تتصاعد في الآونة الأخيرة شكاوى الناس من الاعتداءات المتكررة والمنظمة على المساحات الخضراء، وعلى الرغم من زيادة مساحة التشجير في بعض المحافظات خارج القاهرة، فإنه من جانب آخر تزيل الحكومة مساحات شاسعة من الحدائق والأشجار، فمَن المتسبب في حالة التجريف هذه؟
ازداد قطع الأشجار في مصر خلال السنوات السبع الأخيرة، بفعل التسارع في إنشاء وتوسيع الطرق والكباري، وتجاهل قانون البيئة المصري، الذي يشترط الحصول على موافقة وزارة البيئة وتقديم دراسات الآثار البيئية قبل إزالة الأشجار.
كما يحظر "قطع أو إتلاف النباتات أو حيازتها أو نقلها أو استيرادها أو تصديرها أو الاتجار فيها كلها أو أجزاء منها، ما دعا فئات عديدة من نشطاء البيئة وجهات تمثل المجتمع المدني لتسليط الضوء على تلك المشكلة، في وسائل الإعلام وعلى مواقع التواصل الاجتماعي.
رصد "عربي بوست" بعض حالات اقتطاع الحدائق والأشجار في مناطق مختلفة من محافظات مصر، وعلم وفق مصادر عن نية الحكومة المصرية اقتطاع 10 فدادين من حديقة الميرلاند، لإنشاء نصب تذكاري ضخم مكتوب عليه (الهيئة الهندسية- تطوير مصر الجديدة).
مع ما يتضمنه ذلك من التخلص من أشجار تاريخية كانت تضمها الحديقة، التي أُسّست في عهد الملك فاروق عام 1949، على مساحة 50 فداناً في منطقة مصر الجديدة بمحافظة القاهرة.
وعلى نفس المسار اقتُطع نصف فدان من حديقة الأسماك الشهيرة في حي الزمالك، والبالغة مساحتها تسعة أفدنة ونصف الفدان، لإنشاء منطقة انتظار للسيارات.
كما أزيل نخيل تاريخي بشارع 23 يوليو، في محافظة بورسعيد، يتعدى عمره 100 عام، بين عامي 2015 و2019، فيما عُرف وقتئذ باسم مذبحة أشجار حديقة قناة السويس.
وفي مدينة بنها بمحافظة القليوبية اقتُلعت أشجار بدعوى تجميل شكل جسر النيل بالمنطقة، كما أُزيلت كميات هائلة من الأشجار النادرة بحديقة المنتزه التاريخية في محافظة الإسكندرية، وهناك أيضاً حديقة هابي لاند في المنصورة، التي تعدّ حديقة تاريخية؛ كونها أحد متنزهات الخديوي إسماعيل، وقد أُزيلت هي الأخرى.
اقتطاع 660 ألف متر مربع من المساحات الخضراء بمصر في السنوات الأخيرة
وحسب مصدر في وزارة البيئة، قال في اتصال هاتفي مع "عربي بوست"، إن ما يحدث في السنوات الأخيرة في مصر تجاه المساحات الخضراء والأشجار النادرة لا يمكن تسميته غير مذبحة يقوم بها من لا يقدّرون قيمة الخضرة في حياة الناس وصحتهم، بجانب أهميتها البيئية.
مشيراً إلى أنه رغم استعدادات مصر الأخيرة لاستضافة مؤتمر المناخ تكتشف أن النظام اقتطع خلال السنوات الأخيرة ما تزيد مساحته في العموم عن 150 فداناً من المساحات الخضراء في مختلف محافظات مصر، أي ما يزيد عن 660 ألف متر مربع من الحدائق والأشجار، في كل من مصر الجديدة والمنصورة والإسكندرية وبورسعيد وغيرها.
وهي كارثة بيئية بكل المقاييس، باعتبار أن نسب التلوث في مصر قبل اقتطاع تلك المساحات الضخمة تتخطى المؤشرات الدولية بمعدل 7 أضعاف، وذلك نتيجة لكثرة المخلّفات وعوادم المصانع والسيارات، وغيرها من ملوثات البيئة.
وزارة البيئة لا تستطيع مواجهة الجهة السيادية التي تقوم بقطع الأشجار
مصدر آخر في وزارة البيئة المصرية، كشف في اتصال مع "عربي بوست"، أنه لا الوزارة ولا الوزيرة تجري استشارتهما في أي شيء يخص قطع الأشجار أو اقتطاع مساحات خضراء في أي مكان في مصر في السنوات الأخيرة.
رغم مخالفة ذلك لقانون البيئة الصادر في عام 2017، الذي ينص على ضرورة الحصول على موافقة وزارة البيئة، وتقديم دراسات الآثار البيئية قبل إزالة الأشجار، كما يحظر "قطع أو إتلاف النباتات أو حيازتها أو نقلها أو استيرادها أو تصديرها أو الاتجار فيها، كلها أو أجزاء منها".
مشيراً إلى أن تجاهل الوزارة يحدث لأن الجهة التي تقدم على اقتطاع المساحات الخضراء والأشجار تابعة لجهة سيادية، لا تستطيع الوزيرة ولا مجلس الوزراء كله مساءلتها عما تفعله، أو إجبارها على طلب إذن وزارة البيئة قبل الإقدام على قطع الأشجار أو تقليص الحدائق.
جهة سيادية بدأت مذابح الأشجار وسارت خلفها الجهات المحلية
مصادر خاصة صرَّحت لـ"عربي بوست" أن جهات سيادية تقف وراء عملية التجريف تلك، وأن التبِعات السلبية لتقليص المساحات الخضراء سوف تتحملها ميزانية الدولة، وليست هذه الجهات.
مشيرة إلى أن تبعات التجريف ستؤدي إلى كارثة بيئية، وأن القائمين على عملية التجريف يرون أن الأشجار عوائق طبيعية.
ومن جانب آخر، فإن المبدأ الذي تسير عليه مختلف الجهات في مصر حالياً هو البحث عن المال، دون اعتبار لأي شيء آخر، ولهذا يتم قطع الأشجار وتقليص الحدائق، من أجل إنشاء جراجات خاصة للسيارات، أو لإنشاء كافيهات ومحال مكانها، تدرّ عوائد سنوية ضخمة.
فضلاً عن أن هذا الاعتداء الذي لم يجد مقاومة شجَّع جهات أخرى على قطع الأشجار من أجل طرحها في مزادات علنية، والاستفادة من بيعها، خصوصاً مع الارتفاع المخيف في أسعار الخشب في العامين الماضيين.
وقد كشف تحقيق صحفي نُشر في جريدة الأهرام القومية المصرية، أن الأحياء وهيئات النظافة والتجميل في مختلف المحافظات تعتبر أن بيع أخشاب الأشجار مصدر لزيادة مواردها المالية، وهناك إعلان نشرته محافظة الغربية عبر موقعها الإلكتروني عن طرح ما يزيد عن 1563 شجرة للبيع بالمزاد العلني.
هل يمكن أن تصل الشكاوى ضد مذابح الأشجار إلى مؤتمر المناخ في شرم الشيخ؟!
سؤال يطرحه البعض في الشارع المصري، وقد عرضه "عربي بوست" على مصدر في سكرتارية مؤتمر المناخ، وهي الجهة المسؤولة من الجانب المصري عن الاستعداد لاستضافة القمة.
لكنه قال إن التقارير التي تصل إليهم تؤكد عدم توقع حدوث مشاكل مهمة خلال أعمال القمة التي تستمر 12 يوماً تقريباً، حيث تولت وزارة الداخلية تأمين مدينة شرم الشيخ من قبل بداية المؤتمر بعدة أيام.
وهناك تصاريح خاصة لدخول المدينة خلال القمة، وبالتالي لن يكون هناك مجال أمام النشطاء والراغبين في التظاهر أمام المشاركين في المؤتمر لدخول شرم الشيخ وإثارة الجلبة هناك.
كما أن المسؤولين في وزارتي الخارجية والبيئة اختاروا بأنفسهم عدداً من المنظمات المدنية المصرية "المتعاونة"، للمشاركة في القمة، في حين جرى تجاهل منظمات أخرى مصنفة باعتبارها "غير متعاونة"، كما عقدوا عدة اجتماعات خلال الشهور القليلة الماضية مع قادة المنظمات "المتعاونة"، للاتفاق على عدم طرح قضايا "غير مرحب بها" من قبل الحكومة.
جدير بالذكر أن المتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، أحمد أبو زيد، قال في تصريحات صحفية، إن الحكومة المصرية عملاً بقواعد الأمم المتحدة رشَّحت أسماء 56 منظمة مدنية مصرية وإفريقية، لحضور قمة المناخ في شرم الشيخ.
مشيراً إلى أن أياً من الجمعيات التي حصلت على تلك الموافقة الاستثنائية لم تفكر مثلاً في مقاضاة الحكومة، التي قطعت مساحات هائلة من الأشجار في مختلف أنحاء البلاد على مدار السنوات الماضية.
انتقادات لوزيرة البيئة
وحول الانتقادات الموجهة لوزيرة البيئة ياسمين فؤاد، بسبب موقفها التبريري لما بات يُعرف بـ"مذابح الأشجار" في مصر، قال المصدر إن الوزيرة لا تملك كما قلت التصدي للأمر أو الاعتراض عليه.
ويضيف أنه عندما حاولت توضيح وجهة نظر الوزارة حول الموضوع خلال جلسة لمجلس الوزراء، أُبلغت بعدم التطرق للأمر مرة أخرى، وبالتالي هي تجد نفسها أمام أمر واقع.
وفي الوقت نفسه تطاردها وسائل الإعلام للإجابة عن تساؤلات الشارع بخصوص مذابح الأشجار، لهذا لجأت بذكاء لعرض جزء من الحقائق، مثل قولها إن هناك بعض الأشجار تمت زراعتها في مناطق بالخطأ، وإن جذورها تسبب مشاكل مع الكابلات الكهربائية والمواسير تحت الأرض، وما يحدث أن هناك إجراءات تحتاج الدولة اتخاذها للتنمية في أماكن معينة، وتحاول لاحقاً زرع أشجار أخرى في المكان نفسه الذي قطعت فيه الأشجار القديمة، لكنها لم تستطع تبرير قطع الأشجار وتقليص الحدائق في أماكن أخرى، رغم أنها لا تسبب مشاكل للمواسير والكابلات.
ما هو نصيب الفرد في مصر من المساحات الخضراء؟!
سؤال قد يبدو سهلاً في العديد من دول العالم، لكنه في مصر يمثل سراً حربياً لا يعرفه أحد، بمن فيهم النواب البرلمانيون، مثلما قال باحث في شؤون البيئة بأحد المراكز المتخصصة غير الحكومية العاملة في مصر.
إذ أكد لـ"عربي بوست" أنه سعى للتواصل مع وزارة البيئة المصرية أكثر من مرة، للحصول على معلومات حول نصيب الفرد في مصر من المساحات الخضراء، وهل تقلص أم زاد في السنوات العشر الأخيرة؟.
لكن الرد يأتي دائماً بأن الوزارة لا تملك معلومات موثقة حول الأمر، ووعود بأنه في حالة توافر تلك المعلومات سوف يجري التواصل معي وإبلاغي بها، وهو ما يضع الكثير من علامات الاستفهام حول الدور الحقيقي الذي تقوم به الوزارة لحماية البيئة، أو حتى الحفاظ على ما تبقى منها في مصر.
وأشار إلى أن تقارير مصنفة "عالية السرية" في مكتب وزيرة البيئة تحذر من انخفاض نصيب الفرد المصري من المساحات الخضراء في السنوات الأخيرة إلى أقل من نصف متر في المناطق عالية الكثافة السكنية، خصوصاً في القاهرة والجيزة، بينما ترتفع في المناطق الأخرى منخفضة الكثافة السكانية إلى حوالي 8 أمتار.
فمجموع المساحات الخضراء في مصر حوالي 5.4 مليون متر مربع فقط، وهذا يعني أن نصيب الفرد في مصر من المساحة الخضراء أقل من جزء من عشرة من المتر المربع، في حين أن منظمة الصحة العالمية توصي بأن كل فرد يكون نصيبه على الأقل 9 أمتار مربعة.
مشيراً إلى أن المعدل الأول كارثي، ويجب العمل على تعديله فوراً؛ لأن هناك عواقب وخيمة ليس فقط على المواطنين، ولكن حتى على الدولة وميزانيتها في المستقبل القريب، كما أن المعدل الثاني رغم ارتفاعه بشكل كبير فإنه يظل بعيداً جداً عن المعدل العالمي، الذي يبلغ 81 متراً مربعاً للفرد.
يذكر أن الدكتورة ندى ألفي ثابت، عضو مجلس النواب المصري، قالت في طلب لمساءلة وزيرة البيئة عن انحسار المساحات الخضراء في مصر، إن نصيب الفرد من المساحات الخضراء في القاهرة يقدر بـ5.1 متر مربع، وهو من أقل المعدلات بين مدن العالم.