يضطر فلسطينيون في غزة إلى دفع نحو 8 إلى 9 آلاف دولار، من أجل مغادرة القطاع إلى الأراضي المصرية، عبر وضع أسمائهم على قوائم خاصة بوزارة الخارجية المصرية، أو ما بات يُعرف محلياً بـ"تنسيق الخارجية المصرية"، والذي يختلف عن "تنسيق شركة يا هلا"، بحسب ما أكدته شهادات لـ"عربي بوست"، وما توصلنا إليه من حديثنا مع وسطاء (سماسرة) وشركات للسفر تعمل في القطاع.
تعكس هذه المبالغ الضخمة التي يدفعها سكان في غزة حالةَ اليأس التي يعيشها سكان القطاع حيال خروج سهل وسريع من معبر رفح الحدودي مع مصر، إذ لا تسمح السلطات المصرية إلا لعدد قليل للغاية من قاطني غزة بدخول البلاد.
كذلك تُعد هذه المبالغ بمثابة ثمن لسماح السلطات المصرية لهم بالعبور إلى مصر، وسط استمرار واشتداد الحرب التي يشنها الاحتلال على القطاع منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، وسماح مصر لعدد قليل للغاية للمدنيين من غزة بدخول أراضيها بالطريقة الرسمية.
تحدث "عربي بوست" مع 6 مصادر مختلفة، قارن رواياتها مع بعضها للتأكد من صحتها، وبسبب الطريقة المتبعة في دفع الأموال والتي تتم على مراحل مقابل وضع الأسماء على قوائم الخارجية، لم تستطِع المصادر تحديد من هي الشخصيات التي تتسلم الأموال في الجانب المصري بعد دفعها للسمسار، وما إذا كانت هذه الشخصيات تعمل بشكل مباشر في وزارة الخارجية، أم لها صلات بموظفين بالوزارة هم من يتولون بالنهاية وضع أسماء محددة على قوائم الخارجية.
وراسل "عربي بوست" وزارة الخارجية المصرية للتعليق والحصول على توضيح منها، لكن البريد الإلكتروني المُحدد من قِبَل الوزارة للمراسلة لا يعمل، كما أن الموقع الإلكتروني للوزارة المذكور بالصفحة الرسمية لها على "فيسبوك" كان خارج الخدمة.
"تنسيق الخارجية المصرية".. خروج أسرع مقابل أموال أكثر
مع بدء إجلاء حَمَلة الجنسيات الأجنبية خلال الحرب على غزة، أصبحت ترد إلى معبر رفح قوائم تضم أسماء لحَمَلة الجنسية المصرية الموجودين في القطاع، وذلك عبر قوائم من وزارة الخارجية المصرية.
وكانت وزارة الخارجية المصرية قد أعلنت في ديسمبر/كانون الأول 2023، عن استحداث آلية الكترونية جديدة؛ لـ"استقبال بيانات المواطنين المصريين الراغبين في العودة من قطاع غزة، بشكل سريع وفعال"، وأشارت إلى أنها خصصت رابطاً إلكترونياً لـ"ضمان حصر آلية التسجيل"، وذلك بهدف "تسهيل عودة المواطنين المصريين وأسرهم من قطاع غزة إلى أرض الوطن"، وفق قولها.
ولم تعد "قوائم تنسيق الخارجية المصرية" مقتصرة على المصرييين فحسب، بل أصبحت تشتمل على أسماء فلسطينيين.
ويختلف "تنسيق الخارجية المصرية" عن الخروج من غزة عبر شركة "يا هلا"، في 3 أمور: أن التنسيق عبر قوائم الخارجية أسرع من التنسيق مع شركة "يا هلا" أو التنسيق بالطرق الرسمية التي قد تستغرق أشهراً، وعلى الرغم من دفع سكان في غزة لشركة "يا هلا" آلاف الدولارات مقابل كل شخص، فإن الشركة تستغرق وقتاً طويلاً لإضافة الأسماء على المعبر تمهيداً لسفر أصحابها.
الأمر الثاني أن الخروج عبر قوائم وزارة الخارجية مقتصر بالدرجة الأولى على النساء والأطفال ممن هم دون الـ16، وتصبح التكلفة أكبر في حال كان الراغبون بدخول مصر من الرجال.
والأمر الثالث أن التكلفة التي تتراوح بين 8 إلى 9 آلاف دولار تُدفع مقابل خروج الأم وجميع أطفالها الذين هم دون السادسة عشرة، على خلاف تنسيق شركة "يا هلا" المملوكة لرجل الأعمال المصري إبراهيم العرجاني، التي تطلب مبلغاً مالياً مقابل خروج كل شخص بمن في ذلك الأطفال.
23500 دولار من أجل دخول مصر
روت شابة من غزة لـ"عربي بوست" تجربة عائلتها في الخروج من غزة، واضطرت العائلة الفلسطينية حتى الآن إلى دفع 23500 دولار كرشاوى مقابل السماح لهم بدخول مصر، وخرج بعض أفراد العائلة فيما لا يزال آخرون ينتظرون داخل القطاع.
أكدت الشابة التي طلبت عدم ذكر أي أسماء، أنهم اضطروا إلى دفع 8500 دولار من أجل إخراج والدتها وأشقائها الأطفال ممن هم دون سن الـ16 عاماً، وذلك عبر القوائم الخاصة بوزارة الخارجية المصرية، الأمر الذي ضمن لهم خروجاً سريعاً من القطاع، فيما اضطروا إلى دفع 15 ألف دولار إلى شركة " يا هلا" مقابل خروج الأب والإخوة الكبار.
تؤكد الشابة أن العائلة في البداية كانت مترددة بسبب انتشار عمليات نصب، وقع ضحيتها مدنيون في غزة دفعوا آلاف الدولارات مقابل الخروج إلى مصر، وأشارت إلى أنه تم وضع المبلغ في البداية في محل للصرافة في مدينة رفح، ويكون هذا المحل بمثابة طرف وسيط وضامن بين الجهة صاحبة المبلغ والسمسار الذي له صلة بالنهاية بشخصيات موجودة في الجانب المصري، ويتم الاتفاق مع الصرّاف على عدم تسليم السمسار للأموال إلا بعد التأكد من السفر.
عقب دفع المبلغ بأيام معدودة، تم تضمين اسم الأم على قائمة أسماء خاصة بوزارة الخارجية المصرية، وذهبت الأموال إلى السمسار، وروت الشابة مشاهدات أفراد العائلة الذين خرجوا من غزة عبر معبر رفح، وقالت إنهم شاهدوا العديد من سكان غزة الذين غادروا القطاع بعد ورود أسمائهم على قوائم الخارجية، وأكدت أن الذين شاهدتهم العائلة فلسطينيون، واضطروا هم أيضاً لدفع الأموال من أجل الخروج.
وسطاء يطلبون آلاف الدولارات لـ"تنسيق الخارجية"
تواصلنا مع عدد من الوسطاء "سماسرة"، وشركات تعمل في مجال السفر داخل غزة، وسألناهم كأي شخص عادي في غزة ينوي مغادرة القطاع عبر دفع الأموال، وكانت إجاباتهم حول تفاصيل التكلفة وطريقة الخروج متطابقة تماماً مع شهادات مدنيين خرجوا من غزة عبر قوائم الخارجية المصرية.
إحدى شركات السفر التي تحدثنا إليها، تنشر فيديوهات على حسابها في "فيسبوك"، تعلن فيها استعدادها لتأمين عبور سريع للنساء والأطفال من غزة إلى مصر، خلال فترة تتراوح بين 24 إلى 48 ساعة.
سألنا الشركة عما إذا كانت ترتيبات الخروج من غزة، عن طريق شركة "يا هلا"، وأجابت بأن "التنسيق" لن يكون عبر "يا هلا"، بل عبر قوائم الخارجية المصرية، وأشارت إلى أنه بسبب "الضغط على تنسيق الخارجية"، أصبحت المدة المستغرقة للتنسيق 10 أيام.
أيضاً سألنا سمساراً عن تفاصيل مغادرة غزة بأسرع وقت، وقال إن بإمكانه تأمين سفر خلال يومين فقط، وطلب 8 آلاف دولار عن كل سيدة ترغب بالمغادرة، وذكر أن تكلفة سفر أطفالها ستكون مجانية، وأشار إلى أن التكلفة ترتفع لـ 18 ألف دولار في حال رغبت العائلة بأكملها بالسفر.
أما عن طريقة الدفع، فذكر أنه يتم تأمين المبلغ في أحد محال الصرافة في قطاع غزة، على أن يتم تحويل المبلغ كاملاً له بعد السفر.
تحدثنا أيضاً إلى شركة سفر أخرى معروفة في غزة، وكانت قبل الحرب تسيّر العديد من الرحلات إلى مصر، وسألناها أيضاً عن تكلفة المغادرة إلى الأراضي المصرية، وأجابت بأن هنالك "تنسيقاً مُتاحاً عبر معبر رفح لحَمَلة الجوازات الفلسطينية من فئة النساء فقط".
أضافت الشركة أن تكلفة السفر تبلغ 9 آلاف دولار، وأنه بالإمكان اصطحاب الأطفال مع الأم ممن هم أقل من 14 عاماً، وأن المدة المتوقعة للسفر خلال 48 إلى 72 ساعة.
تكلفة عالية لخروج العائلات مع أطفالها
تحدث "عربي بوست" كذلك مع صحفي من غزة، فضّل عدم ذكر اسمه، وأكد مغادرة بعض السكان في غزة من خلال ورود أسمائهم على قوائم مصرية، لكنه قال إن "أعدادهم قليلة نسبياً"، وذكر أن الخروج بهذه الطريقة يضطر الشخص إلى دفع ما بين 9 إلى 10 آلاف دولار على الشخص البالغ، فيما يخرج الأطفال بـ"المجان"، وفي حين أراد الزوجان والأطفال الخروج فعليهم دفع ما يصل إلى 20 ألف دولار.
أكد الصحفي أيضاً وجود أسماء فلسطينية تُضاف على القوائم المصرية وهم ليسوا من حَمَلة الجنسية المصرية، وقال إن ذلك يتم من خلال دفع مبالغ أكبر، حتى يتم السماح لهم في النهاية بدخول مصر.
في تأكيد آخر على رواية الشهود الذين تحدثوا إلينا، أكد الصحفي أن الطريقة المتبعة لدفع الأموال، هي من خلال إيداع الأموال عند صرّاف وسيط، وعقب السفر يتم تحويل الأموال للمنسق، وأضاف أن المنسق يكون "إما مصرياً أو فلسطينياً مقيماً في مصر".
غضب ويأس
وعلى تطبيق تليغرام، تمتلئ غرفتان متخصصتان للحديث عن طرق الخروج من غزة، بتعليقات غاضبة ويائسة، بسبب تأخر ورود أسماء لأُناس سجلوا بطريقة رسمية على قوائم الخارجية المصرية منذ أشهر ولم ترد أسماؤهم حتى الآن على القوائم.
من بين التعليقات التي اطلع عليها "عربي بوست"، أشار صاحب أحد الحسابات إلى أنه سجل اسم والدته في القوائم منذ شهر أكتوبر/تشرين الأول 2023، وحتى يوم 19 مارس/آذار 2024 لم يرد الاسم على القوائم، كما وردت تعليقات مشابهة عن تأخر ورود الأسماء في القوائم.
أيضاً أشار أحد المسؤولين في غرفة تُعنى بأخبار رفح إلى أن "كشوفات الخارجية المصرية" تضم أسماء فلسطينيين اضطروا لدفع الأموال مقابل الخروج من غزة.
وتحدثت تعليقات أخرى عن دفع أموال من أجل وضع الأسماء على "قوائم الخارجية المصرية"، مشيرين إلى أن التكلفة تتجاوز 8 آلاف دولار.
ويضطر فلسطينيون إلى اللجوء للموقع الأشهر حول العالم لجمع التبرعات "GoFundMe"، وذلك لتقديم طلبات مساعدة لتأمين مبالغ ضخمة من أجل دفعها كـ"فدية" أو "رشاوى" كما يسميها البعض، مقابل السماح لهم بعبور عائلات من غزة لمصر، وتنتهي هذه الأموال في جيوب شخصيات في مصر تتولى مهمة وضع أسماء من سيُسمح لهم بمغادرة القطاع إلى الأراضي المصرية.