تمكن إبراهيم الحسيني قبل 10 سنوات من شراء قطعة أرض لتكون بمثابة مزرعة تربية المواشي، واستطاع في غضون أعوام قليلة افتتاح عدد من المحال التجارية لبيع اللحوم في أماكن متفرقة من العاصمة القاهرة.
وإلى جانب تجارته التي أخذت في التنامي وجد إبراهيم نفسه العام الماضي مديناً بملايين الجنيهات؛ ليضطر إلى بيع مواشيه والأرض التي قام بشرائها لتسديد ديونه خشية إلقاء القبض عليه.
ما بين تأسيس المزرعة الشاسعة بمحافظة الشرقية وبيعها والتخلص من المواشي الموجودة فيها، مرت الثروة الحيوانية المصرية بتقلبات عديدة قادت في النهاية لتراجعها بصورة كبيرة.
أسباب هذه الأزمة يُرجعها الحسيني وغيره من تجار المواشي في مصر الذين التقاهم "عربي بوست" لمجموعة من العوامل على رأسها تعويم الجنيه وانعكاسه على زيادة أسعار الأعلاف المستوردة من الخارج، إلى جانب منافسة غير عادلة من جهات حكومية بينها الجيش.
أسعار العلف والتعويم
يروي التاجر المصري قصته لـ"عربي بوست" قائلاً: " قبل بداية العقد الأخير تمكن الفلاحون من تحقيق أرباح طائلة من تربية المواشي، ما كان دافعاً لكثير من المزارعين للشراكة مع أقاربهم وشراء مئات رؤوس المواشي والتجارة فيها، وهذا ما حصل معي".
وأضاف المتحدث "تمكنَا من مضاعفة أعداد رؤوس المواشي من 100 ماشية إلى 300 رأس خلال 9 سنوات، وتوسعنا في امتلاك عدد من المحال التجارية لبيع اللحوم وتوفير خدمات إضافية عبر تجهيز الولائم والأكلات الجاهزة".
بقول إبراهيم الحسيني: "كل هذا أخذ يتبدد منذ اتخاذ الحكومة المصرية قراراً بتعويم الجنيه سنة 2016، حينها قفزت أسعار الأعلاف من 2300 إلى 5500 جنيه للطن الواحد، لكننا نجحنا في تجاوز الأزمة خلال العام الأول من التعويم".
ويتابع: "تعرضت المواشي للإصابة بأمراض مختلفة منها الحمى القلاعية، والحكومة لم تُوفر الأمصال وبدا ذلك مقصوداً، لأنها في الوقت ذاته بدأت تستورد اللحوم الحية والمجمدة من الخارج، ودخلت كمنافس للمربين والتجار وافتتحت محلات لبيع اللحوم بأسعار أقل من متوسط ومن هنا كانت البداية".
"أضحى الرأس الواحد من الماشية بحاجة إلى أعلاف شهرية لا تقل عن 1000 جنيه، في حين أنه لا يزيد سوى أربعة كيلوغرامات، وبالتالي فإنه لا يحقق مكسباً للمربين"، بحسب ما أكده الحسيني.
وأشار المتحدث إلى أن "المحلات التجارية لم تعد قادرة على زيادة الأسعار لأن القدرة الشرائية انخفضت من جانب، وفي المقابل قام الجيش ببيع اللحوم المستوردة بأسعار زهيدة مقارنة باللحوم البلدي، وهناك فئات عديدة لجأت لها".
بلغت خسائر الحسيني وإخوته عام 2020 ما يقرب من 10 ملايين جنيه بسبب أسعار الأعلاف، وتراجع الإقدام على شراء المواشي، ونفوق البعض منها جراء الأمراض، ما كان دافعاً نحو إغلاق محاله التجارية وبيع مزرعته والاكتفاء بعدد من الرؤوس التي يستفيد منها إلى جانب أرضه الزراعية.
منافسة خاسرة مع الجيش
تقول الأرقام الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إن تراجع أعداد الماشية في مصر بنسبة 59.5% بين 2011 و2021، إذ بلغت رؤوس الماشية قبل 10 سنوات 18 مليوناً و989 ألفَ رأسٍ، وتراجعت لـ6 ملايين و500 ألفِ رأس.
أما الأرقام التي أعلن عنها وزير الزراعة، السيد القصير مؤخراً، فتقول إن عدد الرؤوس من المواشي بلغ 3.8 مليون، موزعة ما بين 2.3 أبقار محلية، و1.3 جاموس محلي، 0.2 أبقار مستوردة، و2.7 مليون رأس من الأغنام والماعز والإبل.
حسين عبد الحميد، تاجر ماشية بمحافظة المنيا قال إنه في عام 2018 كان شاهداً على بدء تدهور الثروة الحيوانية دون أن تعود لمعدلاتها الطبيعية مرة أخرى، بسبب ارتفاع أسعار الأعلاف، ولم يكن لدى صغار المربين القدرة على الاستمرار في مشروعاتهم.
مقابل ذلك، تضاعفت أعداد محلات بيع اللحوم التابعة للجيش في الفترة ما بين 2014 و2022، إذ لم يتجاوز عددها قبل 8 سنوات 341 محلاً قبل أن يبلغ 1502 محل، إلى جانب مئات منافذ أمان التابعة لوزارة الداخلية ومنافذ وزارتي الزراعة والتموين.
وفي الوقت ذاته توسعت الجهات الحكومية وبينها القوات المسلحة والشرطة ووزارة الزراعة في استيراد اللحوم من الخارج، ومن ثم افتتاح مئات المحلات التجارية الجديدة لبيعها.
وأكد المتحدث أن "المزارعين لم يتمكنوا من منافسة الجيش الذي لا يدفع الضرائب، هذه الأخيرة التي ارتفعت بدورها على المزارع العادي، كما أن الجيش، ليس لديه عمالة مكلفة كما الحال بالنسبة للمزارعين".
وفي ظل هذا الوضع تخلص عدد كبير من المزارعين من مواشيهم بأسعار زهيدة، واستفاد أصحاب المزارع الكبيرة، والمزارع التابعة للقوات المسلحة من تلك الوضعية، في حين أن ذلك تسبب في انكماش حجم سوق اللحوم البلدي.
الحرب الأوكرانية أزمت الوضع
ويعتبر عبد الحميد أن اندلاع الحرب الأوكرانية كان بمثابة ضربة قاصمة جديدة لكثير من التجار والمربين، بعد أن تضاعفت أسعار الذرة الصفراء والأعلاف من جديد.
ولم تتدخل الحكومة لدعم التجار وتركتهم يواجهون المصير بأنفسهم، لكنها في الوقت ذاته حققت مكاسب طائلة جراء ضعف الإقبال على اللحوم البلدي مرتفعة الثمن مقارنة باللحوم المستوردة.
وبسبب الحرب بلغ متوسط أسعار الأعلاف 12.1 ألف جنيه للطن، ويتشكل تصنيع طن الأعلاف من 60% ذرة صفراء، و30% كُسب فول الصويا، و10% إضافات أعلاف، وتستورد مصر نحو 90% من احتياجات خامات الأعلاف بما يتجاوز 11 مليون طن سنوياً.
وانعكست تلك الزيادات على أسعار اللحوم التي وصلت مؤخراً في محال الجزارة إلى 200 جنيه للكيلو الكندوز، بينما سجل سعر كيلو الضأن بين 180 و200 جنيه، فيما سجل اللحم الجملي 120 – 150 جنيهاً للكيلو.
لكن في المقابل فإن أسعار اللحوم في منافذ وزارة الداخلية بلغت 90 جنيهاً لكيلو الكندوز، أي نصف السعر تقريباً، وبلغت أسعار اللحوم السوداني المجمد 80 جنيهاً للكيلو، وبلغ سعر الكيلو الواحد من اللحوم السودانية الطازجة اليوم 120 جنيهاً.
وكذلك الوضع بالنسبة للأسعار في المجمعات الاستهلاكية التابعة لوزارة التموين، حيث سجل سعر كيلو اللحم البرازيلي المجمد 90 جنيهاً، وبلغ سعر كيلو اللحم البرازيلي المجمد المفروم 90 جنيهاً.
التخلص من المواشي
لم يكن أمام محمود البيومي، صاحب حظيرة صغيرة لتربية المواشي وجزارة لبيع اللحوم بمحافظة الجيزة، سوى الذهاب إلى أسواق بيع المواشي للتخلص من 10 رؤوس حاول الحفاظ عليها خلال العامين الماضيين، بعدما واجه خسائر شهرية بلغت 30 ألف جنيه بسبب ارتفاع أسعار العلف.
يقول المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست": "اكتفيت بالحفاظ على رأسين من الأبقار فقط وعدد قليل من الأغنام للاستفادة من منتجاتها، لكنني قررت بشكل نهائي عدم التجارة في المواشي مرة أخرى".
وأضاف المتحدث: "كنت بحاجة لشراء أعلاف إلى الرأس الواحد يومياً بما يوازي 50 إلى 60 جنيهاً، أي إنني أصرف 1500 جنيه على الرأس الواحد شهرياً تقريباً، وقد يكون الرقم قابلاً للزيادة".
وقال المتحدث في تصريحه "لم تحقق رؤوس المواشي مكاسب شهرية لا تتجاوز 600 جنيه نتيجة زيادة الوزن التي لا تتجاوز 5 كيلو، ما يجعلني أمام خسارة تصل إلى 1000 جنيه في الماشية الواحدة إلى جانب مصروفات الخدمات الأخرى كالمياه والكهرباء والنقل والعاملين".
الخسائر التي تعرض لها البيومي تكررت أيضاً في جزارته لأنه لم يجد حيزاً مناسباً للربح، بعد أن وصل سعر كيلو الكندوز (لحم بقر) الذي يقوم بشرائه من المذبح قبل إخلائه من العظم إلى 130 جنيهاً.
وقد يجد البائع نفسه أمام مكسب لا يتجاوز 15 جنيهاً للكيلو مع تراجع الإقبال على شراء اللحوم البلدي، فلجأ الجزارون إلى بيع اللحوم السودانية التي تباع في المذابح بأختام واحدة لا تفرق بين البلدي والمستورد، ومن ثم انتشر مصطلح "اللحوم المغشوشة".
مشروع "البتلو" لإنقاذ الوضع
مصدر مطلع بوزارة الزراعة- رفض ذكر اسمه- كشف أن فاتورة استيراد اللحوم المجمدة من البرازيل والهند، وكذلك بالنسبة لاستيراد المواشي الحية من السودان بلغت عام 2018 ما يقرب من 10 ملايين دولار.
هذا الرقم أخذ في التصاعد حتى وصل هذا العام إلى 18 مليون دولار، وأن تلك الفاتورة تُسدد القوات المسلحة الجزء الأكبر منها سواء لاهتمامها بتربية المواشي السودانية في مزارعها الكبيرة أو لتوزيع اللحوم المجمدة على منافذها.
ويؤكد المصدر ذاته أن جهات رسمية عديدة لديها رغبة حالية في أن يتجه المربون الذين خرجوا من السوق لتجارة المواشي مرة أخرى، بعد أن وجدت أن السياسات السابقة ستقود لانقراض الثروة الحيوانية.
السبب في ذلك، يقول المتحدث هو تراجع قيمة الجنيه أمام الدولار، كما أن الاتجاه نحو مزيد من التعويم سيؤدي إلى ارتفاع أسعار لحومها المستوردة لا محالة، والعملة الصعبة سيتم توفيرها لأنشطة استيرادية أخرى.
وأطلقت وزارة الزراعة في يناير/كانون الثاني من العام 2019 مشروعاً يسعى إلى توسيع قطيع الثروة الحيوانية المحلية بمقدار 4.5 مليون رأس، يحمل اسم "مشروع البتلو" ويهدف أيضاً إلى زيادة إنتاجية منتجات الألبان واللحوم.
ويتضمن المشروع أيضاً منح قروض للفلاحين والمزارعين، وتقديم تسهيلات لهم لتسمين العجول الصغيرة، غير أن كثيراً من المربين يرفضون التجاوب مع المشروع الذي لم يحقق طفرات تذكر على مستوى زيادة الإنتاجية.
وتشير إحصاءات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء إلى أن متوسط نصيب الفرد من اللحوم سنوياً في مصر يبلغ 7.3 كيلوغرامات في 2020 مقابل 13.6 كيلوغرام في 2018.
من جهته، أكد تقرير صادر عن وزارة الزراعة الأمريكية مؤخراً، أن مصر تواصل وضع سياسات لزيادة إنتاجها من الثروة الحيوانية، ورغم ذلك لم تحقق هدفها بعد، بسبب ارتفاع أسعار العلف، رغم إعلان الحكومة عام 2018 زراعة حوالي 988.421 ألف فدان لإنتاج الذرة الصفراء (علف الحيوان).
كما تستهدف الحكومة أيضاً زيادة إنتاجية المحصول بحلول عام 2030 لخفض تكاليف إنتاج الماشية، مشيراً إلى خطتها لزيادة الإنتاج المحلي من لحوم الأبقار وزيادة وزن الذبيحة والمساعدة في استقرار أسعار السوق.
“لماذا المصادر مجهولة في هذه القصة؟
بموجب إرشادات موقع “عربي بوست”، نستخدم المصادر المجهولة فقط للمعلومات التي نعتقد أنها تستحق النشر والتي تأكدنا من مصداقيتها، لكننا غير قادرين على الحصول عليها بأية طريقة أخرى.
نحن ندرك أن العديد من القراء يشككون في مصداقية ودوافع المصادر التي لم يتم الكشف عن أسمائها، لكن لدينا قواعد وإجراءات لمعالجة هذه المخاوف، منها أنه يجب أن يعرف محرر واحد على الأقل هوية المصدر، ويجب أخذ موافقة مسؤول القسم قبل استخدام المصادر المجهولة في أية قصة. نحن نتفهم حذر القراء، لكن يجب تفهم أن المصادر غالباً تخشى على وظائفها أو علاقاتها التجارية، وسلامتها.”