لم يجد الأب محمد.د خياراً آخر من أن يسجل ابنيه الاثنين في إحدى المدارس الخاصة بمدينة طنجة؛ الأول في السنة الأولى إعدادي، والثاني في الثاني ابتدائي، رغم أن التدريس في هذه المدرسة الخاصة يتطلب تكاليف مهمة.
يقول محمد: "الأمر يفوق طاقتنا في بعض الأحيان، لكن المستقبل الدراسي لأبنائي يفرض ذلك، على اعتبار أن المدرسة الخاصة تلك التي يدرُس بها ابني توفر عرضاً تدريسياً لا بأس به، ويمكن الاطمئنان إلى وجودهما في فضاء آمن".
ودعا الأب، في اتصال بـ"عربي بوست"، إلى "مراعاة القدرة الشرائية للآباء والأمهات التي تضررت كثيراً جراء الأزمات المتتالية"، مشيراً إلى أن "الكتب والأدوات المدرسية كلفت بعض الأسر 1500 درهم (150 دولاراً) للطفل الواحد".
وجاء في تقرير رسمي للمندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية مهمتها الرصد والإحصاء وتحليل البيانات)، أن نفقات التمدرس تضاعفت أكثر من ثلاث مرات بين 2001 و2019، منتقلة من 1277 درهماً (120 دولاراً) إلى 4365 درهماً ( 430 دولاراً) في 2019.
لا ثقة في المدرسة العمومية
في العشرين سنة الأخيرة تقريباً، ازداد لجوء الأسر المغربية إلى تعليم أبنائها في المدارس الخاصة، بعدما فقدت الثقة في المدرسة العمومية وجودة التعليم الذي تقدمه، إضافة إلى تغيرات على المستوى الاجتماعي حصلت على مستوى المجتمع المغربي.
وتعمل المؤسسات التعليمية الخاصة على ملاءمة خدماتها لحاجيات الأسر والتلامذة بشكل شبه مستمر، وتحدد وفق هذه الملاءمة الواجبات المدرسية والأسعار التي تكون مكلفة في الغالب.
يرى محمد الحنصالي، رئيس رابطة التعليم الخاص بالمغرب (تجمع لأرباب المدارس الخاصة)، أن "الدولة هي التي تؤدي التكلفة داخل التعليم العمومي، لكن في التعليم الخاص تؤديها الأسر والمؤسسة التعليمية الخاصة معاً".
وتابع الحنصالي، في تصريحه لـ"عربي بوست"، أن "المؤسسات الخاصة أثرت فيها الجائحة، لأنه لم يكن هناك دعم حكومي، كما تؤثر فيها الآن الوضعية الاقتصادية العالمية الحالية".
إلى جانب ذلك، "فالتعلم في القطاع الخاص هو مسألة اختيارية وليست إجبارية، إضافة إلى أن العرض متنوع والمؤسسات متنوعة، والأسر لها أن تختار الأنسب، وأن تختار ما يتماشى مع إمكاناتها المادية"، يبرز رئيس رابطة التعليم الخاص.
ويسجل المتحدث نفسه، أن "الأسر المغربية وجدت أن التعليم الخصوصي يمكنه الاستجابة لمجموعة من حاجياتها؛ خصوصاً فيما يتعلق بالجانب التربوي، والغلاف الزمني الذي يستجيب للوضعية الإدارية للآباء والأمهات، إلى جانب النقل المدرسي والمطعمة والأنشطة الموازية".
المدارس الخاصة في المغرب.. لماذا تتراجع جودتها؟
قبل 15 سنة تقريباً، كانت الأسر فوق المتوسطة هي التي تلجأ للمدارس الخاصة لتدريس أبنائها، لما تتمتع به هذه المدارس من سمعة جيدة، تسمح لها بتقديم جودة تعليم عالية مقارنة بالمدرسة العمومية.
وكانت تتفوق المدارس الخاصة حينها على المدارس العمومية بجودة تدريس اللغات الأجنبية، أولها الفرنسية، فتجد أغلب خريجي هذه المدارس يُتقن هذه اللغة، بالإضافة إلى اللغة الإنجليزية.
وكانت المدارس الخاصة في المغرب قليلة، وأسماؤها معروفة وتكاليفها في المتوسط، أما اليوم فقد تغير كل شيء، وأصبحت المدارس الخاصة بدورها مقسمة بين مدارس درجة أولى ومدارس أخرى تأتي في الدرجة الثانية، ومدارس ليس فيها غير اسم "مدرسة خاصة".
وتختلف التكاليف بين فئات المدارس الخاصة في المغرب، حيث إن هناك مدارس صف أول تختارها الأسر المتوسطة وفوق المتوسطة، وهي مدارس تابعة للبعثات الأجنبية كـ"مدرسة ديكارت" في العاصمة الرباط، وثانوية الجنرال الليوطي في الدار البيضاء.
وتبدأ تكاليف الدراسة في هذه المدارس النخبوية المسماة (Mission) من 5000 درهم (500 دولار للشهر) وترتفع كلما تقدم المستوى الدراسي، لكن جودتها في التعليم تبقى استثنائية، وهي الأعلى إلى حدود الآن.
أما المدارس الخاصة التي تليها فهناك مدارس تُقدم جودة مستحسنة وتكاليفها مرتفعة أيضاً، لكن ليست بدرجة مدارس البعثات، وفي الأخير هناك مدارس تلجأ لها الطبقة تحت المتوسطة حتى تهرب من تدني جودة التعليم العمومي.
وفق تقرير مجلس المنافسة الأخير (مؤسسة رسمية استشارية)، المتعلق بوضعية المنافسة في قطاع التعليم المدرسي الخصوصي، فقد بلغ العدد الإجمالي للمدارس الخاصة بالمغرب برسم الموسم الدراسي 2019-2020، 6229 مؤسسة تعتمد نموذج التعليم المعمول به على الصعيد الوطني، وتستقطب أكثر من مليون متعلم.
ويعتقد رئيس الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم (غير حكومية)، عبد الناصر ناجي، أن "أغلبية الأسر المغربية تلجأ إلى التعليم الخاص هروباً من تدني جودة التعليم العمومي، إذ إن الأرقام الرسمية تؤكد أن التعليم الخاص نما بأكثر من 75% في السنوات العشر الأخيرة".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن "دراسات دولية بيّنت أن التعليم الخاص في المغرب لا يختلف من حيث الجودة عن التعليم العمومي؛ وبالتالي فالأسر تستفيد فقط من الخدمات التي يقدمها هذا النوع من التعليم، وكأنهم في الواقع ينفقون على هذه الخدمات".
وأضاف رئيس الجمعية المغربية لتحسين جودة التعليم، أنه "من جهة أخرى فالتعليم الخاص يستفيد، خاصة في السلك الثانوي، من أساتذة التعليم العمومي الذين يقدمون له خدمات جليلة تتم في الكثير من الأحيان على حساب جودة أدائهم في التعليم العمومي".
منافسة خاصة وعمومية
في هذا السياق، أوصى تقرير مجلس المنافسة إلى اعتماد آلية من شأنها الحد من نزوح أساتذة التعليم العمومي إلى المدرسة الخصوصية، معتبراً أن هذا ينعكس سلبياً على جودة العرض التربوي بصفة عامة.
ويذكر الكاتب العام الوطني للجامعة الوطنية للتعليم التوجه الديمقراطي، عبد الرزاق الإدريسي، أنه "في عهد وزير التعليم الراحل محمد الوفا، كان هناك قرار بأن لا يشتغل أساتذة التعليم العمومي في المؤسسات التعليمية الخاصة، فيما عقدت الحكومة مقابل ذلك اتفاقيات مع القطاع الخاص تنص على تكوين أساتذة في المدارس الخصوصية، فكوّنت الحكومة 10 آلاف إطار في البداية، ثم 25 ألفاً فيما بعد".
غير أنه بطبيعة الحال، وحسب المتحدث "المدارس الخاصة لم تشغل هؤلاء، لكون القطاع الخاص يبحث عن الربح، كما أن أساتذة القطاع الخاص ينتقلون للتعليم العمومي، هروباً من واقع هش إلى آخر أقل هشاشة".
وأضاف المتحدث أن "هذا الأمر حرك أرباب المدارس الخاصة للضغط على وزارة التعليم في عهد الوزير السابق رشيد بلمختار، الذي أصدر قراراً غير دستوري بمنع أطر التدريس بمدارسهم من اجتياز مباريات أساتذة التعليم العمومي".
الوزارة: لا نتدخل في تحديد الأسعار
مع بداية كل موسم دراسي، تتحرك الجمعيات المشتغلة في مجال التربية وحماية المستهلك، في إثارة مشكل ارتفاع التكاليف التي تتحملها الأسر لتدريس أبنائها في القطاع الخاص، فيما تبدي الوزارة الوصية تحفظاً من التدخل في تحديد أسعار "الخدمة" بين الأسر والمدارس الخاصة.
وأكد وزير التربية الوطنية والتعليم الأولي، خلال مؤتمر صحافي بمناسبة الدخول الدراسي يوم 6 سبتمبر/أيلول 2022 أن "القانون لا يسمح للوزارة بالتدخل في مسألة الأسعار التي تطبقها المدارس الخاصة"، مشيراً إلى أن "هناك تفاوتاً في الأسعار بين هذه المدارس".
في هذا الإطار، أفاد رئيس الجامعة الوطنية لجمعيات حماية المستهلك، وديع مديح، أن "المدارس الخاصة لها شقين: الأول بيداغوجي وتعليمي الذي تتحمل مسؤوليته وزارة التربية الوطنية، والثاني تجاري الذي رفضت وزارة التربية الوطنية أن تتحمل مسؤوليته، لكون المشرع المغربي لم يعطها حق التصرف في هذا الباب".
واعتبر مديح، في تصريح لـ"عربي بوست"، أن هذا الأمر "ترك الباب مفتوحاً على مصراعيه، وجعل هذه المدارس تبحث عن الربح الكبير، إذ إن المؤسسات التي ترفع كل سنة من أسعارها على المواطنين تفتقر لرسالتها في التربية والتعليم، وتنهج مسار المقاولة، همها الوحيد هو مراكمة الأموال على حساب المستهلكين".
لهذا "فالحكومة عندما فتحت الباب لهذا القطاع لم تضع حواجز لكي لا يمضي في هذا الطريق، إذ لا يمكن التحدث عن التعليم كأنه خدمة من الخدمات أو سلعة، ونشهد زيادات غير مبررة كل سنة"، يقول الفاعل في مجال حقوق المستهلك.
وأشار نفس المصدر إلى أنه "لا شيء من العوامل التي يتشكل منها القطاع تدعو للزيادات"، داعياً "وزارة الصناعة والتجارة لكي تتحمل مسؤولية التدخل من أجل تفعيل مقتضيات حماية المستهلك".