يتخوف محمد صديق، الشاب المصري الثلاثيني الذي يعمل بأحد البنوك، من الإقدام على خطوة الزواج؛ خشية "الدخول في معترك لا ينتهي من الأزمات والمشكلات"، رغم كونه يعمل موظفاً في عمل يمنحه راتباً يجعله قادراً على الإنفاق على زوجته بشكل مناسب في الوقت الحالي، لكنه يصطدم في المقابل بارتفاع أسعار العقارات والذهب والأثاث وغيرها من تكاليف الزواج، بعدما صار متاحاً لمن استطاع إليه سبيلاً.
يروي صديق قصته مع محاولات الزواج العديدة لـ"عربي بوست"، بتأكيده أن اتخاذ الخطوة يعد الأمر الأكثر صعوبة، فهو يبني خطته بالأساس على الزواج في شقة بالإيجار حتى يتمكن من شراء شقة "تمليك"، لكنه اصطدم بارتفاعات غير مسبوقة في أسعار الإيجارات.
وأشار إلى أن الشقة التي كان تؤجَّر قبل بضعة أشهر بـ2000 جنيه في الشهر وصلت الآن إلى 5000، وهو رقم يصعب عليه توفيره من راتبه الشهري، ويعد ذلك من أهم بنود الزواج.
الزواج تحوَّل بالنسبة للشباب إلى "شبح"
يدرك الشاب الذي لم يقدم على خطوة الخطوبة ولديه هاجس من الزواج بوجه عام، أن شراء شبكة الفرح (الذهب) يمثل مشكلة أخرى مع الارتفاعات المتتالية في أسعار الذهب، وكذلك الوضع بالنسبة للأثاث والأدوات الكهربائية وتكاليف الفرح، بعد أن تضاعفت بشكل مبالغ فيه مع تراجع قيمة الجنيه، مشيراً إلى أن الزواج تحول بالنسبة إليه إلى "شبح"، كلما حاول الاقتراب منه وجد نفسه أمام مخاوف عديدة تجعله يتراجع عدة خطوات إلى الخلف.
أوضح صديق أن راتبه كان يساعده على ادخار مبلغ في البنك، لكن هذا المبلغ الآن مع فقدان الجنيه المصري أكثر من 100% من قيمته خلال عام، قلَّص قيمة ما ادخره، والذي يكفي فقط لشراء الشبكة أو تأجير قاعة الفرح، وتبقى هناك التزامات عديدة من الصعب توفيرها.
والأكثر من ذلك أنه الآن لا يستطيع ادخار أي مبالغ مع ارتفاع تكاليف الحياة اليومية، إذ يرى أن الزواج لن يكون سعيداً بسبب المشكلات المادية المتوقعة في حال لم تكن شريكته تعمل أيضاً.
تتشابه المبررات التي دفعت الشاب المصري محمد صديق لصرف النظر عن الزواج مع التي ساقها أيمن محمود، والذي أتم خطوة الخطوبة ثلاث مرات في السابق دون أن يتمكن من إتمام الزواج.
ويرجع ذلك إلى مخاوفه من عدم القدرة على الالتزام باحتياجات منزله، خصوصاً أنه واجه صعوبات في توفير تكاليف الزواج، ويرى أنه بحاجة إلى أن يعمل ليلَ نهار حتى يتمكن من الوفاء بالتزاماته.
السودانيون رفعوا أسعار الإيجارات
يعمل أيمن محمود محاسباً بأحد المطاعم الكبرى في القاهرة، ولا يتجاوز راتبه 5000 جنيه، رغم أنه يعمل 12 ساعة يومياً، لكنه فشل في الحصول على عمل بسعر يتجاوز ما يحصل عليه.
ورغم أنه يعمل بالمطعم منذ ثلاث سنوات، لكنه يشير إلى أن الزيادات السنوية ضئيلة للغاية، كما أن فرص الترقي تبقى منعدمة ويفقد الأمل في تغيير واقعه، وبالتالي ينتظر حدوث تغيير جوهري في حياته يساعده على إتمام الخطوة.
يضيف: "قبل ثلاثة أشهر اتخذت قراراً بفسخ خطوبتي، رغم أنني كنت قد قطعت شوطاً في اختيار شقة الزوجية، ورغم أنني اتفقت على سعر الإيجار لمدة ثلاث سنوات، لكن صاحب الشقة تراجع في كلامه وطالبني بمضاعفة قيمة الإيجار على أن يكون ذلك لعام واحد فقط، وأرجع ذلك لحدوث متغيرات في سوق العقارات مع توافد السودانيين إلى مناطق شعبية مصرية، وبالتالي ارتفعت الأسعار بين ليلة وضحاها".
وتابع قائلاً: "في نفس الوقت وصلت أسعار الذهب إلى أعلى مستوياتها وتخطى الغرام حاجز الـ 2500 جنيه، ورغم أن أهل العروس تساهلوا بقدر كبير في عدد الغرامات وطلبوا 20 غراماً فقط، لكن ذلك كان يعني أنني بحاجة إلى 60 ألف جنيه، وهو مبلغ صعب للغاية مع الارتفاعات المتزامنة في أسعار الأثاث، ووجدت أنني بحاجة إلى ما يقرب من 500 ألف جنيه دون أن يكون لديَّ شقة تمليك وهو مبلغ كان من الصعب عليَّ توفيره".
ورغم أن أهالي خطيبته السابقة عرضوا المساعدة، لكن أيمن محمود صاحب الـ29 عاماً يقول إنه شعر بأنه لن يكون قادراً على تحمل مصاريف الزواج، ورفض أن يدخل عش الزوجية وهو مكبل بالديون ومحاصر بالأقساط، وكان عليه أن يمضي على "إيصالات أمانة" لسداد مبلغ من المال كان ينوي استدانته من أحد أصدقائه.
فكر الشاب المصري بعقله ووجد أن مسألة وجود أطفال مع الراتب الزهيد الذي يحصل عليه سيكون بمثابة ظلم للأبناء وسيجد نفسه أمام مشكلات أكبر مما يواجهها أثناء فترة الخطوبة، واتخذ قراره رغم معارضة جميع من حوله، وهو ما كان يتكرر في كل مرة يتخذ فيها قرار الخطوبة قبل أن يتراجع عن إتمام الزواج.
زيادة معدل الطلاق ونسبة الزواج انخفضت بنحو 20%
وتتماشى رؤية الشباب المصري مع ما أعلنه نقيب المأذونين في مصر مؤخراً، إسلام عامر، والذي كشف عن انخفاض معدلات الزواج في مصر هذا العام عن الأعوام الماضية، وأنها لم تتعدَّ 320 ألف حالة زواج حتى يونيو الماضي مقارنة بـ 500 ألف عقد زواج في الفترة ذاتها خلال العام الماضي.
وخلال مايو/أيار الماضي أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (جهة حكومية) وصول معدل الطلاق إلى 2.5 من كل ألف من السكان، الذين وصل عددهم إلى نحو 105 ملايين مواطن، مع استمرار تراجع نسب الزواج من 927 ألفاً و844 عقد زواج عام 2019 إلى 880 ألفاً و41 عقداً عام 2021.
وأعلنت شركة "إجابات" لاستطلاعات الرأي وهي شركة خاصة أن نسبة الزواج انخفضت بنحو 20% خلال السنوات الثلاث الأخيرة، نتيجة تردي الأوضاع الاقتصادية، إلى جانب إعجاب بعض الفتيات بفكرة الاستقلالية، ووجود صورة ذهنية مشوهة للزواج.
وبحسب الشركة التي أعلنت عن نتائج دراستها الشهر الماضي، فإن الزواج لم يعد ضمن أولويات الشباب المصري، وأن نحو 60% من الشباب في مصر يرفضون الزواج، مشيرة إلى أن هناك نحو 12 مليون فتاة فوق سن الـ35 غير متزوجات، ونحو 2.5 مليون شاب فوق الـ35 سنة غير متزوجين أيضاً.
وبلغ عدد الأسر المصرية 25.8 مليون أسرة، وبحسب بيانات المسح الصحي للأسرة المصرية عام 2021، فإن عدد عقود الزواج على مستوى الجمهورية بلغ 880 ألفاً و41 عقد زواج عام 2021 بمعدل 8.6 لكل ألف من السكان.
يقول محمد حمدي، وهو صاحب إحدى قاعات الأفراح الشعبية بمحافظة الجيزة لـ"عربي بوست"، إن تراجع معدلات الزواج ينعكس عليه مباشرة؛ لأنه من المعتاد أن يكون الإقبال على حجز القاعة بنسبة 100% خلال أشهر الصيف الثلاثة (يونيو/حزيران ويوليو/تموز وأغسطس/آب) وأن النسب تتراجع مع بدء شهر سبتمبر/أيلول، لكن ما يحدث هذا العام أن شهر يونيو/حزيران قام فقط بحجز 12 يوماً بنسبة أقل من 50% والأمر ذاته يتكرر هذا الشهر، مشيراً إلى أنه يحاول قدر الإمكان الحفاظ على أسعار مناسبة للفئات المتوسطة ويمكن أن تتراوح تكلفة الزفاف بين 20 ألف جنيه إلى 30 ألف جنيه.
يلفت حمدي إلى أن أسعار حفلات الزفاف تضاعفت خلال الستة أشهر الماضية، وإذا كانت تكلفة الحفلة الواحدة تصل إلى 50 ألف جنيه، فإنها وصلت الآن إلى 110 آلاف جنيه، وارتفعت تكلفة الفرد الواحد من 400 جنيه إلى 800 جنيه في الفنادق المتوسطة والصغيرة، والأمر ذاته بالنسبة للأفراح الشعبية التي كانت تتراوح ما بين 10 إلى 15 ألف جنيه ووصلت الآن إلى 30 ألف جنيه.
يرجع صاحب قاعة الأفراح الزيادات إلى ارتفاع الإيجارات وزيادة أسعار المأكولات والمشروبات بوجه عام، وباقي تجهيزات الزفاف، وفي النهاية تكون النتيجة ارتفاعات تصل إلى 100%، وهو ما يجعل البعض يتردد في إحياء حفل الزفاف والاكتفاء بقضاء شهر العسل، وينعكس ذلك أيضاً في تراجع معدلات الزواج بوجه عام.
تراجع القدرة الشرائية
حينما توجهنا إلى محمد عادل، وهو صاحب أحد محلات الأثاث، وجدنا أن الركود هو سيد الموقف، مشيراً إلى تراجع عمليات البيع بنسبة تصل إلى 40% مع زيادة أسعار الأثاث بنسبة تصل إلى 300%، وبالتزامن مع ذلك تراجعت القدرة الشرائية، وهو ما دفعه لتقديم عروض تقسيط الشراء؛ لكن ذلك لم يؤدّ لعودة حركة البيع إلى معدلاتها الطبيعية.
يوضح عادل أن حركة الشراء في هذا الصيف هي الأقل على مدار العقد الأخير، مشيراً إلى أن المقبلين على الزواج أضحوا يختارون شراء غرفتين فقط (النوم والسفرة أو الصالون) بعد أن كان الأغلب يشتري أربع غرف بينها النوم والصالون والسفرة والأطفال، لافتاً إلى أن تراجع حركة البيع لا تتوقف على منطقة بعينها، وأن جميع المحال وشركات تصنيع الأثاث تواجه مشكلات على مستوى المحافظات المختلفة.
ويشير خبير في علم الاجتماع السياسي إلى أن تراجع معدلات الزواج يرجع إلى جملة من الأسباب المركبة يأتي في مقدمتها الأوضاع الاقتصادية الصعبة، مع تراجع قيمة الجنيه، وعدم وجود رقابة على الهيئات الخاصة بما يجعلها تحافظ على حقوق العاملين فيها، إذ إنها لم تلتزم بزيادات الحد الأدنى للأجور المقررة من جانب الحكومة كلما تراجعت قيمة الجنيه، وكذلك ارتفاع تكاليف الزواج بشكل كبير، سواء من حيث تأسيس بيت الزوجية، أو تكاليف الحياة بعد ذلك، وهو ما يجعل الشباب يعجزون عن تحمل تلك التكاليف.
ويلفت إلى وجود حالة عامة تتبنى اتجاهات الخوف من المستقبل؛ نظراً للقرارات الاقتصادية المضطربة للحكومة المصرية وعدم وجود رؤية واضحة تشير إلى إمكانية الخروج من الدائرة الحالية، ووجود حالة من اليقين العام بأن المستقبل دائماً ما يكون أسوأ من الماضي، وبالتالي فإن العزوف عن الزواج يبقى حاضراً في أذهان وعقول الشباب الذين يعانون من ارتفاع معدلات البطالة وزيادة معدلات التضخم بأرقام غير مسبوقة.
ويرى أن تراجع معدلات الزواج يترك آثاره السلبية مجتمعياً، لأنه يؤدي مباشرة إلى زيادة معدلات العنوسة، واختلال خصائص المجتمع المصري الذي يغلب عليه الشباب في الوقت الحالي، لكن في المستقبل قد يتبدد الوضع في حال تراجع معدلات الزواج والمواليد والوصول إلى مرحلة قلب الهرم السكاني.
وكان عدد سكان مصر قد بلغ 104 ملايين نسمة في الأول من أكتوبر 2022، وهو ما سبقه وتبعه أحاديث ومبادرات ومشروعات حكومية، تحذر من الزيادة السكانية ومخاطرها، وتطالب المصريين وتحفزهم على خفض نسب الإنجاب.
وقال خبير في علم النفس إن مجموعة من السلوكيات الأسرية تشارك أيضاً في تراجع معدلات الزواج، وعلى رأسها سوء العلاقات بين الآباء والأمهات وأولادهم، وسوء علاقات الأقارب مع بعضهم، وهو ما يفرز جرائم جديدة وغير معتادة على المجتمع، بينها زيادة معدلات العنف وانتشار حالات القتل بين الأقارب.
وأضاف لـ"عربي بوست" أن المشكلات الاقتصادية تفرز البحث عن الزواج المادي دون النظر إلى باقي العوامل التي تسهل إتمام الزواج، وبالتالي يفشل الطرفان مبكراً، وإن قاد ذلك لإتمام الزواج فإنه في الأغلب لا يستمر، كما أن تأثر الشباب بما يتم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي من مشكلات بين الأزواج وانتشار مجموعات الفتيات والشباب الذين يسلطون الضوء على ما يواجهونه من مشكلات أثناء الزواج يدعم حالة العزوف العامة.