هو أستاذ كرسي جوزيف ويلي للاستراتيجية البحرية في كلية الحرب البحرية الأمريكية، ومؤلف الدليل الموجز للاستراتيجية البحرية الذي سيصدر قريباً. الآراء التي أعرب عنها هنا تعبر عنه وحده.