على نحو مفاجئ برز اسم شركة بلغارية تواجه اتهامات في قضية توريد "أجهزة البيجر" إلى "حزب الله" اللبناني، التي انفجرت يوم 17 سبتمبر 2024، لتثير بذلك مزيداً من الغموض وتخلط الأوراق حول القضية، وذلك بعدما برز في البداية اسم شركة مجرية، اتُهمت بأنها الشركة المصنعة لأجهزة "البيجر" التي تفجرت.
في هذا التحقيق، نتتبع تفاصيل عن الشركتين البلغارية والمجرية، وإشارات الاستفهام الكثيرة المحيطة بهما، بدءاً من المعلومات الخاصة بتسجيلهما، مروراً بالمعلومات الرسمية المتعلقة بصاحبي الشركتين، والغموض الذي يحيط عملهما، لا سيما وأن الشركة المجرية وصل نشاطها – بحسب ما أعلنته – إلى دولة عربية قالت إنها ساهمت بتنفيذ مشروع "إنساني" فيها.
وأصبحت هاتان الشركتان في دائرة الاتهام عن وجود علاقة بينهما وبين تل أبيب، بعدما استطاعت إسرائيل تفجير آلاف أجهزة "البيجر" التي كانت بحوزة مقاتلين من "حزب الله"، وتسببت بوفاة 12 شخصاً، وإصابة نحو 2800 شخص، 300 منهم بحالة حرجة.
في البداية اتهمت الشركة التايوانية GOLD APOLLO CO التي تحمل أجهزة "البيجر" علامتها التجارية، الشركة المجرية BAC Consulting بأنها هي من صنعت "البيجر" الذي وصل "لحزب الله"، لكن وسائل إعلام مجرية على رأسها موقع Telex، كشفت بأن شركة مسجلة في بلغاريا وهي Norta Global Ltd هي من استوردت الأجهزة وأوصلتها "لحزب الله".
وحتى تاريخ نشر هذا التحقيق، لا توجد بعد أية أدلة قطعية لدى السلطات المجرية أو البلغارية بأن الشركتين متورطتان بتفجير أجهزة "البيجر"، لكن نشاطهما المريب يثير حولهما الكثير من إشارات الاستفهام، ويطرح أسئلة عما إذا كانت الشركتان " وهميتان، وواجهتان" وقفت ورائهما إسرائيل لتنفيذ هجوم "البيجر" في لبنان.
شركة بلغارية مؤسسها نرويجي
لنبدأ في الحديث عن الشركة البلغارية Norta Global Ltd، والتي تتشابه بعض المعطيات المتعلقة بها، بالمعطيات الخاصة بشركة BAC Consulting المجرية، وهو ما سنتناوله بالتفصيل.
وصل "عربي بوست" إلى نسخة من التسجيل الرسمي لشركة Norta Global Ltd البلغارية، منشورة في موقع السجل التجاري الحكومي البلغاري، وتحمل النسخة تاريخ 29 مارس 2022، ويشير السجل إلى أن هنالك مالك وحيد للشركة وهو مواطن يحمل الجنسية النرويجية، واسمه رينسون خوسيه.
تحتوي النسخة على توقيع خوسيه يوم 10 أبريل 2022، والملفت في الوثيقة هو مقدار رأس المال الذي امتلكته الشركة عند تسجيلها، إذ تُشير الوثيقة إلى أن رأس المال هو 200 "ليف بلغاري"، أي ما يعادل بسعر اليوم نحو 113 دولاراً أمريكياً، وهنا تُثار إشارات استفهام كبيرة، لأن الشركة حققت أرباحاً كبيرة خلال عملها.
في هذا الصدد، ذكر موقع Bnt News البلغاري، أن شركة Norta Global Ltd دخل إليها منذ العام 2022 وحتى الآن، مليون و600 ألف يورو، تم تحويلها إلى حسابات بنكية في المجر.
وتتضمن وثيقة التسجيل إشارة مقتضبة إلى عمل الشركة في مجال التكنولوجيا، دون أن تتضمن تفاصيل عن ذلك، وتذكر الوثيقة أن مجال عمل الشركة هو "إدارة المشاريع التكنولوجية، وكافة الأنشطة التي لا يحظرها القانون".
من المريب أيضاً، أن المقر المُسجل لشركة Norta Global هو نفس العنوان لنحو 200 شركة أخرى، وبحسب وكالة رويترز فلم يكن هنالك أية علامة على تواجد شركة Norta في المبنى.
غموض حول مالك الشركة Norta Global Ltd
قادنا البحث عن اسم مالك الشركة، إلى حسابات لشخص نرويجي يحمل نفس الاسم، وقد تحدثت وسائل إعلام بلغارية عن الشخص نفسه، ويشير حسابه الشخصي على موقع LinkedIn إلى عمله بشركة اسمها "Norta link".
خلال بحثنا عمن هي شركة Norta link، بحثنا في الموقع الرسمي لشركة Norta Global Ltd، ووجدنا بأن الموقع الإلكتروني خارج الخدمة، وعدنا إلى نسخ مؤرشفة عنه، ووجدنا أن الموقع كان يتضمن رابطاً إلى صفحة على "فيسبوك"، وتحمل اسم "Norta Link".
محتوى هذه الصفحة يثير الريبة، إذ كان ينشر محتوى لا صلة بالترويج للأعمال التي يشير إليها موقع Norta Global Ltd (تكنولوجيا وخدمات تقنية)، ويعود تاريخ إنشاء الصفحة على فيسبوك إلى عام 2017، وكان اسمها "Norta"، لكن تغيّر الاسم في العام 2021، إلى "NortaLink"، أي قبل أن يتم بالأساس تأسيس شركة Norta Global Ltd.
وبالنظر إلى حساب رينسون خوسيه على LinkedIn وجدنا أنه أشار إلى عمله في الشركة منذ العام 2016، أي حتى قبل إنشاء صفحة الشركة على فيسبوك بنحو عام.
كذلك، تضمنت الصفحة بريداً إلكترونياً يبدأ باسم "رينسون"، وأظهر تفحصنا للإيميل أنه غير فعّال، وربما يكون وهمياً لأنه لا يُستخدم لاستقبال رسائل البريد الإلكتروني.
وجدنا معلومات أخرى حول الشخص على مواقع متخصصة في الأعمال، بينها موقع Theorg الذي تضمن بعض المعلومات حول خوسيه، وفيها إشارة إلى ارتباطه بـ Norta Link.
عثرنا أيضاً على ملف شخصي للشخص نفسه في موقع مجاني تقوم فكرته على مساعدة رواد الأعمال على إيجاد شركاء مؤسسين للشركات الناشئة، وكان خوسيه قد كتب بأنه يبحث عن مؤسس مشارك لبدء مشروع لم يذكر تفاصيله.
وتداولت وسائل إعلام بلغارية ما قالت إنها صورة لخوسيه وأنه من مواليد عام 1985، ونظراً لتعذر التواصل مع الشخص المذكور، فإنه يصعب الجزم بأن الصورة هي لذات الشخص الذي يمتلك شركة Norta.
تُشير وسائل إعلام بلغارية إلى أن الرجل النرويجي كان قد سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وذكرت بأنه يرفض التعليق عما يدور عنه وعن شركته في وسائل الإعلام.
تقول وسائل إعلام مجرية بيها موقع Telex، إن الشركة البلغارية هي التي اشترت أجهزة "البيجر" التي وصلت في النهاية إلى "حزب الله"، التي بيعت في نهاية المطاف إلى حزب الله من تايوان، لكنها أكدت في ذات الوقت أن مديرة الشركة المجرية كان لديها تعامل مع الشركة البلغارية.
شركة مجرية في دائرة الاتهام، ونشاطها يصل إلى ليبيا
تتشابك خيوط قضية من يقف وراء وصول آلاف أجهزة "البيجر" التي انفجرت إلى "حزب الله"، مع بروز اسم شركة أخرى في المجر تواجه اتهامات بضلوعها في الحادثة، وهي شركة BAC Consulting، وتحوم حول هذه الشركة إشارات استفهام عديدة، واتهامات بأنها "شركة وهمية"، لا سيما مع وجود تشابه بين نشاطها وملكيتها وغموضها مع طبيعة شركة Norta Global Ltd.
صحيفة "نيويورك تايمز"، وأوردت شهادات 12 موظفاً سابقاً وحالياً في وزارة الدفاع وجهاز الاستخبارات الأمريكيين، وقال 3 خبراء في جهاز الاستخبارات، فضلوا عدم الكشف عن أسمائهم، إن شركة "BAC Consulting" التي قامت ببيع الأجهزة ومقرها المجر، شركة وهمية أسستها إسرائيل.
وصل "عربي بوست" إلى أوراق التسجيل الرسمية لهذه الشركة، من خلال البحث في سجل الجريدة الرسمية في المجر، والتي تتضمن وثائق تسجيل الشركات في البلاد، وما تحتويه من تفاصيل عن تاريخ التسجيل، والملاك، وطبيعة أعمال الشركات المسجلة.
تشير وثيقة تسجيل شركة BAC Consulting المجرية، إلى أنه تم تسجيل الشركة في مايو/ أيار 2022، أي أن هذه الشركة أُنشأت بعد نحو شهر من إنشاء شركة Norta Global Ltd البلغارية.
بدأت الشركة برأسمال متواضع وهو 7840 يورو، لكن البيانات المالية للشركة التي نشرها موقع Company Wall تشير إلى أن الشركة حققت مداخيل كبيرة وملفتة خلال العامين 2022 و2023، كما تشير البيانات إلى أن الشركة لم تكن لديها مصاريف على رواتب الموظفين.
الملفت في وثيقة تسجيل الشركة أيضاً، أن الشركة أدرجت تحتها عشرات الأنواع من الأعمال التي أرادت مزاولتها في المجر، بدءاً من الاتصالات والعلاقات العامة، مروراً بـ إنتاج الأفلام، وإنتاج النفط، ومعالجة البيانات، والاستشارات التكنولوجية، وبيع وشراء الممتلكات الخاصة، وتصنيع الأزياء والمجوهرات، وزراعة الفواكه، وصولاً إلى تجارة التجزئة لمنتجات الاتصالات.
وعقب اتهام الشركة التايوانية لأجهزة "البيجر"، لشركة BAC Consulting المجرية، بأنها هي المصنعة للأجهزة التي انفجرت في لبنان، اختفى الموقع الإلكتروني للشركة، إلا أن نسخاً مؤرشفة للموقع لا يزال بالإمكان الوصول إليها.
المحتوى المنشور في موقع الشركة المجرية بدا غريباً بشكل مشابه للمحتوى المنشور في موقع Norta Global LTD البلغارية، وذكر موقع BAC Consulting أن الشركة "تقدم استشارات متعمقة لتوجيه رحلة العملاء نحو الابتكار والاستدامة، وأن خدمات الشركة تتضمن تطوير الأعمال والاستشارات الإدارية".
لكن الموقع أشار باقتضاب إلى معلومة ملفتة تُشير إلى نشاط الشركة في بيع منتجات الاتصالات، وتقول الشركة إنها تقوم بتطوير التعاون التكنولوجي الدولي بين البلدان لبيع منتجات الاتصالات السلكية واللاسلكية".
ولا يتضمن الموقع الإلكتروني للشركة محتوىً عن عشرات الأعمال التي يُسمح للشركة مزاولتها والمذكورة في وثيقة تسجيل الشركة، كذلك فإن النطاق الإلكتروني للموقع (https://www.bacconsulting.org) كان في الأساس لموقع يعود إلى طبيبة تقدم استشارات أسرية.
البحث في موقع الشركة، أظهر أنها شاركت في إنجاز مشروع مخصص لليبيا، وتحدثت الشركة عن برنامج LEAD التابع لوزارة الخارجية الهولندية وقالت إنه يهدف إلى الوصول إلى التعليم العالي ودعم تطوير ريادة الأعمال في المجتمعات التي تعاني من الهشاشة.
بحسب الشركة فإنها شاركت في "استشارات ريادة الأعمال والتوظيف مع التركيز على تطوير المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي يقودها الشباب الليبي"، وذكرت أن الأنشطة الرئيسية لها تضمنت التواصل مع الجهات الفاعلة، و"دعم المجتمع المدني الليبي".
مديرة الشركة تثير الريبة
تُسمي وثيقة التسجيل مالكة واحدة للشركة وهي Cristiana Rosaria Bársony-Arcidiacono، وبحسب الوثيقة فإن تاريخ مولدها هو 1975/07/07.
وأصبحت صاحبة الشركة، كريستينا، حديث وسائل الإعلام العالمية، وتحوم حول هذه الشخصية إشارات استفهام عديدة، فعلى حسابها على Linkedin تقول إنها تحمل شهادة الدكتوراه، وأن لديها العديد من الأبحاث المنشورة.
لا يوجد رابط بين المؤهلات التي ذكرتها عن نفسها وبين أعمال شركة BAC Consulting، وتذكر أنها عملت كمستشار استراتيجي لمنظمات دولية كبرى ومؤسسات مالية، لكن لم يوجد ما يؤكد تماماً عضويتها في كل المنظمات التي ذكرتها.
من بين المنظمات التي ذكرت كريستينا أنها كانت عضوة فيها، منظمة "Earth Child Institute"، لكن هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، نقلت عن المنظمة نفيها أن تكون كريستينا عضو في مجلس إدارة المنظمة.
كذلك حذفت مجموعة "edenglobalimpactgroup" ملفاً تعريفياً كان منشوراً عن كريستينا في موقع المجموعة التي قالت إنها تعمل في مجالات "التمويل والاستدامة والشؤون العالمية والسياسة".
ويذكر موقع aestetica الذي أجرى تحقيقاً عن حياتها، أن كريستينا تلقت تعليمها في كلية لندن للاقتصاد ، ودرست ميكانيك الكم في كلية لندن الجامعية، ونقل الموقع عن زميل لكرستينا أيام عملها مع "اليونيسكو"، قوله إنه السيدة كانت دائماً لديها طريقة تجعلها متقدمة على الجميع، وأن الأمر نفسه ينطبق على شركة BAC Consulting.
وفيما تواجه الشركتان المجرية والبلغارية اتهامات بضلوعهما بقضية تفجير آلاف أجهزة "البيجر" في لبنان، لا تزال الكثير من الجوانب المتعلقة بتفجير الأجهزة غامضة، ومن بينها كيف تم تفجير هذا العدد الكبير من الأجهزة وفي وقت متزامن، وكيف حصل هذا الخرق غير المسبوق.