بدت عيونه شاخصة شاردة، ارتعشت فرائصه وارتاب قبل أن يستسلم في الآن ذاته بعد أن وثق الشرطي يده بالأصفاد بسرعة فائقة، وهو الذي كان يعتقد أنه زبون سيدفع له قيمة 10 غرامات من حجر أبيض ملفوف في بلاستيك يسمى مخدر البوفا.
"عربي بوست" واكب عملية ضبط أحد أكبر مروّجي مخدر البوفا في مدينة الدار البيضاء في واضحة النهار من طرف فرقة مكافحة العصابات الأولى بقيادة عمر.م ضابط شرطة ممتاز، بولاية الأمن في الدار البيضاء في المغرب.
كما استمع "عربي بوست" لضباط من الشرطة القضائية، وزار المختبر الوطني للشرطة العلمية والتقنية، وجالس متعاطين وأفراد من أسرهم، واستضاف خبراء وفاعلين في مجال المخدرات بحثاً عن الإجابة.
"عربي بوست" يُرافق الأمن في عملية التوقيف
الشاب الموقوف واحد من أصحاب السوابق في الثلاثينيات من عمره، يروج ويتوسط ويتعاطى مخدر البوفا، تم إيقافه بمحطة القطار عين السبع، وهي محطة قطار صغيرة فرعية بأحد أحياء الدار البيضاء الكبرى.
وكانت الشرطة القضائية بالدار البيضاء قد أعدت لهذا المروِّج كميناً بعد تنسيق بين الأجهزة الأمنية المعنية عبر رموز ومكالمات وأرقام يتم تداولها بواسطة أجهزة الاتصال والهدف هو القبض على المروج متلبساً.
عملية محطة عين السبع، التي رافق "عربي بوست" خلالها فرقة مكافحة العصابات الأولى واحدة من عمليات عديدة تستهدف ضبط مروجي المخدرات و"البوفا" تحديداً على مستوى مدينة الدار البيضاء، وعلى مستوى المغرب ككل.
وشهدت الأيام الأخيرة بالمغرب تواتر الأخبار عن خطر داهم اسمه مخدر البوفا وعن اعتقالات في صفوف متعاطين ومروجين، كما أن مواقع التواصل الاجتماعي تشهد انتشار فيديوهات وصور لمتعاطين.
ووصل عدد القضايا المسجلة في الترويج لـ"مخدر البوفا"، حسب تصريح رسمي، أكثر من 200 قضية خلال الفترة الممتدة من أول يناير/كانون الثاني 2020 إلى نهاية مايو/أيار 2023.
ويشهد موضوع انتشار تعاطي مخدر البوفا اهتماماً إعلامياً متصاعداً، وقلقاً لدى الرأي العام، وتخوفاً لدى الأسر ما دفعنا في "عربي بوست" إلى طرح الأسئلة التالية:
ما هي "البوفا"؟ ما الأعراض التي تظهر على متعاطيها؟ وما هي المخاطر المرافقة؟ هل نحن أمام ظاهرة أو ذروة انتشار آفة تعاطي البوفا؟ وما حقيقة انتشارها في أوساط الشباب والمدارس؟ كيف يتم التعاطي مع انتشارها ميدانياً؟ هل من سبيل للإقلاع في حالة التورط؟
ما هو مخدر البوفا؟ رئيسة مختبر الشرطة تُفسر
الدكتورة حكيمة يحيى، عميد ممتاز ورئيسة المختبر الوطني للشرطة العلمية والتقنية التابع للمديرية العامة للأمن الوطني، قالت لـ "عربي بوست"، إن مخدر البوفا مادة مصدرها الكوكايين، وهو ما يطلق عليه في الدول الغربية "الكراك".
وكان ظهور مخدر الكراك لأول مرة في الثمانينيات من القرن الماضي، في كل من الولايات المتحدة الأمريكية، وفي أوروبا، وشهد ذروة الآفة في أواخر التسعينيات من القرن الماضي.
أما عن طريقة تصنيع مخدر البوفا، فتقول رئيسة المختبر الوطني للشرطة العلمية إن الحصول عليه يتم عن طريق تسريب الكوكايين في الأمونياك أو بكربونات الصوديوم والماء، بعدها تبدأ عملية التسخين.
وأفادت المتحدثة بأن مخدر البوفا هو تحول كيميائي لـ"كلوغيدرات الكوكايين" إلى "كوكايين باز" يجعل هذا المخدر قابلاً للتدخين، مشيرة إلى أن اسم البوفا يأتي ربما من الصوت الذي تنتجه عند التسخين (poufer).
ويعمل المختبر على تقديم مجموعة من الخبرات، وتقوم مصلحة المخدرات وعلوم التسمم بالمختبر بتقديم تحليلات في الشق المتعلق بالمخدرات، حيث تحال عليه العينات في إطار المحجوزات التي تقوم بها الشرطة القضائية.
أفادت حكيمة يحيى بأن العينات التي كانت تحال على المختبر قبل 2021 كانت تهم فقط كلوغيدرات الكوكايين.
وأضافت المتحدثة في تصريحها لـ"عربي بوست" أن أول رصد لمادة القاعدة "كوكايين باز"، والتي لم تكن مسحوقاً أبيض، وكانت عبارة عن حصاة بيضاء أو صفراء، كان خلال 2021.
وحسب المصدر ذاته فإن العينات التي توصل بها المختبر من مخدر البوفا كانت تمثل نحو 2.5% من عينات الكوكايين، ارتفعت إلى 25% خلال 2022، وتم تسجيل أن الكوكايين باز تأخذ مكان الكوكايين وتخترق السوق بشكل تصاعدي.
وكان وزير الداخلية عبد الوافي لفتيت أكد في جواب عن سؤال كتابي للفريق الحركي بمجلس النواب، تسجيل 200 قضية تتعلق بمخدر البوفا، وتم حجز نحو 3 كيلوغرامات، وإيقاف 282 شخصاً تمت إحالتهم على العدالة.
والي الأمن: البوفا في المغرب انتشر مؤخرا بشكل كبير
التقى "عربي بوست" بعبد الله الوردي، والي أمن ولاية الدار البيضاء، المدينة التي كانت موضوع العديد من الوسائط الإعلامية المتداولة حول انتشار مخدر البوفا بشكل كبير.
عبد الله الوردي أكد لنا أن مخدر البوفا ظهر مؤخراً بشكل كبير في بعض الأماكن، مشيراً إلى أن المصالح الأمنية والفرق المختصة تتصدى لها، وتحقق في ذلك نتائج متميزة بدليل المحجوزات والأشخاص الذين تم توقيفهم.
وقال: "نحن من جانبنا لا ندخر جهداً ونحارب، الأمور أصبحت متحكماً فيها مثلها مثل باقي الجرائم التي تتم على مستوى الدار البيضاء"، ولم يفُتِ الوالي الوردي التأكيد على الدور التربوي وضرورة تفعيل كافة المقاربات لمحاصرة استهلاك المخدرات.
وعالجت ولاية أمن الدار البيضاء ما مجموعه 251 قضية خلال الفترة 2022 والسبع أشهر الأولى من 2023، حسب معطيات حديثة تخصّ مخدر البوفا حصلت عليها "عربي بوست" من ولاية أمن الدار البيضاء.
وتم ضبط خلال المدة ذاتها نحو 3 كيلوغرامات و699.8 غرام من مخدر البوفا، في حين أوقفت المصالح الأمنية على مستوى مختلف عمالات المدينة نحو 324 شخصاً وقاصراً و19 من العنصر النسوي.
من أين جاء هذا المخدر؟
ويُرجح داخل أوساط الأطراف المعنية أن مخدر البوفا خرج من تجمعات المهاجرين من جنوب الصحراء، الذي يستعمل بعضهم كناقل للكوكايين عبر الحدود في أحشائهم، وأن الرغبة وراء مضاعفة هامش الربح أدت إلى استغلال فوائض الكوكايين وتحويلها لحجر صغير يُدعى البوفا.
ما هي خطورته؟
ولهذا المخدر تأثير خطير على صحة الإنسان، إذ تؤكد حكيمة يحيى أن الخطورة في التعاطي للبوفا أو "الكراك" تكمن في السرعة والعنف ومدة التأثير.
وحسب خبرتها، تقول الخبيرة العملية -وفق تجربتها- إن العينات تختلف نوعيتها من حيث التركيز والمكونات، والعينات التي يتم حجزها حالياً تخلط بمواد خطيرة مثل الأمونياك.
وأضافت رئيسة مختبر الشرطة العلمية والتقنية أن هذا النوع من المخدر يسبب آثاراً وعواقب مماثلة لتلك التي يسببها الكوكايين، ولكن أكثر عنفاً وسرعة واختصاراً في مدة التأثير أو النشوة، حيث تأثيرها فوري بين 5 و10 ثوانٍ.
وأشارت المتحدثة إلى أن مخدر البوفا يتميز بالتحفيز الذهني مع الصداع والشعور وكأنه في حلم سرعان ما ينتهي، وهو ما يُعرف بالهبوط الذي يقترن بالاكتئاب والقلق والصداع وعدم الارتياح الذي قد يؤدي للانتحار.
وتوضح المتحدثة ذاتها أن الهبوط أيضاً يستغرق بعض ثوانٍ مع بداية الصداع الذي لا ينتهي إلا بأخذ الجرعة التالية، وهنا تكمن خطورة الدخول في دوامة التعاطي والإدمان.
بالإضافة إلى العواقب الاجتماعية والاقتصادية والنفسية يسبب استعمال هذا النوع من المخدر، في اتساع حدقة العين وارتفاع درجة الحرارة الجسم وزيادة معدل ضربات القلب وارتفاع ضغط الدم.
ويكون المدمن معرضاً للإصابة بمضاعفات كنوبات القلب، وضيق التنفس، والسكتة الدماغية، والصرع، وقد يصاب بآلام البطن المفاجئة والعنيفة التي تستمر لساعات أو أيام، وسوء التغذية، وفقدان الوزن، وتساقط الأسنان والشعر.
كما أن الاستخدام المنتظم يرفع من اكتمال بعض الاضطرابات مثل الهلوسة والإثارة، وعدم ضبط النفس القلق، ما يؤدي إلى حدوث نوبة الدهان المصحوب بجنون العظمة حتى حالة الانتحار.
مخدر البوفا ينشر القلق وسط الأسر.. هل من خط للرجوع؟
أمين شاب يبلغ من العمر (25 سنة) ينظر بعيون شاردة نحو الأرض لا يكاد يرفعهما، أصابعه مرتعشة ومتشابكة ولون وجهه مزرقاً، نحيف البنية ينظر يميناً ويساراً بين الفينة والأخرى كمن يطلب النجاة دون الحديث.
كان أمين رفقة قريبة له بمركز التنمية البشرية لحماية الشباب من المخدرات بمنطقة بمدينة الدار البيضاء، الذي يستقبل يومياً حالات لمدمني المخدرات من مختلف الأصناف، منها البوفا الذي ارتفع منسوب استهلاكها في الأسابيع الأخيرة.
عبد المجيد القاديري، رئيس جمعية الأزهار الاجتماعية والثقافية "لا للقرقوبي" بالدار البيضاء، قال إن الجمعية تستقبل حالات إدمان على مخدر البوفا منذ مدة طويلة، وأن البوفا ليس جديداً.
واعتبر المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن مخدر البوفا من أصعب المخدرات التي يتم الترويج لها في المغرب، مضيفاً أن الجمعية التي يرأسها تتابع حالات بعضها يعود لثماني سنوات سابقة.
وأوضح لنا الفاعل المدني أن بعض الحالات المتقدمة يظهر عليها الارتعاش "بوهزهاز"، والقلق وفقدان الشهية والاضطراب العصبي، والاستغراق في التفكير في المخدر، مشيراً إلى أن هناك مَن هرب من الجمعية بعد رغبته في العلاج.
وأشار رئيس جمعية الأزهار الاجتماعية والثقافية "لا للقرقوبي" إلى أنه عاين حالات تتعافى على مستوى مركز علاج الإدمان بعين السبع بالدار البيضاء، مشدداً على أهمية الاحتضان الأسري والدفء العائلي.
وقال الفاعل المدني إن التفهم هو أول الطريق لاحتضان المدمن، ثم إحالته على الطب النفسي وطب الإدمان، مشيراً إلى أنه على مستوى المركز يساعدون على الاستشفاء ويقدمون الدواء من خلال دعم عمومي.
والتقى "عربي بوست"، رفقة عبد المجيد القادري بمركز حماية الشباب من المخدرات بعين السبع بالدار البيضاء حالات بعض المتعاطين التي تتوافد على الجمعية.
ومن بين هذه الحالات فتاة أدمنت تعاطي مخدر البوفا لثماني سنوات، بدأت بتعاطي الكوكايين، وبعده كوكايين مخلوط عبر الاستنشاق، حسب وصفها، لكنها استطاعت الشفاء من الإدمان.
وقالت المتحدثة لـ"عربي بوست" إنها قد تماثلت للشفاء بعد إرادة قوية وأدوية وعلاج ومساعدة عائلية، قائلة: "البوفا شر مطلق يسرق منك الحياة، واليوم أحسّ بأنني ولدت من جديد".
من جهته يرى الحسن البغدادي، رئيس الجمعية الوطنية لمكافحة التدخين، أن "الوضع ليس بخير، وأنه يتلقى في الجمعية مكالمات يومية وشكاوى من أسر تعيش عيشة ضنكاً، وأن الأسر تسأل عن مراكز العلاج وإمكانيات الإقلاع.
يقول الحسن البغدادي، في تصريح لـ"عربي بوست"، إن بارونات ومروجي مخدر البوفا في المجتمع يرقون لوصف القتلة، ناعتاً إياهم بمخربي العقول والأسر، مطالباً بضرورة تناسب الأحكام مع الأخطار التي يسببها المخدر عبر تنفيذ عقوبات مشددة.
ويطالب الفاعلون في مجال محاربة المخدرات بالإضافة لمحاربة المروجين، ودور الأمن في الموضوع وضرورة توفير الفضاءات والاهتمام بالشباب بضرورة توفير العلاج المجاني للإدمان وتمويل الأدوية والتطبيب والاستشفاء.
تضخيم إعلامي؟
وفي لقاء لـ"عربي بوست" مع ضباط من المصلحة الولائية للشرطة القضائية بالدار البيضاء، رصدنا مدى الاهتمام وتجند مختلف الفرق لمحاصرة مخدر البوفا الذي ينعت بـ"كوكايين الفقراء".
من جهته أكد عميد الشرطة الإقليمي، رئيس فرقة الاستعلام الجنائي والبحث التقني بالمصلحة الولائية للشرطة القضائية لـ"عربي بوست"، أن المصالح الأمنية مجندة من أجل محاربة ظاهرة الاتجار بالمخدرات بجميع أنواعها وليس البوفا فقط.
واعتبر العميد أن البوفا الذي أصبح موضوع حديث الكل في الآونة الأخيرة، الدافع نحوه غالباً الفضول وحب الاستطلاع، حيث يختبر المستعمل للبوفا التأثير الفعلي للمخدر، ويندفع نحو التجربة بعد انتشار المعلومات بين المدمنين.
وأوضح العميد الدور الميداني الذي تقوم به الفرق بعد التوصل للمعلومات المسبوقة بعمليات تتبع وتحريات ميدانية وحراسات سرية من قبل فرق متمرنة للوصول للمعلومة في المجال الجنائي.
من جهتهم أكد ضباط مصلحة الشرطة القضائية التقى بهم "عربي بوست" خلال هذا العمل الميداني، أن مختلف تحريات المصلحة أبانت أن نشاط المزودين يكون في هوامش المدينة، ويتمركزون في نقاط فارغة ويتخذون الكثير من الحذر.
من جهته يرى عميد شرطة رئيس فرقة محاربة العصابات والمخدرات تحدث لـ"عربي بوست" أن الناس يعتقدون أن مخدر البوفا جديد، لكن أصله مادة رديئة من الكوكايين تخلط بمواد كيميائية، وانخفاض سعره وبساطة إعداده هو الذي أدى إلى انتشاره بسهولة.
وتقدر مصالح الأمن، التي التقاها "عربي بوست"، أن انتشار الترويج لمخدر البوفا ليس بالصورة التي تتكلم عنها وسائل التواصل وبعض وسائل الإعلام وأن هناك بعض التضخيم.
وتؤكد المصادر ذاتها أن البوفا لا توجد بالمدارس ولا في محيطها، ويتم استهلاكها في البيوت والأماكن المهجورة، والوصول إليها ليس متاحاً كما قد يتصور البعض، ولا تُباع بكميات كبيرة في أماكن متخصصة.
نفس هذه المعلومات التي حصل عليها "عربي بوست" من مصادر أمنية أكدها وزير الداخلية عبد الواحد لفتيت في البرلمان، والذي صرح بأن كل القضايا المسجلة حول مخدر البوفا خارج المدارس.
وتؤكد المصلحة الولائية للشرطة بالدار البيضاء أن وتيرة الترويج غالباً ما تبقى ثابتة بسبب العود، حيث يتم القبض على مروجين يدخلون السجن في حين يخرج آخرون يقومون بنفس الدور.