تشهد العراق تزايداً في عمليات الاتّجار بالأعضاء البشرية في الفترة الأخيرة، نتيجةً لانهيار القوانين التي تُحاسب العصابات، واستمرار إفلاتها من العقاب، في ظل عدم قدرة المحاكم العراقية على معاقبة السماسرة الكبار ومحاولات اختراقهم للمؤسسات الحكومية وإخفائها لأدلة وهويات المتورطين.
تفاقمت أزمة هذه التجارة الخطيرة بعد سنوات طويلة من الصراعات السياسية والحروب التي خاضها العراق، والتي خلقت مشاكل اقتصادية خانقة وارتفاع حالات الفقر بين السكان، الذين اضطروا لبيع أعضائهم البشرية للتخفيف من معاناتهم المعيشية المأساوية.
عصابات الاتجار بالبشر منظمة
كشف المرصد العراقي لضحايا الاتجار بالبشر عن إحصائيات خطيرة بين أعوام 2019 – 2022، بوجود أكثر من 40 عصابة تمارس الانتهاكات وتستغل أوضاع شرائح المجتمع الفقيرة، وتستدرجهم عبر طريق مواقع التواصل الاجتماعي.
يقول مدير المرصد حسن الشنون لـ"عربي بوست": "حالات الاتجار بالأعضاء البشرية تحولت إلى ظاهرة في المجتمع العراقي، خصوصاً في المناطق العشوائية التي يسودها الفقر والجوع، فشبكات الجريمة ازدادت خلال السنوات الثلاث الماضية، ووصلت في هذا العام إلى 40 شبكة، تسيطر على عمليات شراء وبيع الأعضاء البشرية في مناطق واسعة من جنوب ووسط وشمال العراق".
وأضاف الشنون: "معظم شبكات الاتجار بالأعضاء البشرية تتخذ من مدن إقليم كردستان شمال العراق ملاذاً آمناً في ممارسة جرائمها، من خلال استدراج الضحايا وسرقة أعضائهم، أو شرائها بأرخص الأسعار، ثم بيعها لأصحاب الأموال من التجار والمشاهير الذين بحاجة إلى أعضاء سليمة، وأبرزها "الكلى" التي تُعتبر تجارة رائجة ومربحة لعصابات الاتجار بالأعضاء البشرية".
وأشار إلى أنه "لم تقتصر هذه الشبكات الإجرامية على الاتجار بالأعضاء البشرية، بل وصلت تجاوزاتها إلى استقطاب الشباب من الذكور والإناث من دول بإفريقيا، ثم يتم إدخالها نحو الأراضي العراقية بطرق ملتوية غير شرعية، ثم يتم إجبارهم على التوقيع للعمل بأجور زهيدة مقابل عدم تسليمهم للشرطة، فيعمل هؤلاء خارج ساعات العمل، ويتم استغلالهم ومعاملتهم بقسوة وحجز جواز سفرهم، لمنعهم من مغادرة البلاد".
إفلات المتورطين من العقوبات
بحسب باحثين مختصين في حقوق الإنسان تحدثوا عن أكبر عوامل تفاقم أزمة الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية، وهي أزمة إفلات المتورطين من العقاب، وإطلاق سراحهم بعد التحقيق في السجن، لأنهم يمتلكون أجندات سياسية، ويضغطون فيؤثرون على محاكم التحقيق.
وبحسب القاضية زينب التميمي فقد صرّحت لـ"عربي بوست" بالقول: "هناك قوانين لمواجهة هذه الجرائم، ومنها قانون مكافحة الاتجار بالبشر المرقم 28 صدر في عام 2012، وهو مكون من 14 مادة، وقد جَمَع مواد متفرقة من قانون العقوبات ومكافحة والمخدرات ورعاية الأحداث، إلا أن مثل هذه الجرائم طارئة على المجتمع العراقي، وهي تحتاج إلى التوعية والتعريف عبر وسائل الإعلام والوكالات الإخبارية، بالإضافة إلى حماية المحامين والحفاظ على أرواحهم عندما يتسلمون دعوى للدفاع عنها".
وشرحت التميمي: "القانون جاء بعقوبات تصل إلى الحبس المؤبد في المادة 6 منه، وغرامات تصل إلى 25 مليون دينار (18 ألف دولار)، ولكن تطبيق هذا القانون يحتاج إلى جهود استخبارية مهمة، للكشف عن خارطة المجرمين ومن يعطيهم الأوامر، وما هي الأحزاب أو الجهات المسلحة التي تقف وراءهم وتدفع الكفالات المالية لإخراجهم من السجن".
قصة ضحية بعد فوات الأوان
التقى مراسل موقع "عربي بوست" مع أحد الضحايا في العاصمة بغداد، واسمه حسين أبو فاضل، يعمل سائقاً لشاحنة نقل، والذي سَرَد قصته قائلاً: "عبر إحدى مجموعات "فيسبوك"، كتبتُ مناشدة للحكومة العراقية كي تساعدني بمبلغ مالي من أجل إجراء عملية لابني الصغير المصاب بالسرطان "Cancer"، وبعد أيام قليلة وصلتني رسالة من إحدى الحسابات الوهمية، ثم بعد الحديث المتواصل، قابلتُ رجلاً وصف نفسه بأنه تاجر مستحضرات تجميل، ثم أبلغني بأنه يمكنه مساعدتي في حال بعتُ إحدى كليتي".
وتابع أبو فاضل: "استدرجني التاجر وأقنعني بالسفر من بغداد نحو السليمانية برفقة شاب من جماعته، ووصلت إحدى مستشفيات السليمانية (الواقعة شمالي العراق)، حيث استقبلني 3 أشخاص، ثم أجريت عملية إزالة "الكلى" بمبلغ 15 مليون دينار عراقي (10 آلاف دولار أمريكي)".
وأكمل قصته: "خذلتني الحكومة العراقية، وسرق أحزاب السلطة حقوق الناس، لذلك اضطررتُ لبيع كليتي من أجل معالجة ابني الصغير، وصرتُ ضحية العصابات الذين استغلوا حاجتي للمال، في الوقت التي لم تُساندني المنظمات الإنسانية".
وأشار أبو فاضل إلى "ضرورة مساعدة الفقراء، وتوعية الناس لعدم الوقوع في خطأ بيع أعضائهم البشرية، لما سيؤدي إلى انهيار حياتهم وموتهم البطيء بمرور السنوات".
إجراءات السلطات الأمنية
في مقابلة أجراها فريق موقع "عربي بوست" مع مدير قسم مكافحة الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية في مديرية مكافحة إجرام بغداد، العميد شلال، تحدث بالقول: "تمتلك القوات الأمنية العراقية خططاً استخبارية عن طريق عناصر يرصدون حالات الاتجار بالأعضاء البشرية، ويراقبون المستشفيات المتخصصة بالعمليات الجراحية، كما لدى وزارة الداخلية أطباء مجندون في القسم العسكري يجمعون المعلومات ويتعقبون الحالات المرضية الغامضة".
كما أضاف شلال: "تُشّكل مكاتب التحقيقات فريقاً من المرابطين قرب المستشفيات والمراكز الصحية، بالإضافة لتعقب خرائط مواقع التواصل الاجتماعي، وما يُنشر على المنصات، وهذه المواقع لا تتضمن الأسماء الواضحة والصريحة، بل تحمل أسماءً وهمية، ويتم إدارتها والترويج لها عن طريق مختصين في التسويق وإقناع الناس بتحسن حالتهم الاجتماعية عن طريق بيع أعضائهم البشرية".
ولفت في تصريحه: "لدينا ضبّاط يتقمصون أدواراً مختلفة، ويتواصلون مع المروجين على تطبيق "فيسبوك"، ثم يتفقون على كيفية بيع الأعضاء البشرية بأسعار تتراوح بين 10 – 15 ألف دولار، حيث يتعاون الضباط مع فريق التكنولوجيا والتعقب الاستخباري بهدف الوصول إلى التجار وسماسرة العصابات".
وأفاد شلال: "على الرغم من كل تلك الإجراءات الأمنية إلا أن شبكات الاتجار بالأعضاء البشرية والبشر يستمرون في جرائمهم، ولم تتمكن الأجهزة الأمنية من القضاء عليهم بالكامل".
بحسب العديد من خبراء القانون فقد وصفوا إشكالية التشريعات المتعلقة بالاتجار بالبشر، بأنها ما زالت بحاجة إلى تعديل، ويجب أن يراعي القانون الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي تدفع الضحايا إلى أيدي المجرمين المنظمين. بالإضافة إلى ذلك، تستدعي الضرورة إلى إيجاد سُبل قانونية وأمنية لمعالجة مشكلة غياب محاكم متخصصة تتعامل مع هذه الأنواع من الجرائم، ما يصعّب الوصول إلى الضحايا والمتورطين.
ميليشيات تحمي تجار الأعضاء البشرية
الاتجار بالأعضاء البشرية منتشر في بعض المستشفيات التي تجري فيها عمليات زرع الأعضاء، وهذا ما أثبتته التحقيقات الأمنية الحكومية، والتي وصلت للأدلة التي تُثبت وجود سماسرة كبار ينتمون لجماعات مسلحة تمارس عمليات الاتجار بالأعضاء البشرية والبشر، عن طريق بيع الأعضاء، أو استمالة الفقراء واستغلالهم بأبشع الطرق لبيع أعضائهم البشرية خارج العراق.
وفقاً للمستشار الطبي في وزارة الصحة الدكتور رياض المحمدي، الذي تحدث لـ"عربي بوست" فقد قال: "عندما تصلنا جثث الأشخاص الذين ماتوا على إثر بيعهم لأعضائهم البشرية، فنحن نُجري التحقيقات مع ضبّاط التحقيق في وزارة الداخلية، ونتابع القضايا، وفي أغلب الأحيان نكتشف وجود شخصيات حزبية ذات أجنحة مسلحة، هي من تدير شبكات الاتجار بالأعضاء البشرية".
وأضاف المحمدي: "بعد التحقيقات تقبض الشرطة على التجار المتورطين بجرائم الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية، وتصل إلى القيادات الكبرى، ثم نتعرض لتهديدات وضغط كبير من مسلحين ينتمون لأحزاب سياسية قوية، لمنعنا من الإبلاغ عن الحالات التي تصلنا، يتدخل هؤلاء المسلحون كي يساهموا في إفلات المتورطين من السجون، بعدما اعترف الجُناة بجرائمهم، لذلك نحن بحاجة إلى دعم أمني وقضاء قوي ومحاكم رصينة تحاسب الجماعات المسلحة التي تنتهك حقوق الإنسان".
صعوبات تواجه وزارة الداخلية
تحاول القوات الأمنية العراقية فك شفرة العصابات المنظمة وشبكات الاتجار بالبشر والأعضاء البشرية، وبحسب وزارة الداخلية فإنها استطاعت القبض في منتصف عام 2022 على 6 شبكات في محافظة بغداد، و3 شبكات في البصرة، و4 أخرى في أربيل، ولكن وعلى الرغم من الجهود الاستخبارية إلا أن هذه الظاهرة الخطيرة تتصاعد بوصاية من بعض الجماعات المسلحة التي تستغل مشاكل المنكوبين من الشعب وتمارس تجارة تدرّ عليها أموالاً ضخمة.
بهذا الصدد تحدث الناطق الرسمي باسم وزارة الداخلية "خالد المحنا" في تصريح لـ"عربي بوست" وقال: "تواجه الوزارة عراقيل كبيرة بسبب عدم الإبلاغ عن هذه الحالات من قبل الضحايا، وهناك مستشفيات لا تلتزم بمعايير زراعة الأعضاء البشرية، وتتلاعب بالوثائق والتقارير، وتزور المعلومات".
وتابع المحنا: "الابتزاز الإلكتروني يُضاف للصعوبات الجمّة التي تواجهها الحكومة العراقية، فممارسات استدراج المراهقين والنساء ثم الاتجار بهم في الجنس يُعتبر أيضاً خطراً كبيراً يهدد تركيبة المجتمع، لذلك من الضروري تكثيف الجهد الاستخباري، والتعاون مع المنظمات الإنسانية والحقوقية لإيجاد حل يوقف هذه التجارة المدمرة للمجتمع".