بدأ الجيش السوري وحلفاؤه حملة طويلة وبطيئة وعنيفة لإعادة السيطرة على آخر محافظة في البلاد لا تزال تحت سيطرة المعارضة، إذ حاصرت الحكومة تدريجياً المعارضة والمتطرفين والمدنيين على حد سواء، وبدأت في مهاجمة إدلب.
ومن شأن تحقيق انتصار في محافظة إدلب، في شمال غرب سوريا، أن يُساعد رئيس البلاد بشار الأسد وحليفتاه روسيا وإيران على تُعزيز ما يبدو على نحو متزايد نصراً مؤكداً في حرب أهلية استمرت ثماني سنوات، لكن من المؤكد تقريباً أنَّ تكلفته ستكون فادحة فيما يتعلق بالحياة والممتلكات، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
يبيعون كل شيء قبل الرحيل ولا يعرفون إلى أين يذهبون.. إنها التغريبة الثانية
استيقظ المدنيون يوم الأربعاء الماضي 15 مايو/أيار 2019، على غارات تشق عنان السماء فوق الريف السوري بالقرب من منازلهم.
عائلة إسماعيل اضطرت لأن تبيع كل ما لم تتمكن من حمله: سجادهم والمَغسلة والثلاجة الخاصة بهم.
ويوم الخميس 16 مايو/أيار، حزموا باقي أمتعتهم ثم بحثوا يوم الجمعة 17 مايو/أيار بشكل محموم عن ملجأ خارج منطقة الخطر، مع جهلهم بأي مكان يفرون إليه، لكنهم فقط يعرفون أنَّه يتحتم عليهم الرحيل.
قال علاء الدين إسماعيل، وهو صحفي سابق من إدلب: "الناس لا يريدون أن ينتهي بهم المطاف في الحقول، مثلما رأينا على شاشات التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي".
فقد جاءوا إلى إدلب من مواطنهم الأصلية
على مدار الحرب، أصبحت إدلب مستودعاً لمقاتلي المعارضة وأنصارها، الذين نُقلوا إلى المحافظة بحافلات بعد أن استعادت الحكومة السيطرة على مناطقهم، وخيّرتهم بين الاستسلام أو الذهاب إلى إدلب. وزاد عدد سكان المدينة خلال الحرب بأكثر من الضعف، ليصل إلى حوالي ثلاثة ملايين.
شهدت المحافظة استقراراً متوتراً منذ سبتمبر/أيلول، بموجب اتفاقٍ لوقف إطلاق النار بين روسيا وتركيا، المتاخمة لحدود إدلب من الشمال، لكن روسيا كانت قد نفد صبرها من عجز تركيا عن الإيفاء بالاتفاق، الذي دعت إليه لاستئصال معارضي إدلب المتطرفين، والمساعدة في إعادة فتح طريق تجاري مهم، وهو الطريق الذي تحتاجه الحكومة السورية لإعادة بناء اقتصادها.
تُريد حكومة الأسد استعادة السيطرة على البلاد بأكملها، بما في ذلك شمال شرق سوريا، وهي منطقة يديرها تحالف مدعوم من الولايات المتحدة بعد طرده مؤخراً تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والمناطق الحدودية الشمالية التي تسيطر عليها تركيا، وكذلك إدلب، لكن وجود الأمريكيين والأتراك في الشرق والشمال كبح حتى الآن جماح الحكومة السورية وحلفائها.
والآن بدأ طيران النظام والروس في مهاجمة إدلب
تعرَّض جنوب محافظة إدلب وأجزاء من محافظة حماة الواقعة جنوب إدلب إلى هجوم عنيف في الأسابيع الثلاثة الماضية، من مقاتلات روسية، والقوات الموالية للحكومة.
وميدانياً، استعاد الجنود السوريون السيطرة على 12 قرية على الأقل، متجمعة حول الزاوية الجنوبية لإدلب، ووفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان.
في إدلب وحماة، أدَّى القصف الموالي للحكومة إلى تدمير، أو على الأقل تعطيل ما لا يقل عن 19 مستشفى ومركزاً طبياً خلال 20 يوماً، ترك الأطباء العاملين والمرضى في الأقبِية عاجزين عن إيجاد العلاج.
لقد أدى العنف من كلا الجانبين إلى مقتل نحو 223 مدنياً منذ 20 أبريل/نيسان، وفقاً للمرصد. وعلق ما لا يقل عن 16 مجموعة إنسانية عملها في المنطقة، خاصة عندما أصبحت هناك حاجة متزايدة لذلك.
180 ألفاً هربوا من القصف ولا مساعدات دولية
وقد أجبر الهجوم الجديد 180 ألفاً من السكان على الفرار، ويفكر آلاف آخرون في اللحاق بهم، إذ لا يعرفون متى قد يأتي دور قراهم.
وفي الوقت نفسه، شنَّت المعارضة هجماتها الخاصة، وقصفت المنطقة الخاضعة للحكومة في شمال غرب سوريا، وقتلت ما لا يقل عن 25 مدنياً بينهم 10 أطفال، وفقاً للمرصد.
ومرة أخرى، حُوصر المدنيون في طاحونة جيوسياسية واسعة المنافسة.
وقال بسام بربندي، الدبلوماسي السوري السابق الذي انشق عن النظام ويعيش الآن في واشنطن: "في الأيام المقبلة، سيكون لدينا فراغ تسيطر عليه جماعات إرهابية، ولن تكون هناك مساعدات دولية أو مساعدات إنسانية، لأنَّه لا أحد مستعداً لرعاية ثلاثة ملايين مدني".
تحرص تركيا على الحفاظ على استقرار إدلب أو على الأقل بجزء كبير منها، لأنَّها لا تريد مزيداً من مئات الآلاف من المدنيين الفارين عبر حدودها، إذ تستضيف بالفعل 3.6 مليون لاجئ سوري.
لكن تركيا بحاجة كذلك إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع روسيا، للمناورة في شمال وشمال شرق سوريا، وخاصة حول بلدة تل رفعت، بالقرب من حلب. تشعر تركيا بالقلق من الميليشيات السورية الكردية المدعومة من الولايات المتحدة، التي كسبت الأرض، ولديها أسلحة على الحدود التركية السورية تقريباً من الجانب السوري في شمال البلاد. وترتبط تلك القوات بالانفصاليين الأكراد المتشددين الذين تحاربهم تركيا منذ عقود.
وقال إيميل حكيم، المحلل المتخصص في شؤون أمن الشرق الأوسط بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية: "إذا أراد الأتراك فعل أي شيء في شمال شرق سوريا في مرحلة لاحقة، فسوف يحتاجون حسن النية من روسيا، والأمر لا يتعلق فقط بإدلب، وهذا هو الجزء الصعب".
والمحافظة تخضع لسيطرة جماعة متطرفة
لم تنجح تركيا في السيطرة على المتطرفين في إدلب، وهو ما كان محل تذمر روسيا مراراً وتكراراً في الأشهر الأخيرة. وتخضع إدلب الآن إلى حدٍّ كبير لسيطرة هيئة تحرير الشام، وهي جماعة مرتبطة بتنظيم القاعدة، هزمت جماعات مسلحة أخرى في المنطقة خلال فصل الشتاء.
وفي الماضي، سمح مزيج من متطرفين ومعارضين أكثر اعتدالاً للحكومة السورية وحلفائها، بالادعاء أنَّهم يحاربون الإرهابيين الذين هاجموا مناطق خاضعة للحكومة. لطالما اعتبرت الحكومة جميع خصومها إرهابيين.
يوم الأربعاء، دعا وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو إلى وقف الهجمات على إدلب.
ووصف الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان في مكالمة هاتفية مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، بحسب ما قاله مكتب أردوغان، القصف على المدارس والمستشفيات بأنَّه: "لا يمكن تفسيره".
الحكومة السورية استفادت من وقف إطلاق النار، وروسيا تريد تحقيق مكاسب
وقال حكيم إنَّ اتفاق وقف إطلاق النار الذي توصَّلت له تركيا وروسيا قد أفاد الحكومة السورية بتشتيت تركيز العالم عن إدلب وتفكيك المعارضة. وبدلاً من إطلاق العنان لهجوم شامل، من المرجح أنَّ القوات الموالية للحكومة دخلت إدلب وحماة شيئاً فشيئاً وفقاً لحكيم.
بالإضافة إلى مساعدة الأسد في استعادة السيطرة على الأراضي، فإنَّ روسيا مهتمة بحماية قاعدتها الجوية في محافظة اللاذقية الساحلية القريبة، وبتأمين طريقين سريعين في المنطقة حتى تسمح للتجارة بالتدفق عبر سوريا على طول الطريق من تركيا إلى الخليج العربي. ومن شأن هذا أن يوفر للحكومة السورية دخلاً تحتاجه بشدة، وفقاً لبربندي، الدبلوماسي السوري السابق.
يأتي القتال بعد أن قال بوتين هذا الشهر إنَّ هجوماً واسع النطاق كان غير عملي في الوقت الحالي، مشيراً إلى المخاوف الإنسانية.
طبيب مصري يرصد الوضع المتدهور
المشكلة الأكبر أن الوضع الإنساني في إدلب وحماة يتدهور يوماً بعد الآخر
إذ اعتقد عمر إبراهيم، وهو طبيب مصري متطوع في سوريا مع الجمعية الطبية السورية الأمريكية، أنَّ عمله في الأقبِية انتهى بعدما غادر حلب، التي كانت محاصرة في عام 2016، متجهاً إلى إدلب. لكن الآن أصبحت مستشفيات إدلب وحماة خارج الخدمة بعد قصفها بالقنابل، لينتهى المطاف بعمر وهو يعالج المرضى مرة أخرى تحت الأرض في الأقبية.
ويقول إن قبو المستشفى الذي يعمل به منذ أكثر من 10 أيام هو المركز الطبي الوحيد الذي يعمل في المنطقة.
والروس يقصفون المستشفيات رغم أن لديهم إحداثياتها
وبعض من المستشفيات التي تعرضت للقصف قُدمت إحداثيات دقيقة بمواقعها للحكومة السورية والجيش الروسي، أملاً في تجنّب الضربات الجوية. ولا تعمل أي مستشفيات في شمال حماة الآن.
قال الدكتور إبراهيم إنَّه إذا اضُطر إلى الإخلاء، فهو غير متأكد مما سيفعله. وإذا أخفق إبراهيم في الوصول إلى مستشفى آخر يعمل في منطقة تُسيطر عليها المعارضة، فستكون خياراته ضئيلة: إما أن يُصبح لاجئاً أو يعود إلى مصر، حيث قد يخضع للمحاكمة بسبب سفره إلى سوريا للعمل مع المعارضة.
وقال: "الضغط على القطاع الطبي يتزايد كل يوم، لا أدري ماذا سيحدث عندما يُطلب منا الإخلاء إذا تفاقم الوضع، كل شيء ممكن".
والمئات يخرجون بلا وجهة محددة
وقال مهند الشيخ، أحد سكان بلدة كفرنبل بإدلب، في اتصال هاتفي هذا الشهر، إنَّه شاهد المئات هناك وهم يقودون سياراتهم مبتعدين عن البلدة بلا وجهة محددة، ولكن بحثاً عن سلامتهم فقط أينما كانت. وأضاف أنَّه كان يفكر في نقل عائلته إلى مكان بالقرب من الحدود التركية.
وأثناء حديثه، توقَّفت المكالمة عدة مرات بسبب الضوضاء التي تُحدثها الطائرات، التي أضحت صوتاً مألوفاً، كما قال، وكذلك بسبب بكاء طفله فايز ذي العام الواحد قائلاً: "بابا! بابا!" كلما سمع صوت طائرة حربية يشق عنان السماء.
وقال الشيخ: "أعتذر، يجب أن أذهب"، مضيفاً: "الضربات تقترب".