باتت مسألة جبال النفايات المتراكمة همّاً عالمياً تحتار الدول المتقدمة أين تذهب به، لا سيما النفايات الإلكترونية الخطرة التي فاقت بوزنها وزن سور الصين، العام الماضي.
وبعد أن كانت دول العالم الأول ترسل شحنات نفاياتها إلى بعض الدول في جنوب آسيا ودول نامية متعددة حول العالم، بدأت بعض الدول الآسيوية بإصدار قوانين تشريعية جديدة كيلا تتحول إلى مكبّ نفايات لتلك الدول، وما ينجم عن ذلك من مخاطر صحيّة وبيئية.
ومع تضاعف أعداد النفايات العالمية وازدياد خطورتها، تُرسل شحنات أكبر نحو إفريقيا، حتى إن بعض الأحياء باتت تُبنى وتتوسع قرب مقالب قمامة العالم الأول، لأنها صارت مركزاً لاستقطاب العمّال وحتى العائلات والأطفال المستعدّين للنبشِ بين مكبات النفايات.
هنا نظرة عن الدول الإفريقية التي تستورد النفايات من الدول المتقدمة، والتشريعات التي وضعت لأجل معالجة الأزمة، وماذا يحصل بأطنان النفايات التي تُوّرد وكيف يعيش السكان حولها.
نفايات العالم تتراكم
رغم أن مسألة إدارة النفايات الصلبة تشكل أزمةً عالمية بوضعها الحالي حتى، فإن النفايات متوقع لها أن تزيد لتصل إلى 3.4 مليار طن في عام 2050، في حال لم تُتخذ إجراءات عاجلة، وفقاً لتقريرٍ صادر عن البنك الدولي عام 2018.
ووفقاً للتقرير الصادر بعنوان "يا له من إهدار 2.0: نظرة على إدارة النفايات الصلبة في العالم حتى عام 2050″، يعني هذا الرقم ازدياداً بنسبة 70% عن معدل توليد النفايات السنوي في عام 2016 الذي وصل إلى 2.01 مليار طن، وسبب ذلك توسع المدن وتزايد عدد السكان.
ويأتي القسط الأكبر من النفايات هذه من البلدان مرتفعة الدخل، فبالرغم من أنها تمثل 16% من سكان العالم فقط، فإنها مسؤولة عن إنتاج أكثر من ثلث نفايات العالم (34%)، كما تولّد منطقة شرق آسيا والمحيط الهادئ ما يقرب من ربع نفايات العالم (23%).
في الواقع، تعتبر منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا المنطقة الأقل إنتاجاً للنفايات في العالم (129 مليون طن في 2016)، وبعدها إفريقيا جنوب الصحراء (174 مليون طن في 2016) وإن كان يتوقع لهذا الرقم التضاعف ثلاث مرات بحلول عام 2050 مع التنمية الاقتصادية وازدياد السكان.
وأخطر المستورد.. النفايات الإلكترونية السامّة
غزا التقدم التكنولوجي كل جوانب حياتنا، حتى إن نفاياتنا الإلكترونية لعام 2021 فقط فاقت بوزنها وزن سور الصين العظيم، وفقاً لتقديرات منتدى نفايات المعدات الكهربائية والإلكترونية (WEEE Forum).
للنفايات الإلكترونية خصوصيتها المميزة، فالعديد منها يحتوي على معادن وعناصر قيّمة ونفيسة، حتى إنّه يمكنك استخراج 300 غرام من الذهب من طنٍّ من الهواتف القديمة، ويمكن لإعادة تدوير هذه النفايات أن تدرّ الأرباح وتحمي البيئة.
تعتبر فئة الإلكترونيات (الأجهزة التي وصلت لنهاية عمرها التشغيلي) فئة النفايات الأسرع نموّاً بين النفايات البشرية، فقد وصلت إلى 53.6 مليون طن عام 2019، بزيادة 21% عن 2014، ويتوقع لها أن تستمر بالارتفاع لتصل لـ74 مليون طن بحلول 2030.
ولكن هذه النفايات من أخطر النفايات أيضاً، ويُقلق تهديدها السامّ قارة إفريقيا بما أن بعض الدول الإفريقية صارت وجهة لنفايات العالم الحديث الرقميّة.
وقد توجهت منظمة الصحة العالمية، في يونيو/حزيران 2021، لإصدار تقريرها التاريخي الأول للتحذير من أخطار النفايات الإلكترونية الحادّة، وأثرها الشنيع خاصةً على نمو الأطفال.
وزبدة التقرير تتلخص بأنّ أخطار المعالجة غير القانونية للأجهزة الكهربائية والإلكترونية القديمة تطال صحة الأطفال والمراهقين والأمهات الحوامل في جميع أنحاء العالم.
يأتي هذا التحذير خصوصاً لأن النفايات الإلكترونية عادةً ما تُشحن بكميات كبيرة من الدول المتقدمة إلى البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل بصورةٍ غير قانونية، حيث يقوم العمال غير الرسميين -بما في ذلك الأطفال والمراهقون- بالبحث بين النفايات وتفكيك الأجهزة أو استخدام المغاطس الحمضيّة لاستخراج المعادن والمواد القيمة منها.
يظهر الأثر الأكبر للنفايات الإلكترونية على الأطفال، بسبب طريقة امتصاص أجسامهم للملوثات، التي تعني تعرّضاً أكبر لها بالمقارنة مع حجمهم، ومع وجود أعضاء غير مكتملة النموّ، واختلاف عملية التمثيل الغذائي لديهم، فإنهم أقل قدرة من البالغين على التخلّص من المواد الضارة.
وتتراوح الآثار بين الولادات المبكرة والمواليد الموتى، بين زيادة معدلات اضطراب نقص الانتباه وفرط النشاط (ADHD)، والمشاكل السلوكيّة، والتغيرات في مزاج الطفل، وصعوبات التكامل الحسي، وانخفاض الدرجات المعرفية واللغوية.
وعلاوة على ما سبق، ضعف وظائف الرئة، والآثار التنفسية، وتلف الحمض النووي، واختلال وظائف الغدة الدرقية، وزيادة خطر الإصابة ببعض الأمراض المزمنة في وقتٍ لاحق من الحياة، مثل السرطانات وأمراض القلب والأوعية الدموية.
ووفقاً لواحدة من أكثر الدراسات تفصيلية في المجال، والتي نُشرت تحت عنوان "النفايات الإلكترونية في إفريقيا: تهديد خطير لصحة الأطفال" في المجلة الدولية للبحوث البيئية والصحة العامة، فقد أظهرت العديد من مدافن النفايات الإفريقية ارتفاعاً في مستويات عدّة معادن خطرة.
وتعاني الدول الإفريقية من الإهمال حتى على صعيد البحوث، فلا تزال الدراسات الموضوعة لأجل التحقق من الآثار الصحية في المواقع الأفريقية قليلة، إلا أنه الدراسات أكّدت أن المستويات المرتفعة من تلوث النفايات الإلكترونية في الماء والهواء والتراب والغبار والأسماك والخضراوات والمكوّنات البشرية (الدمّ والبول وحليب الثدي) يعني أن الخطر ليس مُحيطاً بالعمال فحسب، بل بعامة السكان والأجيال القادمة أيضاً.
لماذا تقبل الدول الإفريقية باستيراد النفايات الإلكترونية؟
تُعتبر النفايات الإلكترونية فرصة اقتصادية جيدة للعديد من الدول النامية، ولذلك تلجأ إلى استيرادها من الدول المتقدمة التي تتضاعف نفاياتها تلك باستمرار، وقُدّر أن قيمة المواد الخام من النفايات الإلكترونية في إفريقيا لعام 2019 بلغت 3.2 مليار دولار أمريكي.
كانت الصين المستورد الأكبر لنفايات الأجهزة الكهربائية والإلكترونية في العالم في السابق، إلا أنّها أصدرت قراراً رسمياً بحظر هذا النوع من الاستيراد عام 2000 لحماية صحة مواطنيها، ولأن لديهم ما يكفي من النفايات المحلية القابلة للتدوير.
وكانت بعض دول جنوب آسيا من أكبر مستقبلي قمامة العالم المتقدم بأنواعها، إلا أن ماليزيا وتايلاند وإندونيسيا فرضت قيوداً لحماية مصالح بلدانها أيضاً.
تعتبر الآن بلدان غانا ونيجيريا وتنزانيا المتلقّي الإفريقي الأكبر للنفايات الإلكترونية، ومن ضمن البلدان الأخرى كينيا والسنغال ومصر.
على سبيل المثال، تقول التقديرات إن مكب أغبوغبلوشي في غانا -والذي صار يُعتبر واحداً من أسوأ الأحياء الفقيرة تلوّثاً في العالم- وفّر سبل العيش لحوالي 4500 إلى 6000 عامل بشكل مباشر، وما يصل إلى 1500 آخرين بشكل غير مباشر، وإن غانا تحقق من 105 إلى 268 مليون دولار أمريكي سنوياً من المواد التي تُستحصل من النفايات الإلكترونية.
يقع مكبّ أغبوغبلوشي تماماً بجانب المساكن، ويهاجر العمّال لحيّ أُولد فاداما المجاور لرخص الإيجار وفرص العمل، وهو معروف عالميّاً بتدوير النفايات الإلكترونية. مصدر الصورة: جوجل إيرث
الأمر الآخر الذي يُسهم في ازدهار تجارة النفايات الإلكترونية واستيرادها في إفريقيا هو الافتقار للتنظيم والتشريعات الملائمة، فرغم أن التشريعات الوطنية المتعلقة بالنفايات الإلكترونية غطّت 71% من سكان العالم في عام 2019، فإنّ 13 دولة إفريقية فقط وجدت لديها تشريعات وطنية لتنظيم التخلّص من النفايات الإلكترونية وفقاً لتقرير المرصد العالمي للنفايات الإلكترونية 2020.
وهذه الدول هي الكاميرون ومصر وجنوب إفريقيا وجنوب تومي وبرينسيبي ونيجيريا وزامبيا وساحل العاج وغانا.
وحتى مع وجود التشريعات، تبقى أنشطة الاستيراد غير القانوني مستمرة لصعوبة إنفاذ القانون، فغالباً ما تجري عمليات إعادة تدوير النفايات الإلكترونية ضمن القطاع غير الرسمي، وبعيداً عن الإشراف الحكومي الملائم.
ولاستيراد النفايات الإلكترونية إلى إفريقيا أسباب أخرى، فأحد الأسباب في مصر مثلاً افتقار القمامة المحلية للعناصر اللازمة للصناعة، وفقاً لتصريح مستشار وزير البيئة السابق مجدي علام، لأن بقايا الطعام والمخلفات العضوية تحتل النسبة الأكبر في القمامة المصرية.
لكن إفريقيا لا تعيد تدوير أكثر من 0.1% من النفايات الإلكترونية التي لديها، وبذلك هي تتأخر عن باقي القارات بفارقٍ ملحوظ (آسيا تعيد تدوير 11.07% من نفاياتها الإلكترونية، مقابل 9.4% إعادة تدوير في الأمريكيتين).
وكانت شبكة العمل التابعة لاتفاقية بازل للأمم المتحدة لعام 1989 قد أثبتت أن إفريقيا تمثل الوجهة الأكثر شيوعاً لوصول نفايات الأجهزة الإلكترونية والكهربائية من أوروبا، في تقريرها الصادر تحت عنوان "ثقوب في الاقتصاد الدائري".
توصلت إلى هذه النتيجة بعد وضعها لـ314 وحدة تعقب بالـGPS ضمن أجهزة إلكترونية مستعملة في 10 دول أوروبية خلال أشهر معيّنة من عام 2017، ليتبين أن 64% من الأجهزة التي وجدت طريقها لخارج أوروبا وصلت إلى دول إفريقية نامية.
وهكذا، فإن النفايات الإلكترونية تُشحن إلى إفريقيا لتتراكم في مكبّات سامة، عوضاً عن إعادة تدويرها في الدول الغربية التي نتجت منها.
قرب مقلب نفايات أولوسوسون في لاغوس نيجيريا، وهو من أكبر مقالب النفايات في العالم، وقد توسّعت المدينة حوله.
زحف البلاستيك
عندما قررت الصين حظر استيراد النفايات الأجنبية -ولا سيما نفايات البلاستيك- في نهاية 2017، سارعت الدول المتقدمة لإيجاد "المكبّ" الجديد لنفاياتها من الدول النامية، خاصةً بعد أن كانت الصين المستورد العالمي الأكبر للعديد من أنواع المواد القابلة لإعادة التدوير.
وكانت الدول المتقدمة وذات المستويات العالية من إنتاج النفايات البلاستيكية تلجأ إلى بيع خردة البلاستيك لديها للدول الآسيوية، لأن شحن هذه النفايات حول العالم والتخلص منها في تلك الدول أسهل من معالجتها حيث نشأت.
شبّه الصحفي أنجيلو لو -الذي يعمل مع عدة منظمات دولية وإفريقية بما في ذلك منظمة السلام الأخضر- هذا السلوك من الدول المتقدمة بـ"العادات الاستعمارية القديمة" التي يصعب كسرها، إذ تتحمل الدول الإفريقية العبء الأكبر من أجل رفاه الدول الغربية، حتى ولو عنى ذلك تعرض السكان المحليين لمستويات التلوث العالية وآثار هذه النفايات المدمّرة على البيئة والمجتمعات المهمشة.
يُنتج البلاستيك على مستوى عالميّ بكميات هائلة أكبر بما لا يضاهى مما يذهب إلى إعادة التدوير، ووفقاً لبيانات الأمم المتحدة وصل إنتاج البلاستيك العالمي عام 2020 إلى 4 مليون طن، إلا أن إفريقيا لا تُنتج إلا 5% من ذلك المجموع -وفقاً لبيانات عام 2015- ولا تستهلك إلا 4% من الإنتاج العالمي.
يُنتج معظم البلاستيك في الصين وأمريكا وأوروبا الغربية، ويُستهلك هناك بمعظمه أيضاً، وتُرسل كميّات من النفايات البلاستيكية من البلدان المتقدمة بشكل رئيسي، بما في ذلك الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية إلى الدول النامية حول العالم، بما في ذلك بعض الدول الإفريقية مثل إثيوبيا والسنغال، وفقاً لتقرير منظمة الصندوق العالمي للطبيعة الصادر تحت عنوان "التلوث البلاستيكي في إفريقيا".
وكانت قد عُقدت اتفاقيات متعددة بين الدول لأجل معالجة مشاكل النفايات واستيرادها، بما في ذلك اتفاقية بازل وباماكو وستوكهولم وغيرها، وأتت هذه الاتفاقيات بعد حوادثِ إلقاء شركات غربية لنفايات سامة في مجتمعات محليّة، مثل حادث كوكو الشهير (ألقى رجال أعمال إيطاليون نفايات سامة في قرية صغيرة لصيد الأسماك في نيجيريا، مدّعين أن النفايات ستساعد المزارعين الفقراء هناك، ما أدى لانتشار التسمم والأمراض والموت بين السكان، ونزوح 500 شخص من المنطقة).
وكان آخر هذه الاتفاقيات في 2019، حين تبنّت حوالي 180 حكومة مجموعة من القرارات بشأن النفايات البلاستيكية تحديداً، واقتضى أحدها تعديل اتفاقية بازل لوضع التجارة العالمية في نفايات البلاستيك ضمن إطار منظم وملزم قانوناً.