قاوم السيد مبارك.ب التهاب البروستاتا، حتى أتاه اليقين من طبيبه المُعالج، عندما أسرّ له في آخر حصة مراقبة أن الأمر تطور إلى سرطان يتطلب دواءً خاصاً؛ ما زاد من حدّة ألم المريض الستيني الذي اشتغل طيلة حياته دون تغطية أو تأمين صحي.
بوجه شاحب وحيرة وثقل المرض، يجر السيد مبارك خطاه من عيادة طبيبه الخاص بالعاصمة الرباط، متجهاً نحو بيته وهو يحمل ملفه الطبي، وفي ذهنه سؤال مؤرق عن كيفية تدبير ثمن الدواء الذي يفوق 10 آلاف و400 درهم (نحو 1040 دولاراً).
وارد جداً أن تتشابه قصة هذا الستّيني مع قصص الكثير من المرضى في المغرب ممن يحتاج لأدوية لا تكون عادة في متناولهم، بالنظر إلى غلاء ثمنها، أو لكونهم لا يتوفرون إلى حد الآن على تغطية أو تأمين صحي عن الأمراض.
تراجع عن تخفيض الضريبة
أصدرت وزارة الصحة والحماية الاجتماعية بياناً قبل مناقشة مشروع الموازنة لـ2023 في البرلمان، تقول فيه إن "وزير الصحة والوزير المنتدب المكلف بالميزانية يضعان اللمسات الأخيرة على قرار تخفيض الضريبة على الأدوية، وتخفيض الرسوم على المنتجات الصحية والمستلزمات واللوازم الطبية وشبه الطبية المستوردة".
غير أن الأمور لم تتحقق حتى الآن؛ إذ أفاد رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة (غير حكومية)، علي لطفي، أن "الحكومة تخلَّت عن قرار تخفيض الضريبة على القيمة المضافة على الأدوية في مشروع قانون المالية 2023، واختارت التوجه نحو تخفيض رسوم الاستيراد".
ونص مشروع الموازنة 2023، الذي صادق عليه مجلس النواب بالأغلبية على هيكلة التعريفة الجمركية للفصل 30، وتخفيض رسوم الاستيراد على بعض المنتجات غير المصنعة محلياً إلى رسم أدنى بمقدار %2.5 في حين سيُرفع هذا الرسم إلى 40% بالنسبة للمواد المصنعة محلياً.
كما لم ترد أي إشارة حول تخفيض الضريبة على القيمة المضافة على الدواء من وزير الصحة خلال مناقشة الميزانية الفرعية للوزارة، بل أعاد فقط، في حديثه عن ارتفاع أسعار الأدوية، التذكير بكون الوزارة عن طريق مديرية الأدوية تعتمد على قواعد التسعير المُبيّنة في المرسوم المتعلق بشروط وكيفيات تحديد سعر بيع الأدوية للعموم.
ولوج سهل وديمقراطي للدواء
تعتقد الحكومة أن هذه الخطوات ستنعكس على أسعار الدواء، وستُيسر الحصول على هذه المواد، بهدف تنزيل التغطية الصحية، التي تدخل في ورش تعميم الحماية الاجتماعية الذي أطلقه العاهل المغربي الملك محمد السادس في أبريل/نيسان 2021.
تقول المستشارة السابقة وعضو الجبهة الاجتماعية (غير حكومية)، رجاء كساب: "لا يمكن الحديث عن الحماية الاجتماعية، وعن تعميم التغطية الصحية، إذا لم يكن هناك ولوج ديمقراطي إلى الدواء، وذلك بأن يتمكن المواطن من الولوج إلى الدواء بسهولة وبأثمنة مناسبة وليس بأثمنة مرتفعة".
واعتبرت كساب، في حديثها لـ"عربي بوست"، أنه "رغم تخفيض أثمنة بعض الأدوية في السنوات الماضية، إلا أنها لم تؤثر بشكل عام على ثمن الدواء"، مضيفة أن "مشروع قانون المالية الحالي جاء بتخفيض لبعض الأدوية الخاصة بالأمراض المزمنة، لكن يظل الولوج إلى الدواء من بين إشكاليات الولوج إلى الحق في الصحة".
كما أبرزت ذات المتحدثة، أن "هناك مطالب بإلغاء كلي على الأقل فيما يخص الضريبة على القيمة المضافة على الدواء، باعتبار العلاج ليس قيمة مضافة، بل حق من حقوق الإنسان".
تشخيص رسمي لثمن الدواء
كشفت تشخيصات عدة لعدد من المؤسسات الرسمية حول أسباب ارتفاع أثمنة الأدوية في المغرب أن "ما يزيد من ارتفاع ثمن الدواء تطبيق الضريبة على القيمة المضافة بنسبة 7% على بعض الأدوية، بعد تحديد أسعارها".
تقرير مجموعة العمل الموضوعاتية الخاصة بالأمن الصحي التي شكلها البرلمان، المُعنون بـ"الأمن الصحي كمدخل لتعزيز مقومات السيادة الوطنية"، أوضح أنه "من أصل 7394 من الأدوية المسجلة، يخضع 4896 منها للضريبة على القيمة المضافة بنسبة 7%.
هذه القيمة حسب التقرير تُعادل 66% تقريباً من الأدوية و"من خلال تتبع تحليل سوق الأدوية يتضح أن الضريبة على تشكل عائقاً مالياً يحول دون تمكين المستهلك من الولوج إلى الدواء".
وهي نفس الخلاصات التي توصل إليها مجلس المنافسة (هيئة رسمية)، حول وضعية سوق الدواء في المغرب، على وجود "استهلاك ضعيف للأدوية لا يتجاوز في المتوسط 450 درهماً (45 دولاراً) لكل نسمة سنوياً، في حين أن هذا المعدل يبلغ 300 دولار في أوروبا".
لوبي أباطرة تصنيع الدواء
يعتقد رئيس كونفدرالية نقابات صيادلة المغرب، محمد لحبابي، أن "التخفيضات ستشمل المواد الأولية لتصنيع الأدوية محلياً"، داعياً الحكومة "أن تكون لها الجرأة على تخفيض أثمنة الأدوية من صنف الفئة الرابعة التي يصل ثمنها 2000 درهم (200 دولار) فما فوق".
وشدد لحبابي، في تصريحه لـ"عربي بوست"، أنه "لا توجد اليوم حكومة واحدة لديها الجرأة لتخفيض حقيقي لأثمنة هذه الفئة الرابعة من الدواء؛ إذ لا يُخفض في ثمن دواء غالٍ سوى درهم أو درهمين وهذا ليس إلا تخفيضاً وهمياً فقط".
وأضاف رئيس كونفدرالية نقابات صيادلة المغرب أن "جل هذه الأدوية مرتفعة الثمن ضمن الفئة الرابعة هي مستوردة من طرف شركات متعددة الجنسيات التي تشكل لوبي للضغط على الوزارة لكي لا تنخفض أثمنة أدويتها، وهو ما يتنافى مع السياسة الدوائية الوطنية".
قد يقول أحدهم إن هذا رأي متحيّز لنقابي صيدلاني، لكن الواقع أنه رأي يتوافق مع ما ذهب إليه مسؤولون بمؤسسات عمومية، على غرار المدير العام للصندوق الوطني لمنظمات الاحتياط الاجتماعي (أحد الصناديق الحكومية للتأمين الصحي والمعاشات).
وقال عبد العزيز عدنان، في تصريح سابق، إن "جنة الأسعار الباهظة للدواء تستفيد منها الشركات متعددة الجنسيات، وهو ما يعمق نزيف احتياطاتنا من العملة الصعبة ويعرقل مسيرتنا نحو التغطية الصحية الشاملة".
والواقع أن تنبيهات الفاعلين في مجال الصحة والدواء، سواء الحكوميين أو غيرهم، تواصلت بشكل لافت بشأن تحكم لوبيات شركات الأدوية بالمغرب في نظام أسعار الدواء في المملكة بشكل كبير.
وأفاد رئيس الشبكة المغربية للدفاع عن الحق في الصحة (غير حكومية)، علي لطفي، أنه "نتيجة السياسة الصحية والدوائية المتبعة، هناك تغوّل لبعض شركات الأدوية التي تفرض سيطرتها على السوق من خلال الاحتكار، خاصة تلك المُستورِدة للأدوية من الخارج".
وقال لطفي، لـ"عربي بوست": "كثيراً ما نبهنا إلى خطورة تحكم لوبيات شركات الأدوية بالمغرب في نظام الأسعار؛ إذ إنه رغم المرسوم المتعلق بشروط وكيفيات تحديد سعر بيع الأدوية للعموم، فإن بعض الشركات تفرض أسعاراً خيالية لا علاقة لها بتكلفة ولا بأسعار المواد الأولية التي تُجلب من الهند أو الصين أو مصر بأسعار أقل، ويظل مع ذلك الثمن العمومي للدواء مرتفعاً ثلاثاً إلى خمس مرات مقارنة مع دول مغاربية أو أوروبية".
أبعد من هذا، يرى المدافع عن الحق في الصحة، أن "هناك تدخلات سياسية أيضاً كانت حاسمة في تحديد أسعار الدواء، وتؤثر في هذا المجال لفائدة الشركات متعددة الجنسية بجانب البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وارتباط العملية بالقروض من هذه المؤسسات المالية التي تتحكم فيها الشركات متعددة الجنسية".
وبذلك يعد "مجال الأدوية في المغرب عالماً غير صحي يسود فيه الاحتكار والريع والجشع، وغياب الشفافية في مراقبة أرباح الشركات، ومراقبة جودة المواد الأولية المستوردة التي تستخدم في صناعة الدواء الأصلي أو الجنيس، ومراقبة علمية لجودة المنتوج الصحي والدوائي"، يردف نفس المصدر.
عائق مزدوج للولوج للعلاج
استمرار ارتفاع ثمن الدواء يؤثر بشكل كبير على الأفراد والأسر وعلى صحتهم، ويُهدد المنظومة الصحية بأكملها؛ إذ يؤكد الطبيب الباحث في السياسات والنظم الصحية، الطيب حمضي، أن "غلاء الدواء في المغرب عائق مزدوج كبير أمام ولوج المواطن إلى العلاج، ويثقل كاهل الأسر المغربية، وكذلك يضر بصناديق التأمين وبميزانية وزارة الصحة".
وبلغة الأرقام، بيّن حمضي لـ"عربي بوست"، أن "مصاريف الصحة في المملكة تبلغ تقريباً 180 دولاراً سنوياً لكل نسمة وهو رقم ضعيف بالمقارنة مع دول أخرى"، لكن "30% من هذه المصاريف الصحية تتجه إلى التغطية الصحية كتكاليف للدواء، وهو رقم كبير جداً كنسبة، خصوصاً أنه في دول أخرى لا تتجاوز فيها نسبة تكاليف الدواء 10% إلى 15%".
لهذا، "فمصاريف المواطن على ضعفها تلتهمها الأدوية وهو مشكل كبير، علماً أن 180 دولاراً من مصاريف الصحة يساهم فيها المغربي بما يقارب 60%؛ جزء يقدر بـ45% كمساهمات مباشرة، و12% عن طريق الاشتراك في صناديق التأمين، بينما تفرض المعايير الدولية ألا تتجاوز مساهمة الأسر 25%"، يوضح المصدر ذاته.
ويطالب الباحث في السياسات والنظم الصحية "بتشجيع الصناعة الدوائية الوطنية؛ لأنه كلما كانت هناك صناعة وطنية قوية كان هناك دواء أرخص، علاوة على تشجيع استعمال الأدوية الجنيسة في المملكة (نستهلك 40% جنيس و60% الأصلي غالي الثمن)، وهذا مشكل مرتبط باستراتيجية الوزارة، ومرتبط بالقوانين واتفاقيات مع الأطباء والصيادلة وغيرهم".
كما دعا الباحث نفسه إلى "مراجعة شبكة توزيع الأدوية التقليدية، والقوانين المنظمة لبيع الدواء في الصيدليات"، مشيراً إلى أن "كلفة سلة الدواء تقضم ميزانية المصاريف الصحية المُخصصة للعلاج".