تهريب النفط الليبي: كيف تحوّل “الذهب الأسود” من نعمة إلى نقمة؟ هذه أبرز مسارات النقل والمستفيدين وحجم الخسائر

عربي بوست
تم النشر: 2025/09/03 الساعة 08:34 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2025/09/03 الساعة 09:26 بتوقيت غرينتش
تهريب الوقود في ليبيا يكلف البلاد مليارات الدولارات سنوياً/ عربي بوست

خلال شهر يوليو/تموز 2025 نشر الكاتب الليبي عمر السويحلي ضمن مقال رأي نشر على موقع "Libya Observer" جملة تعود إلى ستينيات القرن الماضي، منسوبة إلى الكاتب والصحفي الليبي الراحل عبد القادر أبو هروس قال فيها الكاتب: "إن النفط سيكون نقمة عليكم، فسوف يقتل فيكم أي طموح غيره"، فهل صدقت فعلاً نبوءة أبو هروس؟

فمنذ الأيام الأولى لسقوط نظام معمر القذافي، الذي حكم ليبيا أكثر من 40 عاماً، إثر ثورات الربيع العربي، كان السؤال الأبرز الذي طرحه المتابعون للشأن الليبي يتعلق بمصير النفط على اعتبار أن من يسيطر عليه يسيطر على حكم البلاد.

لكن مع مرور السنوات واستمرار الانقسام السياسي في البلاد، اتضح أن نعمة النفط في ليبيا تحولت إلى "نقمة" بعد أن كانت من الأسباب الرئيسية في إطالة الصراع المسلح وتقسيم ليبيا، وفشلت السلطة المركزية في طرابلس في فرض سيطرتها على النفط الليبي، بل إنه أصبح مصدراً لتسليح واغتناء فصائل مسلحة.

ورغم العقوبات الأممية وضغط مجلس الأمن الدولي والإدانات الدولية الرسمية وتكثيف عمليات المراقبة قبالة السواحل الليبية، إلا أن شبكات التهريب ظلت تعمل بكثافة، في أكثر من منطقة على سواحل ليبيا الممتدة عبر المتوسط أو عبر الصحراء الكبرى.

وهو ما دفع "عربي بوست" إلى إجراء هذا التقرير الموسع، حيث قمنا برصد كيف أصبح الوقود الليبي مصدراً لاغتناء وتسليح جماعات مسلحة في البلاد، ومن هم الفاعلون المتورطون في تهريب النفط الليبي، وكيف تسبب نظام المقايضة في تسهيل عمليات التهريب، إضافة إلى مسارات التهريب، وكيف يؤثر التهريب على الاقتصاد الليبي؟

"نعمة النفط".. كيف تحولت إلى "نقمة"

قبل اكتشاف النفط والبدء بتصديره كانت ليبيا واحدة من أفقر دول العالم، يعتمد اقتصادها على الزراعة وتربية الماشية وبعض المداخيل من القواعد العسكرية الأجنبية. لكن مع اكتشاف أولى الحقول (مثل حقل زليطن وحقل السرير) سنة 1959، وبدأ التصدير سنة 1961 سيتغير الوضع.

فقد ارتفعت عائدات النفط بسرعة وأصبح المصدر الرئيسي للعملة الصعبة، ما ساهم في تحسن البنية التحتية (طرق، كهرباء، مياه..)، وتوسع التعليم والصحة، كما ساهم في انتقال نسبة من السكان من حياة البادية إلى المدن.

وهي تملك الآن أكبر احتياطي للنفط في إفريقيا بنحو 48 مليار برميل، وهو ما يمثل 41% من احتياطيات النفط في القارة السمراء، وفق بيانات منظمة الطاقة الدولية.

ويقع حوالي 95٪ من احتياطيات ليبيا النفطية القابلة للاسترداد في حوض سرت في الشمال الشرقي وحوض مرزق في الجنوب الغربي. ويمثل الحوضان معظم الطاقة الإنتاجية للنفط في البلاد، مع العلم أن معظم ليبيا لا تزال غير مستكشفة من أجل النفط، في ظل استمرار عدم الاستقرار الأمني والسياسي منذ عام 2011.

فبعد أن بلغ إنتاج ليبيا من النفط الخام حوالي 1.7 مليون برميل يومياً قبل الإطاحة بنظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011، تسبب الانقسام السياسي على مدى 14 سنة الماضية في انخفاض حاد في الإنتاج والعديد من الاضطرابات في الإنتاج والصادرات، رغم عودته إلى التعافي بعد توقيع اتفاق وقف إطلاق النار عام 2020.

كما كان للتدخلات الخارجية والصراعات الداخلية المدفوعة بأجندات خارجية دور في أزمة النفط في ليبيا، وجعله رهينة تجاذبات سياسية وعسكرية. ودعمت كثير من القوى الأجنبية أطرافاً ليبية مسلحة بهدف السيطرة على الموانئ والحقول النفطية، وهذه السيطرة استُخدمت كورقة ضغط في المفاوضات السياسية.

قبل سقوط نظام القذافي كوّن شبكة واسعة من الحسابات السرية والاستثمارات النفطية في الخارج عبر مؤسسات مثل المؤسسة الليبية للاستثمار وشركات واجهة في إفريقيا وأوروبا، هذه الأموال، رغم تجميد جزء منها، تمكن أتباعه من الوصول إلى بعضها بطرق غير رسمية. واستُخدمت هذه الأموال لتمويل حملات سياسية، وشراء ولاءات داخل ليبيا، ودعم ميليشيات مسلحة في الجنوب والغرب.

ورغم تعافي إنتاج ليبيا من النفط الخام إلى أكثر من 1.1 مليون برميل بحلول عام 2021، إلا أنه سرعان ما عاد إنتاج النفط الخام في ليبيا إلى الانخفاض عام 2022، إلى أقل من 700 ألف برميل يومياً، في الفترة ما بين مايو/أيار ويوليو/تموز، بسبب نزاع تم حله لاحقاً بين الحكومتين المتنافستين أدى إلى حصار الموانئ الشرقية.

هذا الانقسام يعكس صراعاً أعمق على الشرعية والموارد، خاصة عائدات النفط، ويعززه التدخل الخارجي من قوى إقليمية ودولية تدعم طرفاً على حساب الآخر.

خريطة أبرز حقول النفط في ليبيا

يعكس توزيع السيطرة على النفط في ليبيا عمق الانقسام السياسي والجغرافي في البلاد، إذ تتركز أغلب الحقول والموانئ النفطية الكبرى في منطقة "الهلال النفطي" بشرق البلاد، وهي خاضعة فعلياً لسيطرة ما يعرف بـ"قوات الجيش الوطني الليبي" بقيادة خليفة حفتر.

بينما تدير المؤسسة الوطنية للنفط في طرابلس عمليات الإنتاج والتصدير من الناحية الفنية والقانونية باعتبارها الجهة المعترف بها دولياً.

هذا الوضع خلق حالة من الازدواجية، حيث يعتمد الغرب الليبي على عائدات النفط التي تضخ عبر طرابلس، في حين يملك الشرق نفوذاً ميدانياً على البنية التحتية الحيوية، ما جعله ورقة ضغط سياسية واقتصادية أساسية في الصراع بين المعسكرين. ويمكن توزيع خريطة أبرز حقول النفط في ليبيا على النحو التالي:

  • حوض سرت: يُعد المصدر الرئيسي للنفط في ليبيا، إذ يحتوي على حوالي 80 إلى 90% من الاحتياطات النفطية في البلاد، ويدير الإنتاج في أكثر من 16 حقلاً عملاقاً مثل حقل ناصر، واحة، وجالو.
  • حوض مرزق: يحتوي على حقول عملاقة مثل حقل الشرارة، الذي ينتج نحو 300 ألف برميل يومياً ويُعد أكبر الحقول في إفريقيا.
  • حقول سرير: من أهم الحقول في المنطقة الشرقية، تم اكتشافه عام 1961 ويضم احتياطات تقترب من 12 مليار برميل.
  • توجد أيضاً حقول ميسلة، أبو عريف، النوفرة–أوغيلة، أمل ضمن شبكة إنتاج شرق ليبيا، إضافة إلى حقول أقل إنتاجاً في حوض غدامس وتريبوليتانيا، وبعض الحقول البحرية مثل البرّي.

تواصلت الاضطرابات في إنتاج النفط في ليبيا بسبب المشاكل بين حكومة طرابلس المعترف بها دولياً وحكومة الشرق التابعة للجنرال حفتر، بسبب أزمة المصرف المركزي، قبل أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق حول قيادة مصرف ليبيا المركزي لتنتهي الأزمة ويبدأ مجدداً إنتاج النفط بالارتفاع مع بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول 2024.

وكان للضغوط الخارجية دور في إنهاء أزمة مصافي النفط في ليبيا وعودة الإنتاج للاستقرار، لكن لم يكن ذلك حباً في الليبيين، بقدر ما كان حباً في النفط الليبي المطلوب عالمياً بسبب جودته، إذ إن ليبيا تُنتج درجات النفط الخام منخفضة الكبريت عالية الجودة، التي يمكن معالجتها في مصافي التكرير البسيطة.

هذه المميزات جعلت من النفط الليبي مرغوباً بشكل خاص في مصافي أوروبا، التي تفضل الخام الخفيف والرقيق للتحول إلى بنزين وزيوت صناعية عالية الجودة بسهولة وكفاءة، ما جعل الخام الليبي ذا تأثير كبير على الأسواق الدولية، خاصة في أوروبا، التي تستورد أكثر من 85% من صادرات ليبيا النفطية.

لكن خلف هذا الاستقرار الذي يروج له النافذون في ليبيا فإن الفوضى الأمنية وتعدد السلطات والتدخلات الخارجية سمح بظهور "اقتصاد حرب" وعمل ميليشيات تتحكم في توزيع وتهريب الوقود مقابل أرباح ضخمة قدرت بمليارات الدولارات سنوياً، وأصبح تهريب النفط الليبي جزءاً من الصراع السياسي والمالي في ليبيا الحديثة، وبات يهدد قدرات الدولة الاقتصادية ويخلق شبكات نفوذ محلية وإقليمية.

إذ نشر الكاتب الليبي عمر السويحلي في شهر يوليو/تموز 2025 ضمن مقال رأي نشر على موقع "Libya Observer" جملة منسوبة إلى الكاتب والصحفي الليبي الراحل عبد القادر أبو هروس قال فيها الكاتب خلال فترة الستينيات من القرن الماضي: "إن النفط سيكون نقمة عليكم، فسوف يقتل فيكم أي طموح غيره"، فهل صدقت فعلاً نبوءة أبو هروس؟

النفط الليبي رهينة نزاع طويل الأمد

كشفت السنوات الماضية عن مشهد معقد لعمليات تهريب النفط الليبي إلى خارج البلاد تتداخل فيه الطرق البرية والبحرية، والأنظمة غير الرسمية للمقايضة، وشبكات من الفاعلين المحليين والدوليين الذين يتقاسمون أرباح النفط المهرب منذ سنوات مستغلين الوضع الأمني والسياسي الهش الذي تمر به البلاد.

وزير النفط الليبي المقال محمد إمحمد عون قال لـ"عربي بوست": للأسف، غالبية المجموعات المسلحة في المنطقة الغربية تم تقنين وجودها بضمها إلى مؤسسات ووزارات وتنظيمات رسمية، لذلك من الصعب الجزم بصحة كل التقارير.

ومع ذلك، ليبيا مستباحة من عدد كبير من الدول، سواء العربية أو الأجنبية، وتلعب المخابرات والبعثة الأممية أدواراً في جمع المعلومات التي قد تكون استندت إليها هذه التقارير.

فيما شدد على أن الانقسام السياسي والمناكفات المستمرة يضعف الدولة ويؤثر سلباً على كل مناحي الحياة، بما فيها صادرات الطاقة، ويسهل استمرار عمليات تهريب الوقود.

وفي السنوات الخمس الأخيرة، كشفت تقارير أممية ومؤسسات دولية ومسارات تتبع السفن عن تصاعد غير مسبوق في عمليات تهريب الوقود والنفط الخام من ليبيا، غالباً عبر أنظمة مقايضة مع سلع وخدمات أو بتغطية من شركات وهمية في دول أوروبية وعربية، كما استخدم النفط الليبي في تمويل صراعات داخل إفريقيا.

وكشف تقرير فريق خبراء الأمم المتحدة، الذي نُشرت تفاصيله في شهر فبراير/شباط 2025، عن تهريب حوالي 1.125 مليون طن من الديزل عبر ميناء بنغازي القديم منذ مارس 2022، وهو ما أضاع على الدولة الليبية ما قيمته مليار و125 مليون دولار أمريكي، من خلال 185 عملية تصدير غير قانونية.

حسب التقرير الأممي فإن هذه العمليات تمت بتسهيلات من مجموعات مسلحة وشركات محلية تابعة لسلطة الجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر، الذي يسيطر على شرق البلاد منذ 2014، مستغلة نظام المقايضة الذي تستورد بموجبه ليبيا الوقود مقابل النفط الخام، ما يفتح المجال أمام التهريب والفساد.

وفي شهر مارس/آذار 2025، أوضح تقرير لمركز أبحاث الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أن نظام المقايضة أدى إلى تهريب كميات كبيرة من الوقود المدعوم إلى الخارج، ما وفر مصادر تمويل للمجموعات المسلحة في الشرق والغرب.

وكشف تقرير المركز، الممول من قبل دول عربية وأيضاً الحكومة الأمريكية، عن تورط شركة "أركينو" الخاصة، المرتبطة بصدّام حفتر، في تصدير النفط خارج الأطر القانونية، حيث بلغت صادراتها حوالي 483 مليون دولار منذ منتصف 2024.

فما خلص تقرير لصندوق النقد الدولي، نُشر في شهر يونيو/حزيران 2025، إلى أن حوالي 30% من الوقود المدعوم يهدر أو يهرب، ما يشكل فجوة فادحة في الشفافية، ويحمل الخزينة تكلفة ضريبية متزايدة. وحدد التقرير أن الدعم الطاقي يمثل أكثر من ثلث ميزانية الدولة، مع أكبر تأثير له من دعم الوقود المهرب.

قبل ذلك قدّر تقرير للبنك الدولي صدر في أكتوبر/تشرين الأول 2024 خسائر ليبيا السنوية بسبب تهريب الوقود بأكثر من 5 مليارات دولار، وأشار التقرير إلى أن نظام المقايضة في ليبيا ساهم في تفاقم المشكلة، خاصة مع استيراد كميات كبيرة من الوقود لا تتناسب مع الاحتياجات الفعلية للبلاد.

نظام المقايضة.. نفط مقابل الغذاء والسلاح والخدمات

مع تصاعد القيود المصرفية وتعقّد التحويلات المالية الدولية، لجأت شبكات تهريب النفط في ليبيا إلى آلية بديلة لتجاوز التعقب المالي أطلق عليها اسم "المقايضة"، فما هو هذا النظام الذي توجه إليه الاتهامات بتسهيل عملية تهريب النفط الليبي الخام إلى الخارج:

  • تبادل النفط الخام الليبي مع شركات تجارية خارجية مقابل منتجات وقود مكرر (بنزين وديزل).
  • الهدف المعلن كان تغطية حاجة السوق المحلية التي تعاني من نقص السيولة وصعوبات في استيراد الوقود نقداً.
  • تعدين هذا الوقود يتم عبر شركات مستوردة يباع بثمن مخفض داخلياً، ثم يُهرّب جزء كبير منه أو يُباع بأسعار السوق السوداء بالخارج.
  • الدولة لا تدفع نقداً، بل تعوض بتسليم النفط الخام مباشرة، وهو ما ساهم في انتشار تجارة غير مشروعة عابرة للحدود قوامها النفط مقابل أي شيء، كيف ذلك؟

في الجنوب الليبي، حيث يضعف حضور الدولة وتنتشر الفصائل المسلحة، تم توثيق حالات جرت فيها مقايضة شحنات ديزل وسيارات نقل وقود بمواد غذائية أو ذخائر أو عربات رباعية الدفع قادمة من تشاد أو السودان. وتدار هذه الصفقات أحياناً من قبل وسطاء قبليين أو قادة مجموعات محلية يمتلكون شبكات عبر الحدود.

أما في المناطق الغربية القريبة من تونس، فشهدت بعض نقاط التهريب عمليات تبادل للوقود المدعوم مقابل سلع استهلاكية أو قطع غيار، مستفيدة من فرق الأسعار الكبير بين ليبيا وجيرانها. وتغذي هذه الأنشطة سوقاً غير رسمية في المدن الحدودية مثل بن قردان والذهيبة، حيث يباع الوقود الليبي بأسعار أقل بكثير من السوق المحلية.

نظام المقايضة لا يشكل فقط وسيلة لتجاوز الرقابة، بل يعمّق من تحول الاقتصاد الليبي إلى اقتصاد حرب قائم على التبادل العيني، يسهم في تثبيت شبكات موازية تقوض أي مسار لإعادة بناء الدولة، وهو ما دفع المدعي العام في يناير/كانون الثاني 2025 لتوجيه نداء بوقف نظام المقايضة بعد تحقيق للجنة الشؤون المالية، وتم إيقافه فعلياً في مارس/آذار 2025.

على سبيل المثال في التقرير السنوي لديوان المحاسبة الليبي الخاص بعام 2023، الذي اطلع عليه "عربي بوست"، تعدّ المقايضة المباشرة للنفط الخام مقابل المشتقات النفطية من أبرز أساليب التوريد غير النقدية، وقد بلغت كلفة هذه المقايضة أكثر من 41 مليار دينار ليبي (نحو 7.6 مليار دولار)، دون تسجيل هذه النفقات فعلياً ضمن ميزانية وزارة المالية.

وقد تسبب هذا النظام في تشويه البيانات المالية للدولة، حيث لم يُثبت كمصاريف أو كإيرادات فعلية، ما انعكس سلباً على مبدأ الشفافية في الحسابات العامة. وأشار ديوان المحاسبة إلى أن هذا النظام، الذي تم اعتماده فعلياً في عام 2021، أسفر عن آثار مالية سلبية كبيرة، كما وثقت ذلك تقاريره السنوية.

بينما قدّرت لجنة الخبراء التابعة للأمم المتحدة في تقريرها لعام 2025، أن نظام المقايضة الذي بدأ فعلياً في مارس/آذار 2022، أسفر عن تصدير نحو 1.125 مليون طن من الديزل عبر 185 عملية تهريب من ميناء بنغازي القديم حتى أكتوبر/تشرين الأول 2024.

لكن توقف النظام أسفر عن أزمة سيولة حادة وتراكم ديون تجاوزت 800 مليون دولار على الحكومة الليبية، وقد ترتفع إلى نحو مليار دولار لاحقاً. وظهرت شركات جديدة مثل "Arkenu Oil" التي تتباهى بأنها أول كيان ليبي خاص يصدر نفطاً خاماً بشكل رسمي، لكن تقارير تحذر من ظهور "بدائل غير شفافة" لتمويل الجماعات المسلحة وظهور فاعلين قدماء بمظهر جديد.

الجهات المستفيدة.. شبكة معقدة محلية ودولية

خلال عام 2024 والنصف الأول من عام 2025 بلغت عائدات النفط في ليبيا نحو 25 مليار دولار أمريكي، وفق ما كشفته الأرقام الرسمية، حيث يشكل النفط 95% من مداخيل البلاد، لكن التقارير المحلية والدولية كشفت عن مليارات الدولارات من عائدات النفط لم تظهر في الحسابات الرسمية للدولة الليبية.

إذ قدّر تقرير لجنة الخبراء الأمميين وأيضاً تقرير للبنك الدولي أن تهريب النفط يكلف خزينة الدولة الليبية نحو 5 مليارات دولار سنوياً، بينما تشير معطيات محلية إلى أن التكلفة تصل إلى 3 مليارات دولار، وخلص التقرير الأممي إلى أن اعتماد مؤسسة النفط الليبية على "مقايضة الخام بالوقود"، يعد السبب الرئيس وراء نمو هذه الظاهرة.

لا تقتصر أرباح تهريب النفط الليبي على المهربين التقليديين، بل تمتد لتشمل شبكة معقدة من المستفيدين تضم فصائل مسلحة، وشركات وهمية، ووسطاء دوليين، وحتى مسؤولين حكوميين، فكل طرف يسيطر على منطقة نفوذ أو ممر حدودي يحوّل النفط إلى مصدر تمويل واستمرار في السلطة. ولفهم أكبر للأطراف التي تتحكم وتستفيد من تهريب النفط الليبي، انطلاقاً من التقارير الأممية الرسمية وتقارير البنك الدولي، يجب الإشارة إلى أن:

  • تجارة النفط غير المشروعة في ليبيا تعمل من خلال شبكة متطورة تضم فصائل مسلحة وشركات خاصة ومهربين دوليين.
  • غالباً ما يتم استبدال النفط الخام بالوقود المكرر، الذي يباع محلياً بأسعار مدعومة بشكل كبير.
  • يستغل المهربون هذا النظام عن طريق تحويل المنتجات المكررة للبيع في السوق السوداء الدولية، مما يحقق أرباحاً هائلة.
  • استفادت كل من الحكومات الشرقية التي يسيطر عليها الجنرال خليفة حفتر وحكومة طرابلس المعترف بها دولياً بشكل غير مباشر من هذه التجارة.
  • فقد سمحت الحكومة التي تتخذ من الشرق مقراً لها بقيادة حفتر، التي تسيطر على جزء كبير من البنية التحتية النفطية في ليبيا، للجهات الفاعلة الخاصة مثل شركة "أركينو" للنفط بالعمل بشكل مستقل عن المؤسسة الوطنية للنفط.
  • صدّرت "أركينو" ما قيمته أكثر من 600 مليون دولار من النفط منذ إنشائها، متجاوزة القنوات الرسمية في طرابلس وتعكس نفوذ حفتر المتزايد على قطاع النفط الليبي، هذا النفوذ على عائدات النفط يسمح للجنرال الليبي بتمويل ما يسمى بـ"الجيش الوطني الليبي" ويعزز سلطته السياسية والعسكرية في مناطق متفرقة من البلاد.

كما تستفيد بعض الميليشيات التي تسيطر على موانئ أو منشآت نفطية من بيع الوقود في السوق السوداء أو تهريبه مباشرة إلى الخارج، وتؤكد تقارير لجنة العقوبات التابعة للأمم المتحدة تورط عناصر من حرس المنشآت النفطية في تسهيل عمليات التهريب مقابل عمولات مباشرة أو تقاسم في الأرباح. ويمكن تلخيص المستفيدين من تهريب النفط في:

  • حرس المنشآت النفطية: تأسست عام 2012 بقيادة إدريس بوحمايدة (لاحقاً إبراهيم جدران)، وكانت تتمتع بنفوذ ميداني مركزي، سيطرت منذ صيف 2013 على موانئ النفط الرئيسية مثل رأس لانوف، السدرة، البريقة وزويتينة.
    تشير تقارير لجنة العقوبات التابعة لمجلس الأمن إلى تورط مجموعات محددة من "حرس المنشآت النفطية" في تهريب شحنات من ميناءي الزويتينة والبريقة، إما بالتواطؤ مع أطراف خارجية أو بمبادرة مستقلة. وغالباً ما يتم ذلك بالتنسيق مع جهات تملك خبرة لوجستية في التزوير والتخفي البحري.
    في سبتمبر/أيلول 2016، شنّت قوات ما يسمى بـ"الجيش الوطني الليبي" بقيادة خليفة حفتر عملية عسكرية لاستعادة هذه الموانئ، وتمكنت من السيطرة على الهلال النفطي بالكامل.
  • حفتر والميليشيات الموالية له: منذ استعادة الهلال النفطي، تسيطر قوات حفتر على معظم حقول النفط والموانئ في شرق ليبيا، بما في ذلك أكبر الحقول مثل شرارة والسرير.
  • في يونيو/حزيران 2023، دخلت مجموعة مرتزقة "فاغنر" الروسية مع قوات من "الجيش الوطني الليبي" وحرس المنشآت النفطية لتأمين حقل الشرارة وميناء السدرة.

تقارير الأمين العام للأمم المتحدة ومصادر مستقلة أفادت بأن "فاغنر" شاركت إلى جانب قوات حفتر في تأمين وإعادة السيطرة على آبار نفط وموانئ مثل الشرارة والسدرة خلال صيف 2023، مع وجود مرتزقة أجانب من أوكرانيا وصربيا.

  • شركة Arkenu Oil (خاصة ومقربة من حفتر): منذ تأسيسها عام 2023، بدأت هذه الشركة الليبية الخاصة بتصدير النفط الخام بقيمة مقدّرة بـ600 مليون دولار حتى نهاية 2024، وهي ترتبط بسلطات شرق ليبيا، خصوصاً عبر شخصية سعد السلامة حفتر.
    تم ربط الشركة بمصادر القرار شبه الرسمية في شرق ليبيا، وتعزيز نفوذها عبر وصولها إلى الحقول الكبرى مثل سرير وميسلة.

على المستوى الخارجي، كشفت التحقيقات عن وجود شركات واجهة مسجلة في دول مثل مالطا، قبرص، والإمارات، تستخدم كأدوات لتبييض مسارات النفط المهرب. وغالباً ما تستخدم هذه الشركات لتغطية الشحنات بوثائق مزورة، أو لتغيير وجهتها عبر وسطاء في البحر المتوسط.

وفي كثير من الحالات، يظهر دور شبكات وسطاء وسماسرة دوليين يعملون كحلقة وصل بين الفاعلين الليبيين والسوق العالمية، مستخدمين أساليب معقدة من التمويه، تشمل تغيير أسماء السفن، واستخدام أعلام دول مختلفة، وتزوير وثائق التحميل، في شبكة تمتد من طرابلس وحتى سنغافورة.

كما تنشط شبكات وسطاء وسماسرة، بينهم مواطنون أوروبيون وآسيويون، يستخدمون شركات واجهة وشبكات مالية غير نظامية لشراء النفط المهرب أو تسويقه في أسواق يصعب تتبعه. كما تم الكشف عن تورط عناصر من المافيا الأوروبية في عمليات غسل الأموال الناتجة عن تهريب النفط الليبي ومشتقاته، لا سيما في مالطا واليونان وجنوب إيطاليا والإمارات.

إذ إنه في مارس/آذار 2025 أورد تقرير لصحيفة The Financial Times أن تهريب النفط الليبي المستمر يغذي الصراع السياسي في البلاد ويقوض جهود الاستقرار. وعرض التقرير حالة ناقلة اسمها "MARDI" اختفت من التتبع قبل أن تظهر بمحطة قديمة في بنغازي، وقد حملت لتهريب 13,000 طن من الديزل.

كما كشف تحقيق الصحيفة البريطانية عن عن نظام تبادل نفطي (barter scheme) غير رسمي استخدمته شركات جديدة، كثير منها مقرها في الإمارات، لتبادل النفط مقابل الوقود.

طرق ومسارات تهريب النفط الليبي براً وبحراً

في بلد يمتد جغرافياً على أكثر من 6 آلاف كيلومتر من الحدود البرية والساحلية، ويفتقد سلطة مركزية موحدة، تبدو ليبيا بيئة مثالية لازدهار تهريب النفط، وتكشف تقارير أممية أن عدداً من الشحنات خرجت من موانئ مثل الزويتينة وزوارة دون تسجيل رسمي، باتجاه وجهات مجهولة في المتوسط.

خطوط التهريب البحرية

عام 2018 قال المدعي العام الليبي الصادق السور إن الجماعات الإجرامية تهرب الوقود الليبي على متن سفن الصيد إلى أوروبا. وكشف أن التحقيقات خلصت إلى أن المهربين يستخدمون الطرق البحرية لنقل الوقود المدعوم من مدينتي زوارة والزاوية الساحليتين الغربيتين إلى مالطا وإيطاليا وتركيا وإسبانيا واليونان.

وبعد سنوات من هذا التصريح أشار التقرير الأممي الأخير إلى وجود "سفن بخط سير مريب" قبالة زوارة، مع محاولة تهريب كمية من الوقود الثقيل نحو مالطا عام 2023. وأضاف التقرير أن الموانئ والنشاط عند الزاوية وزوارة يشكلان جزءاً من "اقتصاد النفط الأسود" الذي يمد الفصائل المسلحة بالأموال.

وتشير البيانات إلى أن التهريب البحري يتم غالباً باستخدام ناقلات مجهولة الهوية تطفئ أجهزة التتبع أثناء اقترابها من السواحل الليبية، ثم تنقل حمولتها إلى ناقلات أخرى في عرض البحر، ضمن ما يعرف بعمليات "التفريغ من سفينة لأخرى" (ship-to-ship transfers). وغالباً ما يتم ذلك قبالة سواحل مالطا أو اليونان، قبل تغيير الوثائق والوجهات.

خريطة موانئ التصدير الرئيسية للنفط

  • ميناء السدرة: أكبر محطة تصدير في ليبيا، يحمل حتى 447 ألف برميل يومياً ويلعب دوراً أساسياً في "الهلال النفطي" شرق البلاد.
  • ميناء الزويتينة: يتوفر على مخازن تصل قدرتها إلى 4.3 مليون برميل نفط خام، ويستعمل لتحميل الخام والبترول السائل.
  • ميناء رأس لانوف: يقع بجانب المصفاة ويستخدم لتصدير النفط الخام عبر الساحل، وهو ضمن الهلال النفطي.
  • ميناء طبرق: رغم صغر حجمه فإنه استخدم لتصدير الخام في ظروف اضطرارية، خاصة حين توقفت الموانئ الأخرى.
  • ميناء الزاوية: يقع غرب طرابلس، ويضم أكبر مصفاة عاملة في ليبيا بطاقة تكرير تصل إلى 120 ألف برميل يومياً. المصفاة تتلقى نفطاً خاماً من حقلي الشرارة والفيل، وتكرر جزءاً منه وتصدر الباقي مباشرة من الميناء.

خطوط التهريب البرية

  • الساحل الغربي نحو تونس والجزائر: تنطلق الشاحنات المحملة بالوقود المدعوم من محطات الزاوية وزوارة، ثم تسير عبر المدن مثل جُمال وأجدابيا، وصولاً إلى معبر رأس جدير تجاه تونس، حيث يهرب الوقود دفعة واحدة للمهربين عبر شبكات تستخدم عربات كبيرة لتمرير الوقود بشكل غير قانوني.
  • الجنوب عبر الصحراء نحو دول الساحل: من سبها، يتم توزيع الوقود على شاحنات تعبر الصحراء نحو شرق ليبيا أو جنوبها، مروراً بالكفرة ثم الحدود السودانية، أو نحو النيجر ومالي عبر مدينة تفازة غرباً.

تقرير الأمم المتحدة بشأن تهريب النفط من ليبيا يشير إلى أن حوالي 20% من تهريب الوقود يتم عبر هذه المسارات الصحراوية نحو دول جنوبية تفوق الاستهلاك المحلي لها. وغالباً ما تستبدل حمولات الوقود في هذه المسارات بسلع استهلاكية أو أسلحة، في عمليات أقرب إلى اقتصاد الحرب منها إلى التجارة التقليدية.

لماذا فشلت الجهود في إيقاف استنزاف الوقود الليبي؟

خلال السنوات الأخيرة انتشرت ظاهرة تهريب الوقود الليبي إلى الدول المجاورة وحتى البعيدة نسبياً إلى درجة أن البعض طبع مع هذه الظاهرة التي تستنزف خيرات الليبيين وتكلفهم مليارات الدولارات سنوياً، وهو ما دفع الجهات الحكومية وأيضاً الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي لاتخاذ مجموعة من الإجراءات.

فبعد التحقيق الذي نشرته صحيفة "فايننشال تايمز" في مارس/آذار 2024، وكشف عن اندماج النظام القائم على المقايضة النفطية في شبكة واسعة من التهريب، أعلنت النيابة العامة في ليبيا عن إيقاف ذلك النظام وسحبه من التداول.
وفي نوفمبر/تشرين الثاني 2024، عقد اجتماع مهم بين النائب العام، ورئيس مؤسسة النفط الوطنية، ومحافظ البنك المركزي ورئيس هيئة التدقيق، حيث نوقشت جذور الأزمة وتكاليف الوقود وسبل إصلاح آلية التبادل، في محاولة لوضع حد للفوضى التي جرى استغلالها سياسياً واقتصادياً.

في فبراير/شباط 2025 شنت السلطات المحلية حملات أمنية واسعة في مدن الجنوب الليبي، حيث نفذت اللجنة الأمنية المشتركة عملية واسعة قرب مدينة سبها، أسفرت عن ضبط شاحنات محملة بكميات كبيرة من الوقود المخصص للتهريب. وصادرت خلال شهري أبريل/نيسان ومايو/أيار 2025 أحواضاً تحوي كميات كبيرة من الديزل في منطقتي أم العرنوب والحميرة.

فيما لجأت شركة توزيع الوقود في برقة (Brega Oil Marketing Company) إلى إطلاق نظام تتبع إلكتروني لشاحنات الوقود، ما يمثل نقلة نوعية للتحكم في المسارات ومنع الانحراف نحو السوق السوداء.
على الصعيد الدولي، مدد مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الحظر المفروض على التصدير غير المشروع للنفط ومنتجاته من ليبيا، مؤكداً التزام دول العالم بعدم التدخل أو تسريع النزاع. كما وافق على تمديد ولاية لجنة الخبراء المرافقة لهذه العقوبات.
على المستوى الأوروبي، تم تعزيز تفويض عملية "إيريني" البحرية، التي تهدف إلى رصد تهريب النفط والذخائر والامتثال للعقوبات الدولية، ليشمل مراقبة البنى التحتية البحرية الحيوية في البحر المتوسط.

لكن رغم هذه التحركات الحكومية والدولية فإن استنزاف الوقود الليبي لا يزال مستمراً، إذ لا توجد إرادة سياسية حقيقية لوقف التهريب داخل ليبيا، "لو وجدت هذه الإرادة، كان بالإمكان وقف التهريب أو الحد منه بشكل كبير" وفق ما صرح به وزير النفط الليبي المقال محمد امحمد عون لـ"عربي بوست".

الوزير الليبي السابق أضاف أنه على الصعيد الخارجي، فيبدو أن بعض الأطراف مستفيدة من الوضع القائم في ليبيا، وأوضح قائلاً: "أذكر مرتين على وجه الخصوص عندما زارتني اللجنة الفنية التابعة للجنة العقوبات بمجلس الأمن الدولي، حيث اقترحت عليهم أن تتولى القوة البحرية المكلفة بمراقبة توريد السلاح لليبيا مراقبة عمليات تهريب الوقود أيضاً، لكنهم قالوا إن ذلك يحتاج إلى طلب رسمي لتبحثه لجنة العقوبات".

أمام استمرار هذا الوضع تشير أصابع الاتهام إلى طرابلس وبنغازي، وهو ما أكده عون عندما قال لـ"عربي بوست" إن المسؤولية تقع بالتأكيد على حكومة الوحدة الوطنية في الغرب الليبي وسلطة الأمر الواقع في الشرق.

وشدد المسؤول الليبي أن وقف هذا النزيف مرتبط بشكل مباشر بوجود إرادة سياسية حقيقية على الأرض، وهو ما نفتقده حالياً.

تحميل المزيد