يُسرّع الاحتلال الإسرائيلي، منذ بدء عملية "عربات جدعون"، وتيرة تدمير مناطق واسعة في قطاع غزة، وتحديداً في تلك التي سبق أن أصدر أوامر بإخلائها. ويُظهر رصد أجراه "عربي بوست" عبر صور الأقمار الصناعية أن عمليات التدمير الإسرائيلية تركزت بشكل كبير في جنوب وجنوب شرق القطاع، حيث دُمِّرت أحياء بأكملها، واختفت معالمها، وتحولت إلى ركام.
يتتبع الرصد كيف توسعت رقعة الدمار في 10 مناطق سكنية على الأقل منذ بدء العملية العسكرية الأخيرة. وعلى الرغم من تفاوت حجم الأضرار بين منطقة وأخرى، فإن القاسم المشترك فيما بينها هو أن جميعها تقع ضمن نطاق الإخلاء، ما ينفي أي مبرر عسكري مباشر لاستهدافها، لكونها لا تمثل مصدر خطر على جيش الاحتلال.
كان الاحتلال قد أعلن رسمياً في منتصف مايو/ أيار 2025، عن بدء عملية "عربات جدعون"، وبحسب ما نشرته تقارير إسرائيلية، فإن المعركة تتضمن 3 مراحل:
الأولى: توسيع نطاق الحرب على غزة، وضرب البنية التحتية التي تزعم إسرائيل أنها مرتبطة بحركة "حماس". وقد بدأت هذه المرحلة فعلياً ولا تزال مستمرة حتى تاريخ نشر هذه المادة.
الثانية: تنفيذ عمليات جوية وبرية متزامنة، وفي الوقت ذاته دفع سكان غزة إلى جنوب القطاع، حيث تزعم إسرائيل أنها ستكون "مناطق آمنة". إلا أن إسرائيل، وبسبب تدميرها الممنهج لرفح في الجنوب، فإن المنطقة لم تعد صالحة للسكن.
الثالثة: وتشمل دخول قوات برية لاحتلال أجزاء واسعة من قطاع غزة بشكل تدريجي، وهي خطوة تمهد لوجود عسكري طويل الأمد للاحتلال في القطاع. ويقول الاحتلال إنه يهدف من هذه المرحلة إلى القضاء على حركة "حماس" وتدمير أنفاقها.
خزاعة.. بلدة ممسوحة بالكامل
تُعد خزاعة، الواقعة في شرق محافظة خان يونس، من أبرز المناطق التي تعرضت لتدمير ممنهج من قبل الاحتلال بعد بدء عملية "عربات جدعون". وتُظهر صور الأقمار الصناعية أن الدمار الذي لحق بالمنطقة يمتد على مساحة تصل إلى 1.67 كيلومتر مربع.
وعلى الرغم من أن خزاعة تعرضت للقصف منذ بداية الحرب على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فإن الاحتلال كثّف عمليات التدمير فيها خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
تُظهر بيانات أممية وأوامر الإخلاء الصادرة عن جيش الاحتلال الإسرائيلي أن الأخير أصدر 5 أوامر إخلاء لسكان المنطقة منذ أكتوبر 2023، ويعود أحدث أمر بالإخلاء إلى مارس/ آذار 2025.
ولتوضيح حجم التدمير الواسع الذي نفذه الاحتلال في خزاعة، أجرينا مقارنة بصور الأقمار الصناعية للمنطقة بين يومي 11 مايو 2025 (قبل بدء عملية "عربات جدعون" بـ 5 أيام) و3 يونيو/ حزيران 2025.
شمل التدمير جميع مناطق خزاعة، التي تبعد نحو كيلومتر فقط عن السياج الحدودي مع الاحتلال الإسرائيلي، وتظهر بشكل واضح آثار تجريف في محيطها، وتمتد عمليات التجريف من السياج الحدودي إلى الأطراف الجنوبية من البلدة.

وإلى جانب عمليات القصف، يعتمد جيش الاحتلال على شركات مدنية تشارك في عمليات هدم الأبنية والمنازل بالجرافات. وتُسهم هذه الشركات في هدم ما تبقى من أبنية متداعية سبق أن تعرّضت للاستهداف بالصواريخ.
وتحوّلت خزاعة إلى منطقة منكوبة بالكامل، وكانت تُعرف هذه المنطقة بضمّها مناطق خضراء، واحتوائها على مرافق صحية وتعليمية، إلى جانب الأحياء المكتظّة بالأبنية السكنية.

عبسان الكبرى والصغرى.. تدمير مزدوج
في المناطق المجاورة لخزاعة، طالت عمليات التجريف والتدمير منطقتَي "عبسان الكبرى" و"عبسان الصغرى"، بعد عملية "عربات جدعون"، وهما منطقتان تقعان أيضاً في شرق محافظة خان يونس.
تُظهر مقارنة عبر صور الأقمار الصناعية لعبسان، قبل بدء العملية العسكرية وبعدها، حدوث تدمير ممنهج للأبنية على جانبي الطريق الرابط بين "عبسان الكبرى" وخزاعة.

على نحو مشابه، تعرّضت "عبسان الصغرى" لعملية تدمير واسعة خلال أيام معدودة. وأظهر تتبّع انتشار الدمار أن الاحتلال يقوم بعملية تجريف واسعة في شرق هذه المنطقة، لكن من غير الواضح حتى الآن ما إذا كان الاحتلال يهدف إلى بناء منشآت له في هذه البقعة.
ومنذ بدء الحرب على غزة، أصدر الاحتلال 12 أمراً بالإخلاء لمنطقة عبسان، 6 منها لسكان "عبسان الصغرى"، و6 لسكان "عبسان الكبرى".

الفخاري "أرض الخضار" تتعرض للتدمير
تمتد عمليات التدمير الممنهَجة من قبل الاحتلال إلى منطقة الفخاري، في شرق خان يونس. وكانت هذه المنطقة معروفة بأراضيها الخضراء المستخدمة في الزراعة، لكنها أصبحت الآن قاحلة بسبب الحرب وعمليات التجريف.
يتركز الجزء الأكبر من التدمير والتجريف في الجنوب الغربي من الفخاري، وتحديداً عند منطقة "موراج"، التي يُنشئ فيها جيش الاحتلال ممراً يهدف من خلاله إلى عزل محافظة رفح في الجنوب عن بقية مناطق القطاع.
تمتد آثار التدمير في الفخاري، منذ بدء عملية "عربات جدعون"، على مساحة نحو 10 كيلومترات مربعة. وتُظهر صور الأقمار الصناعية أبنية في المنطقة اختفت بالكامل، وتحولت إلى ركام بعد تدميرها من قبل الجيش الإسرائيلي.
توجد في المنطقة العديد من المنشآت الحيوية، أبرزها المستشفى الأوروبي، الذي تعرّض يوم 13 مايو/ أيار 2025 لقصف تسبب في استشهاد 34 فلسطينياً. ويظهر الدمار واضحاً في محيط المستشفى، الذي استهدفه الاحتلال بأحزمة نارية.

القرارة.. تدمير وتجريف
في شمال خان يونس، وسّع الاحتلال الإسرائيلي أيضاً، منذ بدء عملية "عربات جدعون"، من حجم الدمار في منطقة القرارة، وتعرّضت المناطق الواقعة على جانبي طريق صلاح الدين لاستهداف وهدم ممنهج.
في موازاة ذلك، تظهر آثار عمليات تجريف بشكل واضح في المنطقة، امتداداً من السياج الحدودي القريب من مستوطنة "كيسوفيم"، وحتى الجانب الشرقي من منطقة القرارة.
في ذات المنطقة، يدمّر الاحتلال مزيداً من الأبراج السكنية في مدينة حمد الواقعة في خان يونس. وتُظهر مقارنة عبر صور الأقمار الصناعية آثار تدمير أبراج بعد قصفها، مثل برج Q9 الذي تعرّض للاستهداف يوم 1 حزيران/ يونيو 2025، وقبله تعرّض برج A4 للاستهداف أيضاً.
يتّبع الاحتلال أيضاً سياسة "النسف" لتدمير المنازل في القرارة، أحدثها يوم 2 يونيو/ حزيران 2025، حيث تعرّضت منازل سكنية في المنطقة لعملية نسف نفّذتها قوات الاحتلال.

التدمير يتمدد جنوباً بعد "عربات جدعون"
وفيما يوسّع الاحتلال الإسرائيلي أوامر الإخلاء في محافظة خان يونس، يواصل تدميره لمزيد من المساحات في جنوب المحافظة، بعد بدء عملية "عربات جدعون"، لا سيما في منطقتَي "قيزان النجار" و"قيزان رشوان".
يُظهر تتبّع "عربي بوست" للدمار في هاتين المنطقتين أن الاحتلال يدمّر العديد من المباني، وتُظهر صور الأقمار الصناعية عمليات تجريف واضحة في منطقة "قيزان النجار"، لا سيما في المنطقة الواقعة شمال "غوش قطيف".

إلى الجنوب من خان يونس، امتدّت رقعة التدمير لتشمل منطقتَي السلام والمنارة، حيث طالت العمليات الإسرائيلية مساحةً تمتد على 5.6 كيلومتر مربع داخل المنطقتين.
تُبيّن صور الأقمار الصناعية بوضوح اختفاء بعض الأبنية بالكامل في المنطقتين، كما تظهر فيهما آثار عمليات التجريف.

بالتزامن مع تدمير المناطق المُخلاّة في محافظة خان يونس، فإن الاحتلال يواصل تدمير أحياء رفح في جنوب قطاع غزة. وكان "عربي بوست" قد رصد كيف يمسح الاحتلال حرفياً أحياء المحافظة من خلال القصف والتدمير بالجرافات، ويُحيلها إلى منطقة غير صالحة للسكن البشري.
وسط اتساع المناطق التي تطالها أوامر الإخلاء الإسرائيلية، باتت معظم مناطق القطاع "مناطق إخلاء"، بحسب ما رصده "عربي بوست"، وطالت أوامر الإخلاء نحو 77% من مساحة غزة.
يعمل الاحتلال على ضمّ مناطق الإخلاء إلى "المناطق الأمنية"، التي تحوّلت فعلياً إلى "مناطق قتل"، حيث تم استهداف مدنيين وقتلهم لمجرّد تواجدهم فيها، وبذلك تَقَلّصت المساحة التي يتواجد فيها سكان غزة داخل القطاع بشكل واسع.
ويتمركز سكان قطاع غزة حالياً في مساحات ضيّقة، متوزّعة في أجزاء من محافظات غزة، والوسطى، وخان يونس، ويعيش السكان في ظلّ حصار خانق، تسبّب في انتشار المجاعة وانعدام المقومات الأساسية للحياة.
وخلفت الحرب الإسرائيلية على غزة، منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، ما لا يقل عن 180 ألفاً بين شهيد وجريح من الفلسطينيين، معظمهم من الأطفال والنساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافةً إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين، بينهم أطفال.