في خضم عملية "كاسر الأمواج" التي بدأتها إسرائيل في الضفة الغربية منذ مارس/آذار 2022، رصدت هيئات حقوقية قيام جيش الاحتلال بالتوسع في سياسة احتجاز جثامين الشهداء، بعد تصفيتهم، بذريعة شروعهم في تنفيذ عمليات فدائية.
وبات هذا الأسلوب الذي تلجأ إليه إسرائيل ضمن ما يعرف بسياسة العقاب الجماعي الذي تمارسه بحق الفلسطينيين، تسعى من خلاله إلى زيادة الأذى النفسي والمعنوي عبر تشويه صورة المقاوم الفلسطيني، بهدف كسب رضا المستوطنين والمتطرفين.
ويعتبر العام الجاري من أكثر الأعوام دموية التي تشهدها الضفة الغربية منذ سنوات، فحسب أرقام وزارة الصحة، فإن حصيلة الشهداء في الضفة الغربية وصلت لـ132 شهيداً، و51 شهيداً في غزة.
سرقة أعضاء الشهداء
حسين شجاعية، منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء كشف أن "الاحتلال احتجز هذا العام 23 جثماناً لشهداء من الضفة الغربية، ليصل إجمالي عدد جثامين الشهداء المحتجزة لدى إسرائيل منذ 2015 أكثر من 123 شهيداً".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست: "منذ اللحظة الأولى للإعدام، يفرض الجيش طوقاً أمنياً على مسرح الجريمة، ويقوم بتضليل الرأي العام، حيث يلصق بالجثمان سلاحاً رشاشاً أو مسدساً أو سكيناً، لتبرير جريمته، ليصور الحدث وكأنه دفاع عن النفس، ويسمح بعدها لوسائل الإعلام بالدخول للمنطقة ورصد صورة مظللة عن ادعائه الكاذب".
ما يتلو هذا الحدث يكتنفه الغموض ويحيط به الكثير من السرية، فوفقاً لوقائع وشهادات رصدها "عربي بوست" من شهود عيان في الضفة الغربية، يقوم الجيش بنقل الجثمان لأماكن مجهولة، قد تكون إما ثلاجات للموتى أو مختبرات طبية تابعة لبعض الجامعات الإسرائيلية المتخصصة في سرقة أعضاء الشهيد.
جاء هذا الاتهام على لسان رئيس الحكومة الفلسطيني محمد أشتيه، الذي أشار خلال جلسة لمجلس الوزراء في 4 من يوليو/تموز 2022، أن لدى الحكومة معلومات مؤكدة تثبت أن بعض كليات الطب في الجامعات الإسرائيلية تقوم باستخدام وسرقة جثامين الشهداء الفلسطينيين، دون معرفة مصيرهم وماذا يدور من كواليس في هذه الجريمة.
يضفي تصريح أشتيه بعداً رسمياً لهذا الاتهام لإسرائيل بسرقة الأعضاء من الشهداء الفلسطينيين، على الرغم من النفي الإسرائيلي المتكرر لهذه الاتهامات.
أحد أطباء التشريح في مستشفى جامعة النجاح في نابلس أكد لـ"عربي بوست" أنه "بعد فحص بعض الجثث التي تم استلامها من الصليب الأحمر تبين وجود آثار تشريح لعدد من جثامين الشهداء".
وأضاف المتحدث أن ما تم رصد سرقته من جثامين الشهداء يتجلى في قرنية العين، وقوقعة الأذن، وأعضاء حيوية أخرى كالكبد، والكلى، والقلب، وخلايا من الدماغ والنخاع الشوكي، وأنسجة جلدية سميكة من أعلى الفخذ.
شهادات مروعة
أحد أبرز المشاهد المؤلمة لهذه السياسة الإسرائيلية هي حادثة التنكيل بجثمان الشهيد محمد أبو النصر، الذي استشهد عام 1989، حيث قام الجيش بسرقة الجثمان بعد إعدامه ونقله لجهة مجهولة.
وبعد ضغط مارسه الصليب الأحمر الدولي، أفرجت إسرائيل عن جثمان الشهيد أبو النصر ليتبين لذويه أن رفاته الذي نقل بالتابوت لإلقاء نظرة الوداع، هو عبارة عن أجزاء من جسم حصان، ولا وجود لأية أعضاء حيوية داخل جسده.
حادثة أخرى يرويها إبراهيم الشحام لـ"عربي بوست"، وهو والد الشهيد محمد الذي ارتقى أمام أنظار أسرته في 15 أغسطس/آب 2022، في بلدة كفر عقب شمال مدينة القدس المحتلة.
يقول الشحام إنه "في حدود الساعة الثانية والنصف فجراً، هاجمت قوات من الجيش المنزل وقاموا بتفتيشه ووضع كامل أفراد البيت في وجه الحائط وأيديهم مكبلة من الخلف، ليطلق جندي رصاصة من مسدسه على رأس نجلي محمد من مسافة صفر، وقد تناثر دمه على وجهي دون أن أحرك ساكناً بسبب تقييد معصمي من قبل الجيش".
يضيف المتحدث أن الجيش لم يكتفِ بذلك، بل قام بسحب محمد وهو في اللحظات الأخيرة من حياته قبل ارتقائه شهيداً، ونقل بطريقة وحشية داخل الجيب العسكري واقتياده لجهة مجهولة، ليعود ابني وهو ممزق الأحشاء، دون أن أستطيع التعرف على ملامحه بسهولة.
اعتراف إسرائيلي
تسعى إسرائيل في السنوات الأخيرة لإضفاء صبغة قانونية تتيح لجنودها القيام بانتهاكات بحق الشهداء الفلسطينيين، من خلال إيجاد مسوغات تجيز احتجاز جثامين الشهداء وسرقة أعضائهم.
وأصدرت المحكمة العليا في إسرائيل سنة 2019 قراراً يتيح للحاكم العسكري احتجاز جثامين الشهداء ودفنهم مؤقتاً، وفي أواخر عام 2021 تبنى وزير الدفاع بيني غانتس سياسة عدم تسليم جثامين منفذي العمليات، ليقوم الكنيست بسن تشريع يخول للشرطة والجيش الاحتفاظ برفات الشهداء الفلسطينيين.
أبرز الاعترافات الإسرائيلية ما أقر به يهودا هس، المدير السابق لمعهد أبو كبير للطب الشرعي في إسرائيل، حينما أقر بسرقة الأعضاء الحيوية للفلسطينيين في فترات مختلفة بين الانتفاضتين الأولى والثانية بموافقة القانون.
وما يزيد من صحة هذه الاتهامات أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة التي تحتجز جثامين الشهداء، وتمارس ذلك بوصفه سياسة ممنهجة، وتُصنَّف كأكبر مركز عالمي لتجارة الأعضاء البشرية بشكل غير قانوني.
ولجأت إسرائيل لهذه السياسة منذ ثمانينيات القرن الماضي، إبان اندلاع انتفاضة الحجارة في عام 1987، وعادت لممارسة النهج ذاته في عام 2015، إبان ذروة هبة القدس، حيث مارست إسرائيل هذه السياسة في محاولة لردع الآخرين، وإيصال رسائل تحذيرية لمن يفكر بالقيام بأية عمليات جديدة.
كما تهدف إسرائيل من وراء هذه السياسة للاحتفاظ بورقة تفاوضية قد تستخدمها في أية مفاوضات مرتقبة مع حركة حماس، التي تحتجز 4 أسرى من الجنود الإسرائيليين منذ عام 2014.