لم تتمكن أم وليد، كما طلبت من "عربي بوست" تسميتها، من شراء علبتي قهوة مرة واحدة، فعند الدفع قبلت الموظفة في المحل التجاري تمكينها من علبة واحدة من فئة 200 غرام من القهوة فقط.
وأصبحت قواعد لبيع مادة القهوة التي تُعتبر أساسية في تونس، وغيرها من المواد الغذائية، فتم تحديد الكميات الممكن شراؤها من طرف الزبون الواحد، كالحليب والسكّر والزيت النباتي وحتى السجائر.
تحاول أم وليد من خلال حديثها لـ"عربي بوست"، بعد دفع المقابل المادي لمقتنياتها، توضيح أهمية تلك الكمية الصغيرة في علبة القهوة، وتأثير قواعد البيع الجديدة على مورد رزقها الوحيد، بما أنها تبيع القهوة المطبوخة للزبائن لمساعدة أسرتها.
والرفوف في نفس المركز التجاري الكبير في منطقة "اللافيات" وسط العاصمة تونس فارغة، رف المياه المعدنية شبه خالٍ، ما عدا بعض القوارير من علامات دخيلة، ورواق المواد الغذائية يشكو نقصاً ملحوظاً من الحليب، والدجاج، والسكر، والقهوة.
فحتى الكمية الصغيرة الموجودة سعرها مرتفع مقارنة بالسعر العادي، الأمر الذي يدفع التونسيين إلى الاستغناء عن هذه المواد بسبب أسعارها غير المعقولة، وبالتالي تبقى مركونة في رفوف المحلات التجارية.
للمقاهي قواعد
أحمد يشتغل في مقهى بأحد الأحياء الشعبية بمنطقة بن عروس، إحدى محافظات تونس الكبرى، اصطدم ككلّ أصحاب وعمال المقاهي، بمشكلة غياب مادة السكّر كليّاً والقهوة بدرجة أقلّ، رغم أن النوعية الموجودة حاليّاً ليست ذات جودة.
يقول أحمد لـ"عربي بوست": "أُحاول التوفيق بين استمرارية عمل المقهى والكمية القليلة من السكر التي أحصل عليها بطرق مختلفة، فالزبون ليس له الحق في الحصول على فنجان قهوة به أكثر من قطعة سكّر واحدة، مما دفع الكثيرين لجلب بعض من السكّر من بيوتهم".
وليس مقهى "الفلّ"، الذي يشتغل فيه أحمد الوحيد الذي يحدد كمية السكر لكل زبون، فالأمر ينطبق على كل المقاهي التي لا تزال مفتوحة في تونس، بعد فقدان القهوة والسكر، ما أسفر عن إغلاق العشرات من المقاهي.
وفي محافظة صفاقس، التي تعتبر ثاني أكبر تجمع سكاني في تونس، تُباع فناجين القهوة دون سكّر لمن يريد، فلا خيار أمامهم في ظلّ فقدان مواد أساسية لم يتعوّده التونسيون سابقاً، حتى في ظل أحلك الفترات.
بيع مشروط.. ولكنه مفروض
في تونس لا تزال محلات البيع بالتقسيط موجودة في أغلب الأحياء الشعبية، وهي ليست بمعزل عن ندرة بعض المواد الأساسية، كالسكر والقهوة والماء المعدني والحليب والسجائر، ولكن يتمكّن أصحابها من الحصول على ما يمكنهم الحصول عليه.
لكن تلك المنتجات النادرة ليست مُتاحة للجميع فهي تخبّأ بإحكام داخل المحلّ، وتُباع فقط للزبائن المقرّبين وتُعطى لهم ملفوفة بكيس وجرائد حتى لا يكتشف الفضوليون من الباحثين عن مواد أساسية من المفترض ألا تغيب عن أي منزل.
إلا أن تلك المعاملة الخاصة للزبائن المقرّبين ليست مطلقة أو دون قيود، فهناك شرط يتمثّل في ضرورة شراء مواد أخرى، فالحليب يصاحب شراؤه اقتناء ياغورت أو جبن أو غيرها من المواد التي لا تُباع بكميات كبيرة.
يوضح علي، وهو صاحب محل لبيع المواد الغذائية لـ"عربي بوست": "أنا لا أستغلّ الزبائن بالبيع المشروط كما يقولون، لكني أبيع بنفس الطريقة التي اشتريت بها، فالمزوّد لا يُمكنني من الحليب إلا مع الياغورت أو اللبن، ولا يعطيني الماء المعدني إلا مع الجبنة التي لا تُباع كثيراً لسعرها الباهظ".
رفوف فارغة
خلال الفترة التي قضاها "عربي بوست" في التجوّل بين الأسواق والمساحات التجارية الكبرى لاحظت أن أغلب السلع المفقودة أو القليلة لا تكفي لأكثر من 50 شخصاً في أقصى الأحوال، مما يجعل كل من يرى تلك الندرة يُسارع لاقتناء أكثر ما يُمكنه منها.
لكن القواعد لا تسمح له بذلك، ففي كل المساحات التجارية الكبرى التي عاينتها "عربي بوست" لا يُسمح بشراء الكمية التي يريدها الزبون، إن كان الأمر يتعلق بإحدى المواد الأساسية أو الغذائية المفقودة.
كما أن كل الأشخاص الذين التقاهم "عربي بوست" أكدوا له أن تلك القواعد تسري حتى في محلات للبيع بالتقسيط في الأحياء الشعبية.
توسّع قائمة المواد المفقودة
خلال الأشهر القليلة الماضية، كانت قائمة المواد الغذائية الأساسية المفقودة في الأسواق التونسية تقتصر على بعض مشتقات الحبوب، لكن اليوم توسعت القائمة أكثر لتشمل العشرات من المواد، كالسكّر والقهوة والحليب والمياه المعدنية المعلّبة وغيرها.
وبلغت تونس خلال الأسبوعين الأخيرين، مستوى أزمة في توفير السلع الأساسية لم تبلغه في تاريخها تقريباً، إذ فُقدت العديد من المواد الأساسية عن الأسواق، خاصة مشتقات الحبوب طيلة أسابيع، بسبب الحرب الروسية الأوكرانية.
وحاولت الحكومة التونسية البحث عن مزوّد جديد لها من مواد الحبوب ومشتقاتها، ولكنها لم تُفلح بسبب عدم توفر السيولة المالية اللازمة، والعجز الكبير الذي تُعاني منه ميزانية البلاد.
وكنتيجة فقدان المواد الأساسية وتزايد الطلب عليها، شهدت الأسعار ارتفاعاً خارج دائرة الزيادات الروتينية التي يصاحبها ارتفاع لا يتوقّف في نسبة التضخم التي كانت في حدود 6.4% في تموز/يوليو 2021، لتصبح 8.2% في نفس الشهر من السنة الحالية.
وسجلت تونس في نهاية سنة 2021 نموا بـ3.1% بعد أن انكمش في عام 2020 بنسبة بلغت الـ8.8% وحوالي 0.9% سنة 2019، مع توقعات بتحقيق تونس نمواً بنسبة تبلغ ما يُقارب 2.6% مع نهاية العام الجاري الذي حققت في ثلثه الأول نسبة نموّ بنسبة 2.4%.
فيما تعيش 963 ألف عائلة، تضم نحو 4 ملايين تونسي تحت خطّ الفقر من جملة 12 مليوناً، إجمالي عدد سكان البلاد، وفق إحصائيات كشف عنها وزير الشؤون الاجتماعية، مالك الزاهي، في مارس/آذار الماضي.
ارتفاع الأسعار
سجل مؤشر أسعار الاستهلاك العائلي في تونس ارتفاعاً بنسبة 1.4% خلال شهر أبريل/نيسان 2022، بعد أن كان في حدود 0.3% خلال شهر فبراير/شباط 2022، وفق المعهد الوطني للإحصاء، الذي أرجع ارتفاع مؤشر الاستهلاك العائلي إلى ارتفاع أسعار الملابس والأحذية بنسبة 6.3%.
كما ارتفعت أسعار المواد الغذائية والمشروبات بنسبة 1.6%، وارتفعت أسعار الخضر بنسبة 4.3%، وأسعار اللحم بـ4.7%، وأسعار الأسماك بـ3.4%، وأسعار الغلال 2.6%، ومشتقات الحبوب 1.9%، والزيوت الغذائية 1.5%، فيما سجّلت أسعار الأثاث والتجهيزات والخدمات المنزلية زيادة بنسبة 1%، وأسعار مواد وخدمات النقل بنسبة 1.4%.
ورفعت حكومة نجلاء بودن، مباشرة بعد إمضاء اتفاق الزيادة في أجور موظفي الدولة مع الاتحاد العام التونسي للشغل، سعر غاز الطهي بنسبة 15% لأول مرة منذ أكثر من 10 أعوام، كما شملت الزيادة أسعار المحروقات بنسبة 1.4%، للمرة الثالثة منذ بداية سنة 2022.
اتهامات بالاحتكار ومرسوم "حرب"
الرئيس قيس سعيد دأب بصفة شبه دورية منذ إعلانه عن إجراءات 25 تموز/يوليو على كيل الاتهامات لأطراف سياسية لم يُسميها، لكنه يشير إلى حركة النهضة بدرجة أساسية، بالوقوف وراء كل ما يحصل من فقدان المواد الغذائية من الأسواق والتلاعب في أسعارها.
وعادة ما يقول الرئيس قيس سعيد "إنّ ظاهرة الاحتكار مقصودة ومعلوم من يقف وراءها"، ويؤكّد مراراً وتكراراً أن عمليات "الاحتكار بفعل فاعل، وهي سعي إلى ضرب السلم الاجتماعي والأمن في المجتمع".
وفي آخر لقاء جمع الرئيس التونسي برئيسة الحكومة نجلاء بودن، يوم الإثنين، 26 سبتمبر/أيلول 2022، أكد سعيّد ضرورة تزويد الأسواق بالسلع، والتصدي للمحتكرين والتجاوزات، وفق ما أعلنته رئاسة الجمهورية في تونس عقب اللقاء.
الرئيس التونسي قيس سعيّد شدد على ضرورة الضغط لمنع استيراد المواد الكمالية كغذاء الحيوانات ومواد التجميل؛ للحد من اختلال الميزان التجاري مع عدد من البلدان التي تضر بالمالية العمومية.
وأعلن الرئيس التونسي قيس سعيّد خلال الفترة الماضية ما أسماه "حرباً على محتكري المواد الغذائية والأساسية ومن نكّلوا بالتونسيين وقوتهم"، كما يقول الرئيس قيس سعيد خلال اللقاءات التي تجمعه بوزراء الحكومة.
وأصدر الرئيس قيس سعيد في إطار "حربه على المحتكرين" المرسوم 14 لسنة 2022 المؤرخ بتاريخ 20 مارس/آذار 2022، المتعلق بمقاومة المضاربة غير المشروعة لتأمين التزويد المنتظم للسوق وتأمين مسالك التوزيع والمتضمن لـ28 فصلاً.
تشخيص مغلوط وتعمّق الأزمة
الخبير الاقتصادي والأستاذ في الجامعة التونسية، عبد الجليل البدوي، يرى أن الحكومة تتجه فعليّاً لتنفيذ شروط صندوق النقد الدولي، بداية من رفع الدعم تدريجيّاً على عدد من المواد المدعومة الأكثر استهلاكاً.
وأضاف البدوي في تصريح لـ"عربي بوست" أن الحكومة تتجه لرفع الدعم على المحروقات بكل أنواعه، والغاز السائل الذي رُفعت فيه نسبة 14% لإسطوانة الغاز الواحدة، وهي زيادة غير مسبوقة في تاريخ تونس، وفق تأكيد الخبير الاقتصادي.
ووفق تقدير البدوي، تُشير كل الأرقام والمؤشرات الاقتصادية لمزيد من تردي وضع المواطن التونسي وتراجع مقدرته الشرائية بصفة رهيبة بالتوازي مع تواصل فقدان المواد الأساسية من السوق وارتفاع أسعارها.
وقدّر الخبير الاقتصادي والأستاذ في الجامعة التونسية عبد الجليل البدوي، أن توجيه الاتهامات يميناً وشمالاً من طرف قيس سعيد، وتحميل أطراف سياسية مسؤولية الوضع وفقدان عديد المواد الأساسية من السوق لن يؤدي سوى إلى تواصل الأزمة.
ويؤكّد عبد الجليل البدوي أن فقدان العديد من المواد الأساسية والغذائية من الأسواق والمساحات التجارية الكبرى لا يعود للاحتكار رغم وجود الظاهرة، بل سببه عدم توفر السيولة المالية في خزينة الدولة لشراء المواد الأساسية المفقودة من الخارج، والدفع الحيني في ظل رفض المزوّدين تمكين تونس من الدفع بعد فترة من وصول الشحنات إلى الموانئ التونسية.
الزيت النباتي كمثال.. الحكومة تتحمَّل المسؤولية
أحد أكثر المواد الغذائية المفقودة في السوق التونسية، هي الزيت النباتي الذي يُصنفّ كأكثر المواد المدعمة استهلاكاً من طرف التونسيين، حسب ما أكده نائب رئيس الغرفة النقابية لمعلّبي الزيوت الغذائية صلاح الدين عبد اللطيف.
وقال المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" إن فقدان مادة الزيت من السوق والاضطراب المتواصل في تزويد السوق بالمادة لا يعود للاحتكار، كما يقول ويعيد الرئيس قيس سعيد كلما لاحظ غلياناً في الشارع بسبب فقدان المواد الغذائية وعلى رأسها الزيت النباتي.
ووفق ما أوضحه رئيس الغرفة النقابية لمعلّبي الزيوت الغذائية، فالسبب الرئيسي لفقدان مادة الزيت النباتي المدعّم من السوق هو عدم تزويد الحكومة السوق به بعد شرائه من السوق العالمية.
وقال المتحدث إن الدولة لا تتوفر على السيولة المالية، مما منعها من شراء الكميات التي تحتاجها السوق التونسية والمواطن التونسي، الذي يُعتبر المتضرر الأول والرئيسي من عدم انتظام تزويد السوق بالزيت الغذائي وغيره من المواد المفقودة من السوق.
قرض ضخم وانطلاق رفع الدعم
حكومة نجلاء بودن، التي شكّلها الرئيس قيس سعيد بعد إعلان الإجراءات الاستثنائية في 25 يوليو/تموز 2021، وما قرره من إقالة حكومة هشام المشيشي، تعوّل للخروج من الأزمة المركّبة التي تعيشها البلاد والاختلال الكبير في الموازنات العامة للدولة على نجاح مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض هو الأضخم في تاريخ البلاد.
وتبلغ قيمة القرض الذي تسعى حكومة نجلاء بدون، ومن ورائها قيس سعيد لإقناع صندوق النقد الدولي منح تونس حوالي 4 مليارات دولار، كما أن الرئيس يُعول على هذا القرض بصفة كلية للخروج من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الخانقة.
وفي مقابل القرض بـ4 مليارات دولار أمريكي، تشترط المؤسسة المالية المانحة على الحكومة التونسية والرئيس قيس سعيد تنفيذ حزمة من الإصلاحات الهيكلية التي تؤدي إلى حلّ جذري لاختلال توازن الاقتصاد التونسي.
وتتمثّل شروط صندوق النقد الدولي في تنفيذ الحكومة لما يُعرف في تونس بالإصلاحات الموجعة، من تجميد لكتلة أجور أعوان الدولة، وغلق باب التوظيف العمومي والتخفيض في مرتبات التقاعد، وإصلاح الصناديق الاجتماعية المفلسة.
أيضاً يُطالب صندوق النقد الدولي من الحكومة التونسية التفويت في المؤسسات المملوكة من طرف الدولة، والرفع التدريجي للدعم على المواد الأساسية وتعويضه بالدعم المباشر المعمول به في تونس منذ إعلان الجمهورية في 25 يوليو/تموز 1958.
وتجنبت كل الحكومات التي مرت بالبلاد منذ سنة 2011، تاريخ سقوط نظام زين العابدين بن علي، تنفيذ الإصلاحات التي يشترطها صندوق النقد الدولي، خوفاً من ردّ فعل التونسيين، خاصة أن كل رؤساء الحكومات تقريباً كانوا رؤساء أحزاب ولهم طموح سياسي.
وفي مقابل كل الحكومات التي قادت البلاد، يؤكّد خبراء ومختصون في الشأن التونسي أن الرئيس قيس سعيّد ذاهب في تنفيذ إملاءات وشروط صندوق النقد الدولي لغياب أي حلّ بديل.
وقال الرئيس التونسي قيس سعيد، يوم الاستفتاء على مشروع الدستور الجديد في 25 يوليو/تموز الماضي، إنه من الضروري القيام بـ"إصلاحات مؤلمة" لتجاوز الأزمة.
فيما أعلنت الحكومة كذلك أنها تناقش مراجعة دعم المواد الأساسية التي تثقل كاهل الموازنة العامة، وبلغت تكاليف دعم المواد الأساسية، حوالي 1.3 مليار دولار خلال العام الجاري وفق وزيرة المالية التونسية، التي قدّرت أن تبلغ قيمة دعم المواد الأساسية خلال العام المقبل ما يُناهز الـ1.5 مليار دولار.