أفادت وزارة الخارجية الفلسطينية، الإثنين، 17 من أكتوبر/تشرين الأول 2022، بأن شابين من غزة، هما خالد شراب ومصطفى السماري، تُوفيا غرقاً أثناء محاولتهما الوصول لجزيرة "كوس" في اليونان.
هذه الحادثة بالرغم بشاعتها، فإنها تعيد تسليط الضوء على حوادث غرق عشرات الشبان من غزة، الذين فروا من جحيم الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع، منذ ما يزيد على عقد ونصف.
السياسة الإسرائيلية دفعت آلاف الشباب من قطاع غزة للهجرة غير الشرعية رغم ما يكتنفها من مخاطر، كالاعتقال على يد سلطات خفر السواحل، والتعرّض للتعذيب، وليس انتهاء بالموت والغرق.
موجات هجرة جماعية
ترفض الأوساط الحكومية في غزة الحديث أو التطرق لمسألة عدد من غادروا القطاع خلال سنوات الحصار، إلا أن تقريراً لصحيفة "هآرتس" العبرية أفاد بأن نحو 40 ألفاً هاجروا من قطاع غزة بين الأعوام 2014-2018 عبر معبر رفح.
من جهة أخرى، تُشير تقارير أممية وحقوقية إلى أن عدد المهاجرين الذين خرجوا من قطاع غزة تضاعف بين الأعوام 2018-2021 ليتخطى 70 ألف مواطن.
كما أفاد تحقيق استقصائي لتلفزيون "العربي" في سبتمبر/أيلول 2022، توصل لحقيقة أن نحو 200 ألف مواطن من غزة هاجروا للخارج من معبري رفح مع مصر، وإيرز مع إسرائيل، بين 2007-2021، بما يشكل 10% من العدد الإجمالي لسكان القطاع.
ووفقاً لمصدر في هيئة المعابر والحدود تحدث لـ"عربي بوست"، فإن نمط المهاجرين من غزة في السنوات الأخيرة لم يعد مقتصراً على فئة الشباب أو من صغار السن، بل بتنا نشهد موجات هجرة جماعية من عائلات بأكملها، تسعى للاستقرار في الخارج، ولا تعود للقطاع لعدة سنوات.
وأضاف المصدر نفسه أن وجهات المسافرين تتركز في بلدان تتصدرها تركيا بنسبة تزيد على 30% من إجمالي عدد المغادرين، وذلك بالنظر لسهولة إجراءات الحصول على التأشيرة وانخفاض تكلفتها التي لا تزيد على 150 دولاراً.
وفي طليعة البلدان الأخرى التي يُغادر إليها الغزاويون تأتي دول الجزائر والإمارات والأردن، أما الدول الأوروبية فتنحصر وجهات الهجرة في دول اليونان والسويد وبلجيكا.
وتابع، غالبية من يغادر قطاع غزة لا يعود إليها، على الأقل لمدة تزيد على عامين، كما أن السواد الأعظم من طلبات الهجرة تأتي من فئة الشباب، بعضهم يهاجر بدواعي العلاج؛ ليستقر بعدها في الخارج ولا يعود للقطاع.
أما فئة أخرى بالنسبة للمتحدث، فهم طلبة الجامعات الذين حصلوا على منح دراسية يستقر غالبيتهم في الخارج، ولكن برز مؤخراً فئة من المهاجرين من حملة الشهادات العليا، بالإضافة لنخب بتخصصات كالطب البشري والهندسة والميكانيكا.
آثار الحصار الإسرائيلي على غزة
يشير جهاز الإحصاء الفلسطيني إلى أن نحو ثلث سكان القطاع يرغبون بالهجرة للخارج، جزء منهم قد حالفه الحظ بالوصول والاستقرار في إحدى الدول العربية أو الأوروبية، والبعض الآخر لا يزال ينتظر فرصته لاتخاذ قرار السفر.
ويأمل سكان غزة في الحصول على الحد الأدنى من مقومات الحياة التي قد تكون شبه معدومة في غزة جراء الحصار الخانق، الذي تفرضه إسرائيل على غزة منذ العام 2007، والذي طال سلباً كل مناحي الحياة.
ويعيش في قطاع غزة ما يزيد على مليوني فلسطيني، في بقعة جغرافية لا تزيد مساحتها على 360 كيلو متراً مربعاً، ولذلك تُصنف على أنها البقعة الجغرافية الأكثر اكتظاظاً بالسكان على مستوى العالم.
ويبلغ معدل الكثافة السكانية في قطاع غزة في فلسطين 5500 فرد لكل كيلومتر مربع، بينما في الضفة الغربية لا تزيد الكثافة السكانية على 10% من هذا الرقم.
كما انعكس الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة سلباً على مؤشرات التنمية الاقتصادية، فمعدل البطالة تجاوز 50%، ويرتفع في صفوف الخريجين والشباب إلى 77%.
كما يعتمد 80% من سكان قطاع غزة على المساعدات الغذائية التي تقدمها جهات أممية ودولية، بالإضافة إلى أن نحو 60% من سكان القطاع يعانون من الأمن الغذائي.
كما يبلغ متوسط أجور العاملين في القطاع الخاص نحو 250 دولاراً، بينما يصل الحد الأدنى للأجور الذي حددته وزارة المالية لـ650 دولاراً، وبالتالي فإن 80% من العاملين في القطاع الخاص يتقاضون أقل من الحد الأدنى للأجور.
وقد أدت سياسات الحصار الإسرائيلي لأن تتحول غزة لبيئة طاردة للسكان، فانعدام فرص العمل واشتداد الأزمة المعيشية وتفشي الفقر والبطالة، وجولات القتال والحروب التي لم تتوقف، دفعت الشباب إلى اتخاذ قرار الهجرة.
دور إسرائيل في موجات الهجرة الجماعية
لا تخفي إسرائيل حقيقة ضلوعها المباشر في عمليات التهجير القسري للفلسطينيين، فسياسة الحصار الذي فرضته إسرائيل على القطاع كان هدفه الأساسي تحويل غزة لبيئة تفتقر لأدنى مقومات الحياة.
وقد تسبب الحصار بخلق جيل مشوّه، لا يكترث بحقيقة الصراع القائم، وتحويل اهتماماته اليومية إلى توفير لقمة العيش، لدرجة أنه لم يعد يفكر في الالتحاق بصفوف المقاومة.
وكانت هيئة البث الإسرائيلية "كان" قد حصلت على وثيقة تقول فيها إن حكومة بنيامين نتنياهو قدّمت اقتراحاً عام 2018، لعدة دول في القارة الأوروبية وأمريكا اللاتينية لاستيعاب آلاف المهاجرين بغزة.
هذه الوثيقة تقول إن إسرائيل ستتكفل بتمويل مشروع هذه الهجرة برحلات جوية من المطارات الإسرائيلية، بشرط أن يتعهد من يرغب في الهجرة بعدم العودة للقطاع مرة أخرى.
أثير هذا المشروع في ذروة الإعلان الأمريكي عن صفقة القرن، وبالرغم من أن المشروع لم يُكتب له النجاح في حينه كونه قوبل برفض فلسطيني، ولكن "عربي بوست" توصّل لإفادات من بعض المهاجرين الذين غادروا غزة عبر معبر إيرز، تفيد بإجراءات تتبعها إسرائيل تحظر على من يغادر عبر معابرها العودة للقطاع.
مادلين (23 عاماً) فتاة من غزة، حصلت على منحة لدراسة الماجستير في جامعة بيرزيت برام الله، أكدت لـ"عربي بوست" أن "ضباطاً من جهاز الشاباك ألزموها بالتوقيع على تعهّد بألا تعود لقطاع غزة فور مغادرتها من معبر إيرز خلال مدة 5 سنوات".
أما نشوى (27 عاماً) الطالبة بمرحلة الدكتوراه في الجامعة العربية الأمريكية بجنين، تقول لـ"عربي بوست" "هنا المئات من شبان وفتيات غزة ممن يُحظر عليهم العودة للقطاع، بعضهم مضى على مكوثه في رام الله أكثر من 10 سنوات".
في تفسير لهذه الإجراء، تقول نشوى: "تسعى إسرائيل لتفكيك الحالة الاجتماعية والأسرية في غزة، وبالتالي يضطر من يغادر غزة لأن يتأقلم بعيداً عنها، وبعضهم يشق طريقه لإحدى الدول الأوروبية ويؤسس حياته الخاصة".
مصر وانخراطها في المشروع الإسرائيلي
انتهجت مصر سياسة مشابهة للنهج الإسرائيلي في دفع آلاف الشبان من غزة لمغادرة القطاع دون العودة، فخلقت ما يُعرف بسياسة التنسيقات للسفر الذي يُعرف على أنه تنسيق (VIP).
ويضطر المسافرون من غزة لدفع مبلغ مالي على شكل رشوة لجهاز المخابرات العامة لتسريع إجراءات السفر خلال أيام، بدلاً من الانتظار لفترات قد تمتد لأشهر أو بضع سنوات.
تراوح مبلغ التنسيقات في البداية ما بين 5-8 آلاف دولار لكل مسافر، ولكنه انخفض في هذه الأيام لما بين 500- 4000 دولار.
والهدف من هذا الإجراء الذي انتهجته الدولة المصرية في فترات الرئيس الأسبق حسني مبارك والرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، هو دفع أهالي القطاع للتفكير ملياً حين اتخاذ قرار السفر نظراً لتكلفته الباهظة، وبالتالي من يسافر من غزة لا يعود إليها إلا في حالات طارئة جداً.
مصطفى إبراهيم، الباحث الحقوقي في مركز الميزان لحقوق الإنسان، قال لـ"عربي بوست" إن "التهجير القسري هي سياسة إسرائيلية قديمة جديدة، إذ لا تتوقف إسرائيل عن التفكير بأدوات من شأنها طمس القضية الفلسطينية ومحاولة إفراغها من مضمونها، فتستخدم سياسة ترحيل الفلسطينيين بهدف التفوق في الميزان الديموغرافي، وإبقاء اليهود أغلبية في فلسطين التاريخية".