على مدار الأشهر الماضية عانت المستشفيات الحكومية المصرية من أزمات نقص المستلزمات الطبية، وتأخذ الأزمة في التفاقم مؤخراً مع القرارات التي اتخذها البنك المركزي بشأن شروط الاستيراد تزامناً مع مشكلات نقص الدولار وانخفاض قيمة الجنيه
سلطت أزمة اختفاء بنج الأسنان الضوء على ما يحدث في المستشفيات الحكومية، وعدم قدرة الجهات المعنية على إيجاد حلول للمشكلة التي اضطرت الكثير من مرضى الأسنان لتحمل الآلام أشهراً طويلة لحين تحسن الوضع القائم أو القبول بإجراء جراحات الفم بدون بنج.
مرضى الأورام يدفعون ثمن بيروقراطية هيئة الشراء
تعود أزمة البنج لمجموعة من الأسباب على رأسها نقص الاستيراد وامتناع شركات جديدة عن الدخول في السوق المصرية نتيجة ارتفاع الأسعار عالمياً، وفرض الحكومة تسعيرة جبرية لبيعه ما يجعل كثير من الشركات لا تستورده من الخارج لأنه لا يحقق لها مكاسب تشجعها على ذلك، وفي الوقت ذاته توفر هيئة الشراء كميات قليلة من البنج المحلي ضعيف التأثير.
وتستهلك مصر شهرياً بين 80 إلى 90 ألف عبوة من بنج الأسنان، في الوقت الذي يبلغ حجم الإنتاج الحالي من مصنع شركة الإسكندرية 500 عبوة يومياً، مع تعطل مصنع آخر تابع للقطاع الخاص أكثر من مرة وتبلغ طاقته القصوى 30 ألف عبوة شهرياً
مع وجود مستورد رئيسي يوفر 20 ألف عبوة، ويقدر العجز بنحو 20 إلى 30 ألف عبوة شهرياً، وبالتالي أثر ذلك على العمل في المستشفيات الحكومية والعيادات التي تحتاج إلى البنج.
يقول مدير أحد المستشفيات الحكومية بمحافظة الجيزة لـ "عربي بوست" إن العجز في المستلزمات الطبية وصل إلى معدلات صعبة خلال الأشهر الماضية وهو أمر لم يكن معتاداً في السابق؛ ما أدى لوجود نقص في المستلزمات البسيطة والأساسية على رأسها "الكمامات والقفازات الطبية" و"السرنجات" وأنواع مختلفة من البنج، وأجهزة الوريد، وأدوات التعقيم.
كلمة السر في هيئة الشراء الموحد
المشكلة تكمن وفق مدير المستشفى في "الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي"، والتي أنشأها مجلس الوزراء المصري بقانون منظم لعملها في العام 2019 وبدأت عملها بشكل فعلي في العام 2020.
مشيراً إلى أن هذه الهيئة التي تتبع بشكل فعلي أجهزة سيادية باتت مسؤولة عن توريد كافة المستلزمات الطبية للمستشفيات الحكومية، بدلاً من الوضع السائد سابقاً والذي كان فيه التعامل بين المستشفيات والشركات الأخرى المحلية أو العالمية.
ويضيف أن المستشفيات أصبحت بحاجة لأن تُرسل حاجتها من المستلزمات الطبية إلى الهيئة والتي بدورها تخاطب الشركات الأخرى، وهذا الأسلوب تسبب في العديد من الأزمات لأن الوقت الذي كانت تصل فيه المستلزمات إلى المستشفيات تضاعف.
ما فرضته الحكومة على المستشفيات تسبب في أن يحصل كل منها على كميات قليلة من المستلزمات لأنها تحصل عليها من شركات بعينها لديه قدرة إنتاجية توزعها على كافة مستشفيات الحكومية في مختلف المحافظات المصرية.
ووفقاً للمصدر، بدلاً من أن يحصل المستشفى الواحد مثلاً على 1000 سرنجة في الطلب الواحد، لم يعد بإمكانه الحصول سوى على 50 سرنجة، وسرعان ما تنفد ونضطر لطلب كميات أخرى تتأخر في الوصول.
الهيئة تحصل على سمسرة رغم أنها تعرقل وصول المستلزمات!
تحصل المستشفيات على حاجاتها من الأدوات الطبية بقيمة مالية تزيد بنسبة تقدر ما بين 8% إلى 10% تقريباً عما كانت تحصل عليه سابقاً، لأن هيئة الشراء الموحد تحصل على نسبة 7% إضافة إلى سعر المستلزمات كسمسرة إلى جانب 1.5% أخرى للشركات، بحسب المصدر ذاته.
ويبقى المتضرر الأوحد هو المستشفيات التي تضاعفت ميزانيات شراء المستلزمات فيها مع ارتفاع أسعارها إلى جانب دفعها أموالاً إضافية ترى بأنه لا طائل منها.
وأنشئت الهيئة المصرية للشراء الموحد والإمداد والتموين الطبي وإدارة التكنولوجيا الطبية، طبقاً للقانون رقم 151 لسنة 2019 لتتولى إجراء عمليات الشراء للمستحضرات والمستلزمات الطبية البشرية لجميع الجهات والهيئات الحكومية، وهي هيئة حكومية مصرية ذات شخصية اعتبارية تتبع رئيس مجلس الوزراء.
تتولى الهيئة إعداد خطط وبرامج وقواعد التدبير والشراء الموحد من الداخل أو الخارج، طبقاً للقواعد والمعايير الدولية المتعلقة بالشراء الموحد وكذا وإعداد الموازنة التقديرية السنوية اللازمة للشراء بالتنسيق مع وزارة المالية والجهات المستفيدة.
وتضمن قانون إنشاء بأنها تتولى دون غيرها إجراء عمليات الشراء للمستحضرات والمستلزمات الطبية البشرية لجميع الجهات والهيئات الحكومية، وذلك مقابل أداء رسم شراء لا يجاوز 7% من صافى قيمة ما تقوم الهيئة بشرائه للجهات والهيئات والشركات المشار إليها، دون إضافة الرسوم الجمركية أو ضريبة القيمة المضافة أو غيرها من التكاليف، ويحصل نقداً أو بأية وسيلة دفع أخرى.
ويرأس مجلس إدارة الهيئة التي أثارت جملة من الأزمات لدى المستشفيات الحكومية، اللواء طبيب بهاء الدين زيدان، وهو مدير مجمع الجلاء الطبي التابع للجيش.
ويؤكد موظف بإحدى إدارات مشتريات المستشفيات الحكومية الكبرى بالقاهرة، لـ "عربي بوست" أن كثيراً من المستشفيات كانت تتعامل مع الشركات الموردة للمستلزمات الطبية بنظام السداد الآجل وفقاً لما يتوفر لديها من ميزانيات.
كانت العلاقة القائمة على الثقة المتبادلة بين المستشفى والشركة عاملاً مساهماً في تسهيل وصول المستلزمات وقت حاجتها حتى وإن تأخرت المستشفيات في السداد، ولم يعد ذلك ممكناً في الوقت الحالي، مع إنشاء الهيئة الموحدة.
الشركات الكبرى تجد صعوبة في تحصيل أموالها من الهيئة
تعاقب الشركات الكبرى هيئة الشراء لأنها تجد صعوبة في تحصيل أموالها وليس أمامها سوى الانتظار وليس هناك آليات تضمن من خلالها الحصول على عوائدها لأنها تصطدم بجهات سيادية، وبالتالي فإنها تضغط للحصول على تلك الأموال بتأخير وصول المستلزمات إلى المستشفيات ويكون المريض هو الخسائر الأول في تلك الأزمة.
ولدى هيئة الشراء الموحد نظام إلكتروني تعرف من خلاله على حاجة المستشفيات من المستلزمات، وهو نظام تشيد به الكثير من المستشفيات كما أنه يساعد التعرف على معدلات العجز، لكن وفقاً للمصدر فإن ذلك لا ينعكس في شكل قرارات عاجلة للتعامل مع مشكلات النقص، وهناك وتيرة ثابتة في العجز منذ ما يقرب من عام أو أكثر.
المتحدث ذاته يوضح أن مشكلات شح الدولار وقرار الاستيراد بالمعتمدات المستندية منذ فبراير/شباط الماضي أثر سلباً على قدرات الشركات على الإيفاء بالتزاماتها سواء كان ذلك على مستوى استيراد المواد الخام المطلوبة في تصنيع المستلزمات أو التي تأتي مصنعة وجاهزة من الخارج، وبالتالي فإن العجز أخذ في التزايد داخل المستشفيات الحكومية والخاصة أيضاً خلال الشهرين الماضيين.
يضطر العديد من الأطباء لشراء مستلزمات طبية على حسابهم الخاص لإنقاذ مرضاهم، وفق ما يؤكده طبيب شاب بأحد المستشفيات الحكومية في القاهرة، مشيراً إلى أن نقص البنج وأنابيب الأوكسجين والأدوات الطبية المستخدمة في غرف العناية المركزة يشكل المشكلة الأكبر، وهناك بُعد إنساني يراعيه الأطباء في تلك الحالة حتى لا يفقد المرضى حياتهم.
محاولات حكومية لسد العجز عبر إنشاء مخازن لحفظ المستلزمات
تحاول الحكومة المصرية التعامل مع المشكلات الحالية للعجز، ويعبر الاجتماع الذي عقده رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، مع رئيس الهيئة المصرية للشراء الموحد إلى تنفيذ مشروع إنشاء "المخازن الإستراتيجية للمنتجات والأجهزة الطبية"، والتي ستكون مهمتها زيادة قدرات التخزين لدى الهيئة بما لا يضعها تحت ضغط الشركات ولضمان سد عجز المستشفيات في حالة نقص الإمدادات، لكن لم تعلن الحكومة عن الخطة الزمنية للانتهاء من المشروع الذي يسير على مرحلتين.
لم تكن مشكلات نقص المستلزمات الطبية الوحيدة التي تسببت فيها هيئة الشراء الموحد، لكنها كانت سبباً أيضاً في شح الأدوية المتوفرة في المستشفيات الحكومية وتركت بصمة واضحة بالنسبة لأدوية الأورام الأكثر تأثراً خلال الفترة الماضية، وبحسب طبيب يعمل بالمعهد القومي للأورام، رفض ذكر اسمه، فإن المرضى يدفعون ثمن نقص الجزء الأكبر من أدوية الأمراض داخل صيدلية المعهد، مؤكداً أن ما يعانيه المعهد يتكرر في كافة صيدليات المستشفيات الحكومية التي تعاني شحاً في أدوية الأورام وغيرها من الأدوية الأخرى.
ويضيف أن كثيراً من عقاقير الأورام الخبيثة لا يقدر عليها المرضى الذين يستنجدون بالمستشفيات الحكومية وتصل أسعارها إلى 20 ألف جنيه كسعر للعبوة الواحدة وكذلك الحال بالنسبة للحقن، في حين أن المريض يكون بحاجة لأكثر من جرعة على مدار الشهر وقد تصل إلى 5 أو عشر جرعات بحسب حالته؛ ما يجعل إمكانية توفير الدواء بالنسبة إليهم مستحيلاً.
سيل من طلبات الإحاطة في وجه وزير الصحة بلا حلول للأزمات
وواجه وزير الصحة المصري خالد عبدالغفار سيلاً من طلبات الإحاطة أثناء مثوله أمام البرلمان، الأربعاء الماضي، بسبب نقص المستلزمات الطبية وتردي حالة الكثير من المستشفيات التي أغلق بعضها أبوابها أمام المواطنين لعدم وجود استعدادات لاستقبالهم تحديداً في المراكز والقرى النائية.
وقالت النائبة ولاء عبد الفتاح إن مستشفيات مدينة المنصورة التابعة لمحافظة الدقهلية تعاني نقصاً كبيراً في المستلزمات الطبية والمعدات الطبية منها مستشفى المنصورة العام ومستشفى طلخا وعدد آخر من المستشفيات بالمحافظة، وليس هناك سبل للتدخل من أجل التعامل مع هذا النقص طيلة الأشهر الماضية
وتطرق النائب مجاهد نصار إلى المشكلة ذاتها، مشيراً إلى أن المستشفيات الحكومية في مدينة شبرا الخيمة تواجه نقصاً شديداً في المستلزمات والأجهزة الطبية أيضاً التي تسببت في إغلاق غرف العناية المركزة في كثير من المستشفيات، وانتقد عمل الوحدات الصحية لساعات قليلة قبل أن تغلق أبوابها في العاشرة مساء؛ ما يجعل المرضى في القرى والنجوع الصغيرة يبحثون عن أماكن للعلاج دون جدوى.
واعترف عبد الغفار بأنّ مصر "لا تمتلك إجمالاً سوى 540 مستشفى و5800 وحدة صحية و120 ألف طبيب على مستوى الجمهورية، ما يعني عدم الوصول إلى نسبة 50% من الخدمات الصحية اللازمة للمواطنين وفق المعدّلات العالمية قياساً بعدد السكان الذي يتجاوز 104 ملايين نسمة في الداخل".
وأضاف عبد الغفار، في ردّه على عدد من طلبات الإحاطة والأسئلة الموجّهة أن "مصر تنجب طفلاً كلّ 19 ثانية تقريباً، وهو معدّل مرتفع للمواليد ويزيد من أزمة عجز الأطباء، وأن الأزمة الحقيقية تتمثّل في زيادة أعداد المواليد، خصوصاً في محافظات الصعيد التي ما زالت تسجّل ارتفاعاً في معدّلات الإنجاب. والمشكلة السكانية ليست مسؤولية الوزارة وحدها، وإنّما جميع مؤسسات الدولة".
وتشير دراسة أصدرها مركز الأهرام للدراسات الإستراتيجية في عام 2018، إلى أنه بين عامي 2006 و2016 انخفض عدد المستشفيات الحكومية بنسبة 51.8%، بالإضافة إلى تردي الخدمة الطبية المقدَمة في الأقاليم خاصة في محافظات الصعيد، وأكدت الدراسة وجود مؤشرات على عدم فاعلية الرقابة الحكومية على المستشفيات وإهدار المال العام، والحاجة إلى مزيد من الاستثمارات الحكومية.