منذ سنة 2018 اعتادت "خديجة"، وهي سيدة مغربية من مدينة تطوان، إرسال مبلغ مالي يقدر بحوالي 300 دولار كل شهر إلى ابنتها وحفيدتها المحتجزتين بمخيم الهول شمال شرق سوريا لدى قوات سوريا الديمقراطية، لكنها الآن لم تعد قادرة على توفير هذا المبلغ جراء استفحال أزمة التضخم في البلاد، وطول أمد احتجاز قريباتها في المخيم.
وبحسب "فاطمة" التي تحدثت إلى "عربي بوست" من مدينة تطوان المغربية، فإن ابنتها سافرت في البداية إلى تركيا رفقة زوجها، الذي كان يعيش حياة عادية في تطوان، قبل أن تنقطع أخبارهما، ليتبين بعد ذلك أنهما التحقا بتنظيم "داعش" الإرهابي بسوريا.
لا تصدق "فاطمة" لحد الآن أن ابنتها التي كانت تشتغل في محل للحلاقة ستنقلب حياتها رأساً على عقب بسبب زوجها، الذي قرر ذات يوم الالتحاق ببؤر التوتر في سوريا، وتقول: "ابنتي إنسانة عادية، كانت تشتغل في محل للحلاقة ولم تكن لها علاقة بالتطرف أو الإرهاب، لكننا فوجئنا بذهابها إلى سوريا رفقة زوجها عبر الحدود التركية".
وأشارت الأم المغربية إلى أن زوج ابنتها لقي مصرعه في إحدى المواجهات بعد حوالي سنة على وصولهم إلى سوريا تاركاً وراءه أرملة وطفلة رضيعة تواجهان المجهول في مخيمات الهول.
وتضيف: "ذات يوم خلال سنة 2018 توصلنا بتسجيل صوتي من ابنتي من أحد الأرقام السورية تخبرنا أنها وقعت في يد قوات سوريا الديمقراطية، وأنها متواجدة بمخيم الهول، وطلبت منا مساعدتها مالياً لسد حاجياتها اليومية رفقة ابنتها، ومنذ ذلك الحين ونحن نعاني من أجل توفير مبلغ مالي كل شهر من أجل بعثه لها".
مصائب قوم عند قوم فوائد
منذ سنوات، استغلت قوات سوريا الديمقراطية وجود الآلاف من زوجات وأرامل وأطفال مقاتلي داعش في إنعاش الحركة الاقتصادية محلياً بإقامة سوق للمستلزمات الضرورية للحياة اليومية من مواد غذائية وألبسة وأغذية وحفاضات الأطفال ووكالات لاستقبال الأموال.
وبحسب المعطيات التي حصل عليها "عربي بوست" من عائلات مغربية، فإن المسؤولين عن إدارة مخيم الهول يحصلون على نسبة من الأموال التي تصل إلى المحتجزات من عائلاتهم، كما أصبحت تلك الأموال مورداً لتحريك العجلة الاقتصادية بالمنطقة.
"فاطمة"، التي تحدثت إلى "عربي بوست"، تؤكد أن ابنتها لا تتوصل بالمبلغ الكامل، الذي ترسله لها، بل إن مسؤولي المخيم يقومون بخصم نسبة معينة من هذا المبلغ، وهذا المعطى أكدته مريم زبرون، الكاتبة العامة لتنسيقية عائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق في تصريح لـ"عربي بوست".
وقالت مريم زبرون: "إن المبالغ التي تصل إلى المحتجزات في مخيمات سوريا الديمقراطية يتم خصم نسبة مئوية منها لصالح الأكراد، كما أن المبالغ المتبقية يتم صرفها داخل المخيم، بمعنى أن الأكراد يستفيدون كل شهر من أرباح طائلة".
الحوالات أثقلت كاهل الأسر
لم تعد أسر المحتجزات قادرة على إرسال حوالات مالية كل شهر لهن من أجل اقتناء مستلزمات الحياة اليومية في ظل الأوضاع المزرية داخل المخيم، خاصة أن عدداً من هذه العائلات تنتمي إلى أسر فقيرة أو متوسطة في أحسن الأحوال.
مريم زبرون، الكاتبة العامة لتنسيقية عائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق، والتي دأبت على تلقي شكايات عائلات المحتجزات والاستماع لمعاناتهن، قالت لـ"عربي بوست": "بعد مرور أزيد من سبع سنوات لم يعد باستطاعة العائلات المغربية إرسال حوالات وتمويل بناتهم في المخيم"، مشيرة إلى أن هذه العائلات من الطبقة الاجتماعية الضعيفة.
ونبهت المتحدثة إلى أن بعض الأسر المضطرة لإعانة بناتها في المخيم، كلما اقترب موعد إرسال الحوالة تضطر إلى بيع أثاث المنزل والاستغاثة بالمقربين منهم من أجل مساعدتهم، مضيفة أنها تعرف أسراً أخرى اضطرت لمد يدها في الشارع واستعطاف المحسنين.
وإذا كانت بعض العائلات ما زالت تكافح من أجل تلبية حاجيات بناتها المحتجزات في مخيمات سوريا، فإن عائلات أخرى صرحت لبناتها بعدم قدرتها على مساعدتهم، وهو ما يضطرهم إلى العمل لدى المحتجزات الميسورات.
في هذا الصدد، تؤكد مريم زبرون: "إن عدداً من المحتجزات يقمن بتنظيف خيام وغسل ملابس المحتجزات الميسورات والطبخ بأجر زهيد لا يسد رمقهن ولا رمق الأولاد الذين يقمن بإعالتهن"، مشيرة إلى أن بعض هؤلاء يقضين شهوراً دون أكل اللحوم والفواكه، حيث يقتصرن على الشاي والخبز.
من جهتها، لم تخف "خديجة"، سيدة مغربية من مدينة مكناس معاناة عائلتها مع إرسال الحوالات لتلبية حاجيات ابنتها في مخيم "الهول" بسوريا، والتي توفي زوجها وتركها رفقة طفلين.
وقالت "خديجة" في حديث مع "عربي بوست"، وهي تغالب دموعها بلهجة مغربية "تقهرنا أولدي"، وهي عبارة مغربية تحيل على ضيق ذات اليد، ويتم ترديدها إذا سدت جميع الأبواب.
وتضيف: "نبعث لهم ملبغاً مالياً قدره 2200 درهم كل شهر، أي حوالي 200 دولار، أما في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية في المغرب، فقد تقلص هذا المبلغ إلى ألف درهم، أي قرابة 100 دولار كل شهر".
وزادت قائلة: "الأوضاع في المخيم مزرية جداً، وإذا لم نقم بتمويل حاجيات ابنتي رفقة ابنيها سيموتون جوعاً، لكننا لم نعد قادرين على توفير هذه المبالغ"، مبرزة أن مطلبها الوحيد للمسؤولين المغاربة هو إعادة ابنتها إلى المغرب رفقة طفليها، حتى وإن اقتضى الأمر محاكمتها على توجهها رفقة زوجها إلى سوريا.
مطلب خديجة بإعادة ابنتها رفقة طفليها إلى المغرب، هو مطلب تتقاسمه معها العديد من العائلات المغربية، التي تنتظر قيام الحكومة المغربية بترحيل المحتجزات لإنهاء هذا الكابوس، الذي ظل يؤرقها لسنوات.
ومنذ سنوات دأبت تنسيقية عائلات المغاربة العالقين والمعتقلين في سوريا والعراق على المطالبة بإعادة النساء والأطفال المحتجزين في مخيمات سوريا الديمقراطية إلى المغرب.
وبحسب معطيات رسمية، كشفها مدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية في المغرب، فإن عدد المغاربة العالقين في بؤر التوتر بسوريا والعراق يبلغ حوالي 774 شخصاً، من بينهم 136 امرأة و387 طفلاً، من ضمنهم أطفال من أب غير مغربي.
وتؤكد الكاتبة العامة لتنسيقية عائلات المغاربة العالقين في سوريا والعراق أن الحكومة المغربية، فتحت قنوات التواصل مع التنسيقية من خلال وزير العدل، عبد اللطيف وهبي، لكننا لحد الآن لا نعرف برنامج الدولة لإعادة المحتجزين والمعتقلين.
وطالبت المتحدثة السلطات المغربية بترحيل المحتجزين وتهيئة الأرضية لإعادة إدماج الأطفال والمراهقين في سجون الأكراد والذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 سنة و17 سنة.
مقابل ذلك، تؤكد السلطات المغربية أن تحديات كثيرة تواجه ترحيل المحتجزين والمعتقلين في سوريا بسبب غياب معلومات دقيقة بشأنهم، وذلك بسبب قطع المغرب لعلاقاته مع سوريا، فضلاً عن الإشكال الكبير المتعلق بمزدوجي الجنسية، والأبناء الذين ولدوا في مناطق التوتر.
وكان وزير الداخلية المغربي، عبد الوافي لفتيت، قد أكد أمام لجنة برلمانية أن استمرار تردي الأوضاع بمناطق تواجد المقاتلين المغاربة حال دون استمرار عمليات الترحيل، مشيراً في هذا الصدد، إلى أن السلطات المغربية قامت سنة 2019 بترحيل عدد من المغاربة من مناطق التوتر، حيث خضعوا لأبحاث قضائية كإجراءات وقائية واحترازية في شأن احتمال تورطهم في قضايا مرتبطة بالإرهاب.
وكان البرلمان المغربي، قد أوصى في تقرير له، صدر سنة 2021 بإعادة المعتلقين والمحتجزين المغاربة من مناطق التوتر، وتوفير الدعم النفسي والاجتماعي للأطفال والنساء العالقين في سوريا والعراق، إلا أن الحكومة ظلت تتذرع بوجود تحديات كثيرة تحول دون عودتهم، لتستمر معاناة أهاليهم في المغرب.