يواجه سوق الدواء في مصر أزمة مركبة نتيجة الأوضاع الاقتصادية المتردية والتأثيرات السلبية المستمرة لتراجع سعر الجنيه مقابل الدولار، وهو ما أفضى لانتشار حالة فوضى في سوق الدواء المصري تسببت في زيادة معدلات حالات الوفاة نتيجة الأدوية المغشوشة واستمرار نقص أصناف مستوردة تزامناً مع تفاقم مشكلات التصنيع المحلي الذي يعاني حالة من الركود جراء عدم قدرته على استيراد المواد الخام من الخارج.
أصبحت الحكومة المصرية في مواجهة مشكلات تجعلها عاجزة عن ضبط السوق مع انتشار أسواق موازية لبيع الأدوية خارج الصيدليات وبحث المواطنين عن أي وسائل يستطيعون من خلالها الحصول على العقاقير بأسعار زهيدة في ظل تردي أوضاعهم المعيشية، وزيادة معدلات تهريب الأدوية المستوردة ومنتجات ألبان الأطفال التي تشهد زيادات مضطربة في أسعارها الرسمية وبشكل يومي؛ نتيجة التراجعات المستمرة في قيمة الجنيه بالسوق السوداء.
زيادة أسعار أدوية السرطان ونقصها يدفعان للشراء من تجار الشنطة
لم يستطِع محمد عادل، وهو شاب ثلاثيني، الإيفاء بحاجات والدته من أدوية السرطان التي تعاني نقصاً في الأسواق إلى جانب مضاعفة سعرها، وبحث عن منافذ أخرى للحصول على الدواء خارج الصيدليات، مشيراً إلى أنه في البداية لجأ إلى عدد من التطبيقات الإلكترونية التي تبيع بأسعار تقل عن السعر الرسمي بالصيدلية بنسبة تصل إلى 20%، لكن مع استمرار زيادة الأسعار بشكل مستمر استوجب الأمر البحث عن وسائل أخرى للحصول على الدواء.
يضيف لـ"عربي بوست" أنه استطاع من خلال مندوبي توزيع الدواء الذين يتعاملون مع التطبيقات الإلكترونية الوصول إلى أحد "تجار الشنطة"، لافتاً إلى أنه لا يعرف الطريقة التي يتحصل بها على الدواء.
لكن المؤكد أنه أصبح يشتري الدواء الذي يحتاجه بنصف الثمن، قائلاً: "قد يكون في الأمر مجازفة غير محمودة العواقب، لكن الحصول على دواء وإن كان مهرباً أو لم يتم حفظه بالطريقة السليمة أفضل من عدم الحصول عليه تماماً".
لم يختلف الوضع بالنسبة لمحمود سعيد (42 عاماً)، وهو أب لتوأم يحتاجان في الأسبوع من خمس إلى ست عبوات من لبن الأطفال المستورد الذي يباع في الصيدليات، إذ إن ولديه لا يمكنهما الحصول على اللبن المدعم الذي توفره وزارة الصحة بسعر زهيد ويحتاج الحصول على أنواع معينة تتماشى مع إصابتهما بحساسية اللبن، مشيراً إلى أن أسعار العبوات تضاعفت بنسبة 100% خلال أربعة أشهر فقط، وأن العلبة التي كان يصل سعرها إلى 200 جنيه وصلت أخيراً إلى 400 جنيه.
منصات التواصل ساحة لبيع عبوات لبن الأطفال المهربة والمغشوشة
وفقاً للأسعار الجديدة، فإن سعيد سيحتاج إلى شراء عبوات لبن بـ 2000 جنيه في الأسبوع أو أكثر لطفليه الرضيعين، وهو أمر لا يتحمله، وكان البديل عبر موقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، عبر إحدى السيدات التي تعرض بيع ألبان الأطفال، مشيراً إلى أنه يذهب أسبوعياً لملاقاتها أو مقابلة أحد من طرفها للحصول على عبوات اللبن بجوار إحدى محطات مترو الأنفاق بالجيزة ويحصل على العبوة الواحدة بسعر 130 جنيهاً بدلاً من 400.
لا يخشى سعيد على صحة طفليه، لأن كثيراً من أصدقائه وزملائه أصبحوا يتجهون لشراء الألبان وغيرها من الأدوية عبر تجار ينتشرون في مواقع التواصل الاجتماعي ولديهم شهرة واسعة في المناطق الشعبية، وفقاً للمتحدث، فإن توفير الدواء أو لبن الأطفال يبقى هدفاً رئيسياً لا يمكن التراجع عنه، وفي الوقت ذاته، فإن الأوضاع الاقتصادية الضاغطة والزيادات المطردة في الأسعار تدفع للبحث عن بدائل يمكن وصفها بأنها "آمنة إلى حد ما".
الحالتان السابقتان لا تعتبران استثناءً في السوق المصري، لأن الواقع يشير إلى أن المنصات الرقمية التي تبيع الدواء بأسعار زهيدة تأخذ في التنامي والتصاعد، وأن البلاغات التي تقدمها نقابة الصيادلة بين الحين والآخر ضدها للمطالبة بغلقها لا تأتي بمفعولها، وما زالت تجذب إليها المواطنين، مع استمرار زيادات الأسعار بشكل جنوني بالنسبة للأدوية المستوردة من الخارج.
وتشير التقديرات الحكومية إلى أن شركات صناعة الدواء المحلية تُساهم بنسبة 88% من إجمالي احتياجات السوق المحلية، وما زال 12% من الاحتياجات يتم استيراده من الخارج، وتأتي أدوية السرطان على رأس العقاقير التي لا تُصنع في مصر.
الصيدليات لم تعد المصدر الوحيد للدواء في ظل أزمات السوق
يقول مصدر مطلع بشعبة الدواء المصرية لـ"عربي بوست" إن الصيدليات لم تعد المصدر الوحيد لبيع الدواء في ظل الأزمات التي يعانيها السوق، وإن بعض العيادات الخاصة والمخازن إلى جانب التطبيقات الإلكترونية وكذلك عدد من المصانع المحلية أضحت بمثابة مورد مباشر إلى المواطنين الذين يبحثون عن شراء حاجتهم من الأدوية بأسعار منخفضة، وهو ما يقلل قدرة الحكومة على ضبط السوق والتعامل مع العقاقير المغشوشة.
ويؤكد أن سوق الدواء شهد ظاهرة جديدة خلال الفترة الماضية تمثلت في انتشار سماسرة بيع الأدوية، وهؤلاء يعملون كوسطاء بين شركات الأدوية أو المخازن وبين المواطنين، وهؤلاء ينتشرون على نطاق واسع في الأقاليم والنجوع والمناطق الشعبية التي يتراجع فيها الإقبال على الصيدليات مع زيادات الأسعار، وهؤلاء مع زيادة عددهم أضحوا يتحكمون في أسعار البيع.
لجأت بعض المخازن، في ظل عدم استقرار أسعار الصرف وتأثر أسعار الأدوية بالتعاون مع السماسرة، إلى تقليل توزيع بعض الأصناف، سواء كان ذلك للبيع المباشر للمواطنين أو للبيع إلى الصيدليات لتحقيق أرباح إضافية في حال حصول إحدى الشركات على موافقات حكومية بزيادة أسعارها مع استمرار العمل بلجنة التسعير الجبرية للدواء في مصر، وفقاً للمصدر ذاته.
صيدليات تغلق أبوابها وتكتفي بالتواصل بين مخازنها وسماسرة التوزيع
اتخذ بعض أصحاب الصيدليات، بحسب المتحدث ذاته، إجراءات تتماشى مع طبيعة السوق، وقاموا بغلق صيدلياتهم والاكتفاء بمخازن التخزين للتهرب من إجراءات الرقابة والتفتيش التي تقوم بها هيئة الدواء ولتوفير التكلفة، والتخلص من مشكلات الضرائب التي تلاحقهم.
ويشير المصدر إلى أن ذلك الاتجاه يتسبب في زيادة نسب معدلات وجود الأدوية المغشوشة أو المقلدة أو منتهية الصلاحية التي تسببت في بعض حالات الوفاة خلال الفترة الماضية.
نتيجة لكل هذه العوامل أصبح سوق الدواء المصري مكتظاً بأدوية مقلدة أو عقاقير مهربة في الخارج دون أن يتم حفظها بالشكل الجيد، ويساعد على رواجها عدم قدرة المصانع المحلية على استمرار خطوط إنتاجها بنفس وتيرتها الطبيعية؛ لعدم قدرتها على استيراد المواد الخام المستخدمة في التصنيع.
ووفقاً للمصدر، فإن توقف عمليات استيراد الأدوية من الخارج بشكل شبه كلي خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني نتيجة شح الدولار سيكون له مزيد من التأثيرات السلبية على السوق ومزيد من انتشار الأدوية المغشوشة.
استيراد 95% من مستلزمات سوق الدواء المصري
وتشير تقديرات المركز المصري للحق في الدواء إلى أن 95% من صناعة الدواء المصري تعتمد على الاستيراد من الخارج، بدءاً من المواد الفعالة وحتى الأحبار التي يكتب بها على شرائط الدواء، كلها تستورد من الخارج، وهو ما يجعلها صناعة ترتبط بشكل أساسي بأسعار الصرف وتتأثر بتقلباتها.
ويؤكد مصدر مطلع بنقابة الصيادلة لـ"عربي بوست" أن الخطر الأكبر الذي يجابه سوق الدواء يتمثل في انتشار "مصانع بير السلم" لتصنيع الدواء خارج الإطار الشرعي لمنظومة تصنيع الدواء، والملاحظ تنامي ضبط أدوية مقلدة عبر تهريب بعض المواد الفعالة من الخارج، مشيراً إلى أن تلك المواد قد تكون سامة أو ضارة ولا تخضع لأي مراجعات من الجهات الرقابية على الأدوية، لكنه يتم تصميمها لتبدو مطابقة لشكل الأدوية الأصلية.
ويضيف أن بعض الصيدليات التي يشرف عليها أشخاص ليس لديهم صلات بمهنة الصيدلية يقومون ببيع الأدوية منتهية الصلاحية لأشخاص مجهولين؛ لأن الموزعين يرفضون تسلّمها بحجة أن المصانع لا توافق على استردادها، وفي حال قام ببيعها سيتحمل المسؤولية بشكل مباشر، ما يجعله يلجأ إلى تهريبها من خلال هؤلاء الأشخاص الذين يقومون ببيعها من خلالهم عبر التطبيقات أو تجار الشنطة.
وحذرت هيئة الدواء المصرية، الأسبوع الماضي، من انتشار الأدوية المقلدة، ونشرت عدة قوائم تضمنت أسماء مستحضرات دوائية وعلاجية واسعة الانتشار تتنوع بين مسكنات الألم وخوافض الحرارة ومواد تعقيم الجروح والمضادات الحيوية وبعض الأدوية اللازمة لأصحاب الأمراض المزمنة.
وفيات الأطفال تسلط الضوء على الأدوية المقلدة
وسلطت الواقعة التي هزت الرأي العام المصري في مطلع أكتوبر/تشرين الأول الماضي نتيجة وفاة طفلتين شقيقتين عقب تلقيهما حقنة مضاد حيوي في إحدى الصيدليات، الضوء على مشكلات الأدوية المغشوشة، وحتى الآن لم تبين التحقيقات السبب في ذلك سواء نتيجة أخذهما حقنة دون إجراء اختبار للحساسية أم أنها بسبب المادة الموجودة في الحقنة، والتي قد تكون منتهية الصلاحية أو بسبب الغش التجاري، أم أنها لسوء حالة السرنجات التي تم حقنهم بها.
وتكررت حالات الوفيات مع أطفال آخرين بعد تلقي حقن دوائية في المستشفيات والصيدليات، آخرها وفاة الطفل كريم عادل البالغ من العمر عامين ونصف العام بعد تلقيه حقنة مضاد حيوي داخل أحد مستشفيات الدقي مطلع هذا الشهر.
حذّرت نقابة الصيادلة بشكل خاص من حقن "سيفترياكسون" المطروحة في الأسواق المصرية تحت تسع علامات تجارية تشمل سفترياكسون، المخصصة للأطفال في حالات البرد أو السخونية، وأيضاً حقن "سيفاكسون، وينترياكسفون، إيبسفين، وروسيفين، وسيفوتركس، وترياكسديل، وزوراكسون، وزوكسديل"؛ وذلك بعد رصد النقابة حالات وفاة نتيجة الإصابة بحساسية شديدة منها.
وتستمر التحقيقات في واقعة انتشار صبغة مغشوشة جرى استخدامها في إجراء الأشعة المقطعية خلال الثلاثة أشهر الماضية، وتسببت أيضاً في بعض الوفيات نتيجة ظهور نتائج خاطئة، ووصلت هذه الصبغة إلى المستشفيات ومراكز الأشعة بعد أشهر طويلة من نقصها، وتستخدم بالأساس في الأشعات المقطعية والمسح الذري لمرضى الأورام.
ويلفت مصدر مطلع بشعبة الأدوية إلى أن سوق الدواء بحاجة إلى إعادة تنظيم لتتماشى مع المتغيرات الاقتصادية الحالية مع شح توفر الدولار اللازم لاستيراد الأدوية أو المواد الخام المستخدمة في التصنيع.
ويشير إلى أن الأولوية في الاستيراد لا بدَّ أن تكون للمواد الخام بما يشجع على التصنيع المحلي، كما أن إدارة التسعير التابعة لهيئة الدواء عليها أن تراعي التحولات السريعة في أسعار الصرف ووجود سعر موازٍ بالسوق السوداء لزيادة أسعار الأدوية، بما يساعد على توفيرها ويمنع اللجوء إلى الأصناف المغشوشة، لافتاً إلى أن الخطر الأكبر قد يقع على صناعة الدواء التي قد تتراجع محلياً في حال انخفض هامش الربح أو وجدت صعوبات في الإنتاج.
مخاوف من سوق موازية لتجارة الدواء تتجاوز السوق الرسمية
وتوقفت بعض الشركات عن إنتاج الدواء لارتفاع سعر الدولار، ووفقاً للمصدر ذاته، فإنه في حال اضطرت أعداد كبيرة من الشركات للتوقف فيعني ذلك أن مصر ستكون أمام سوق موازية لتجارة الدواء يتخطى حجمها السوق الرسمية مع استمرار عمليات التهريب، وخصوصاً أن الحكومة ستجد صعوبة في تلك الحالة لضبطها؛ لأن الشركات الحكومية العاملة في مجال صناعة الدواء لا تتخطى نسبتها حاجز الـ6% من إجمالي الشركات المحلية التي يتبع أغلبها للقطاع الخاص، ما يتطلب إعادة النظر في التسعير؛ كي لا يتوقف القطاع الخاص عن الإنتاج.
وتفتخر الحكومة المصرية بوجود بنية تحتية ضخمة للتصنيع الدوائي، حيث يبلغ عدد مصانع الأدوية على مستوى الجمهورية 170 مصنعاً عام 2022، مقابل 130 مصنعاً عام 2015، بنسبة زيادة 30.8%، بالإضافة إلى امتلاك مصر 700 خط إنتاج عام 2022، مقابل 500 خط عام 2015 بنسبة زيادة 40%، مشيراً إلى أنه تم إعفاء مدخلات الإنتاج الدوائية من ضريبة القيمة المضافة في يناير/كانون الثاني 2022.
ونقت الحكومة السبت الماضي، انتشار أدوية مغشوشة وغير مطابقة للمواصفات القياسية بالصيدليات، حيث تواصل المركز الإعلامي لمجلس الوزراء مع هيئة الدواء المصرية، والتي نفت تلك الأنباء، وبحسب بيان صادر عن الحكومة، فإن "جميع الأدوية المسجلة بهيئة الدواء المصرية، والتي يتم تداولها في الأسواق، آمنة وفعالة وذات جودة عالية، ومطابقة لكافة معايير ومتطلبات التصنيع وفقاً لإرشادات منظمة الصحة العالمية، وتخضع جميعها لعمليات فحص ورقابة دورية أثناء مراحل الإنتاج والتوزيع والعرض المختلفة".
وأشارت إلى حرص الهيئة على تكثيف متابعة الأسواق لسرعة ضبط أي تشغيلات مغشوشة وتحريزها بالتنسيق مع الجهات الرقابية المعنية تمهيداً لاستكمال الإجراءات اللازمة، مع تنفيذ حملات تفتيش بشكل دوري على مختلف الصيدليات بكافة محافظات الجمهورية، وسحب عينات عشوائية من الأدوية، وتحليلها بمعامل الهيئة، للتأكد من سلامتها.