اشتدَّت جهود إيران الدبلوماسية على مدار الأسابيع الماضية في الوقت الذي تفاقم التوتُّر بينها وبين الولايات المتحدة، وخاصةً على الصعيد الإقليمي. فخلال الشهر الماضي زار وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف الهند، وباكستان، وتركمانستان، والعراق، واليابان. وفي ذلك الوقت، زار نائبه عباس عراقجي الكويت، وعُمان، وقطر. وربما باستثناء اليابان، كانت رحلات المسؤولين لدول الخليج هي الأهم بين تِلك الزيارات.
تقدَّمت إيران ببعض الاقتراحات الهامة في زيارات دول الخليج، بشأن إجراءاتٍ قد تساعد في تخفيف حدة التوتُّر وتضييق الفروق بين ضفتيّ الخليج العربي، وربمَّا حتى في وضع أسُس هيكلٍ إقليمي للأمن في المنطقة. كان الأبرز بين هذه المقترحات إبرام معاهدة عدم اعتداءٍ بين إيران ودول الخليج العربية. كانت بقية الاقتراحات تكراراً لطروحٍ عرضتها إيران مسبقاً تتعلَّق بتأسيس ما تسمِّيه بمجمعاتٍ للأمن الإقليمي.
لكن ما مدى واقعية هذه المقترحات وما فرص نجاحها؟ قد يساعدنا النظر في تاريخ معاهدات عدم الاعتداء وآليات العلاقات العربية-الإيرانية، وخاصةً حول الخليج العربي، في تقييم ما إن كانت آخر الجهود الدبلوماسية الإيرانية ستلقى النجاح، بحسب هذا التقرير لموقع Lobe Log الأمريكي.
1- التاريخ المتقلِّب لمعاهدات "عدم الاعتداء"
بحُكم التاريخ، لم تكن معاهدات عدم الاعتداء فعالةً في منع اندلاع نزاعٍ بين دولتين عندما تؤدِّي بهم ظروفٌ واعتباراتٌ أخرى لتجاهل ما تُلزمه المعاهدة. كان أكثر هذه الأمثلة شمولاً واكتساحاً في معاهدة بريان-كيلوغ لعام 1928 في أعقاب الحرب العالمية الأولى. كان يفترض بتلك المعاهدة أن تجرِّم استخدام الحرب كوسيلةٍ لحل الخلافات الدولية. كذلك كان بين أشهر معاهدات عدم الاعتداء الفاشلة تِلك المُبرَمة بين ألمانيا النازية والاتحاد السوفيتي عام 1939، والتي نُقِضَت عندما هاجم هتلر الاتحاد السوفيتي عام 1941.
يكمن سبب فشل مثل هذه الاتفاقيات التعاقدية هوَ أنَّ المجتمع الدولي ما زالت تحكمه حسابات السلطة وآليات التهديدات الأمنية المتصوَّرة أكثر من أي شيءٍ آخر. لا يوجد حقيقةً أي نظامٍ قانوني دولي ذي سلطة تمكنه من تطبيق القانون على الدول، وخاصةً القوية منها، التي تخرج عمَّا تفرضه المعاهدات.
في الحقيقة وكما يخبرنا التاريخ، فإنَّ الحرب بين الدول تفقد أهميَّتها كأداةٍ للسياسات لا من خلال معاهدات عدم الاعتداء، بل عندما يتمُّ التقارب بين المصالح الأمنية وغيرها من المصالح الوطنية. نجد أفضل مثالٍ على هذا الوضع في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. بدلاً من توقيع معاهدات عدم الاعتداء، طوَّرت الدول الأوروبية شبكاتٍ للتعاون الاقتصادي والسياسي وأنظمة ذات قيمٍ مشابهة جعلت الحرب غير ذات صلةٍ بالعلاقات فيما بين الدول.
وبذلك، فإنَّه أمرٌ مستبعد إلى درجةٍ كبيرة أن يكون مجرَّد توقيع معاهدة "عدم اعتداء" بين إيران ودول الخليج العربية كافياً لنشر السلام على ضفَّتي الخليج.
2- التعاون الأمني بديلاً، هل يمكن أن ينجح؟
بالإضافة لاقتراحها إبرام معاهدةٍ لعدم الاعتداء، قدَّمت إيران كذلك اقتراحاتٍ باتخاذ إجراءاتٍ لبناء الثقة وإقامة مؤسساتٍ للتعاون الاقتصادي والسياسي بين دول الخليج، العربي منها وغير العربي. على المدى البعيد، وفي ظل ظروفٍ معدَّلة، قد تساعد مثل هذه الإجراءات المُشار إليها في تحسين موقف الأمن في الخليج. لكنَّ آليات العلاقات العربية-الإيرانية، ومعها سياسة الدول العربية فيما بينها والعلاقات الإسرائيلية-العربية من جهةٍ أخرى، تجعل اكتمال تأسيس اتفاقٍ ناجح بين دول الخليج وإيران دوناً عن غيرهم أمراً مستبعد الحدوث.
مع أنَّ كل دولة خليجية بمفردها تحمل تصوراتٍ مختلفة عن إيران، وليست كلها ترى إيران قوةً ضارية، إلَّا أنَّ جميعهم يشعرون بضيقٍ تجاه إيران نظراً للتفاوت بين تلك الدول وإيران في الحجم وعدد السكان. ليس بيد إيران أن تفعل شيئاً يخفِّف هذا القلق الوجودي. وحتى قبل قيام الثورة الإسلامية، عندما كانت إيران معنية بأمن وبقاء المشيخات الخليجية، كان القلق من إيران موجوداً حينئذٍ أيضاً. وبعد عام 1979، رسَّخ نظام إيران الثوري شكوك الخليج تجاه طهران.
وهُناك انقسامٌ فيما بينهم بين عربٍ وفرس وبين سنةٍ وشيعة. وفيما أنَّ هذه العوامل لم تكن هي محرِّك ومعرِّف حالة العلاقات العربية-الإيرانية، إلَّا أنَّها مالت لأن تفاقِم غيرها من اختلافاتٍ وتزيد من حدة مواطن النزاع في علاقات المعسكرين. ومنذ قيام الثورة الإسلامية في إيران، أصبح الأثر الانقسامي للاختلافات الطائفية قوياً بشكل خاص.
كان لآليات السياسة فيما بين الدول العربية نفسها أيضاً دورٌ تاريخي في حدّ وإعاقة التعاون بين إيران ودول الخليج العربية. قد استغلَّت قوى عربية كُبرى مثل مصر وسوريا في الماضي، والسعودية، ومؤخراً الإمارات، الخطر الإيراني الحقيقي أو التخيُّلي لابتزاز تنازلاتٍ مالية أو غيرها من دول الخليج، أو في سيناريو آخر كما الحال الآن مع السعودية والإمارات، فقد استخدمته لنشر نفوذها الخاص في المنطقة. لم يتغيَّر ذلك الوضع في جوهره كثيراً منذ ستينيات القرن الماضي.
3- بعض دول الخليج لا تريد تخفيض التوتر مع إيران
وفي ظروف الوقت الراهن، قد تعتقد بعض دول الخليج أنَّ تهدئة التوتر في منطقة الخليج قد يمكِّن إيران من تولية تركيزها لبلاد الشام، بطرقٍ لا تخدم مصالح دول الخليج نفسها. وقد تقلق دولٌ مثل مصر أنَّ استبعاد الخطر الإيراني قد يوقِف ضخّ الدعم المالي الخليجي لها.
والأهم اليوم هو عامل إسرائيل. ما سهَّل حدوث مصالحةٍ بين دول الخليج وإسرائيل كان التلاعب بعامل إيران نفسها وخطرها المزعوم على دول الخليج. كانت الخصومة المشتركة تجاه إيران هي المحرِّك الرئيسي للمصالحة كلاً. وعليه فإنَّ تحسُّن علاقات دول الخليج بطهران قد يؤدي لفتور رغبتهم في علاقاتٍ أوثق مع إسرائيل.
4- تباين الرؤية الإيرانية والخليجية حول التهديد الأمني
أخيراً وليس آخراً بين العقبات الماثلة أمام تقارُب المعسكرين هوَ التباين في تصوُّر كلٍ من إيران ودول الخليج لمصادر تهديد أمنهم. ترى إيران الولايات المتحدة وإسرائيل مهدِّداتها الرئيسية، فيما ترى دول الخليج طهران وأيديولوجيتها الثورية المصدر الأوَّل للمخاوف الأمنية.
وعليه ترى دول الخليج الولايات المتحدة عاملاً أساسياً في حماية مصالحها الأمنية، فيما تسعى إيران لانسحابٍ أمريكي من المنطقة. بهذا ندرك أنَّه طالما ظلَّت العلاقات الأمريكية-الإيرانية عدوانية، لن تصير أي مصالحةٍ حقيقية مع إيران ممكنة.
5- التقارب نجاحه مشروط بتحسن العلاقات مع واشنطن
أمرٌ مستبعد كلياً كذلك أن تحسِّن دول الخليج العلاقات بينها وبين إيران بدرجةٍ كبيرة بموافقةٍ من واشنطن ولو على مضض. وبشكلٍ عام، فإنَّ العلاقات المحلية في مناطق مثل الخليج العربي، تلك التي تحمل مصالح هامة لكبار الأطراف الدولية، تتأثَّر بدرجةٍ كبيرة بالسياسة الدولية. هذا يعني أنَّ التحسُّن الحقيقي في العلاقات الإيرانية-الخليجية غير ممكن دون تصالحٍ من نوعٍ ما بين إيران والولايات المتحدة.
منذ تسعينيات القرن الماضي، جرَّبت إيران استراتيجياتٍ مختلفة للسياسة الخارجية تمكِّنها من تجنُّب التصالح مع الولايات المتحدة. سعت إيران من قبل لإقامة علاقاتٍ استراتيجية مع روسيا والصين، وطوَّرت استراتيجية "التوجُّه إلى الشرق"، والآن تركِّز على الاستراتيجيات الإقليمية. لم يُسفر أي من هذه البدائل عن نتائج حقيقية، وهذا في أغلبه لأنَّ إيران اختارت تجاهُل وقائع النظام السياسي الدولي واعتماد الأنظمة الإقليمية بدرجةٍ كبيرةٍ حتى الآن على آليات السياسة الدولية. باختصار، لا يمكن لإيران أن تدبِّر أمورها خارج النظام الدولي وتتوقَّع مع ذلك أن تظل في أمانٍ ورخاء.
باختصار، إنَّ تقرُّب إيران من دول الخليج خطوةٌ إيجابية يجب تشجيعها. ومع ذلك، فإنَّ نجاحها أمرٌ مشكوك فيه إذا ما رفضت طهران أن تحلّ مشاكلها مع الطرف الدولي الأبرز، أي الولايات المتحدة.