وضع محافظ البنك المركزي المصري السابق طارق عامر حداً لوجوده على رأس الجهاز المصرفي، وقدم استقالته بعد أن قضى في منصبه سبع سنوات شهدت كثيراً من التقلبات المالية والاقتصادية، لكنّ أسباباً عدة تقف خلف قرار الاستقالة، عجّل بها التعديل الوزاري الأخير الذي شهدته مصر والذي اعتبره الرجل تحميلاً له عن الأزمة الاقتصادية دون النظر إلى أخطاء ارتكبتها المجموعة الاقتصادية في الحكومة بعد أن أبقى التعديل على كل عناصرها.
ما ينذر بمزيد من الأزمات المالية بالبلاد مع وجود عجز كبير في الحساب الجاري وضعف تدفقات رأس المال، إضافة إلى أعباء مدفوعات سداد الديون.
جاءت استقالة عامر قبل يوم من اجتماع لجنة السياسة النقدية التي ستقرر رفع قيمة الفائدة أو تثبيتها، في وقت تواجه فيه الحكومة المصرية صعوبات عديدة في مفاوضاتها مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض جديد، مع إشارة تقارير دولية إلى ضغوط عديدة يمارسها الصندوق لتخفيض سعر الجنيه مقابل الدولار بنسبة تزيد على 30% لتصبح قيمة الدولار أكثر من 22 جنيهاً.
خلافات وزارية أدت لاستقالة طارق عامر
مصادر مطلعة بالبنك المركزي في حديث مع "عربي بوست" أرجعت استقالة عامر إلى رفضه تغول صندوق النقد الدولي داخل الجهاز المصرفي، وأن مزيداً من تخفيض سعر الجنيه سيتحمل نتائجها سياسيًا، بعد أن تصدر مشهد الترويج للتعويم الأول للجنيه في عام 2016 والثاني قبل ثلاثة أشهر، ولاحظ أن الحكومة تحاول تبرئة ذمتها من التدهور الملحوظ في سعر صرف الجنيه.
وأضاف المصدر ذاته أن عامر كان قد جهّز استقالته قبل أيام من التعديل الوزاري الأخير الذي شهدته مصر، لكنه لم يشهد تغييراً على مستوى وزراء المجموعة الاقتصادية وهي المالية والتخطيط والتعاون الدولي، ما يُعنى أن القيادة السياسية لديها تصور بأن السياسات المصرفية هي من قادت للتدهور الحالي، وأنه لا توجد مشكلة في طبيعة إدارة الأزمات الاقتصادية من داخل الحكومة، فوجد أنه من الأفضل ترك منصبه في ظل خلافات غير ظاهرة تكررت أكثر من مرة بينه وبين وزير المالية محمد معيط.
مصادر مقربة من وزير المالية سرّبت نبأ استقالة طارق عامر تزامناً مع التعديل الوزاري، وبحسب المصدر ذاته، فإن مصدر تلك المعلومات كان بالأساس هاني توفيق، الخبير الاقتصادي وهو شقيق وزير قطاع الأعمال العام السابق هشام توفيق الذي غادر منصبه في التعديل الوزاري الأخير، وبدا واضحًا أن التعامل مع الهيئات الحكومية الاقتصادية والجهاز المصرفي يشوبها كثير من الأزمات التي لا يريد أن يتحمل عامر تبعاتها.
وكان البنك المركزي المصري قد نفى قبل أيام استقالة طارق عامر، تزامناً مع الأنباء الصادرة عن إجراء تعديل وزاري، وكشف جمال نجم، النائب الأول لمحافظ البنك المركزي المصري حينها، عدم صحة ما تردد عن تقدم محافظ البنك المركزي باستقالته من منصبه، مؤكداً أن فترة توليه منصبه تنتهي في نوفمبر من العام المقبل.
لوبيات رجال الأعمال
أوضح خبير اقتصادي -رفض ذكر اسمه- أن محافظ البنك المركزي وقع في جملة من الأخطاء التي ضاعفت حجم الانتقادات الموجهة له على وجه التحديد من لوبيات غرف الصناعة بعد قراره وقف التعامل بمستندات التحصيل في كافة العمليات الاستيرادية، بحجة ترشيد وضبط الاستيراد والتي تسببت في أزمة شح كثير من المستلزمات والمنتجات الأساسية، ما قاد لارتفاع أسعارها.
ولاقى قرار "المركزي" اعتراضًا من عدد من منظمات الأعمال، منها اتحاد الصناعات، وجمعية رجال الأعمال المصريين، والاتحاد العام للغرف التجارية، بينما تمسّك البنك المركزي في المقابل بموقفه من تطبيق القرار، وهو ما دفع هذه الجهات لمخاطبة رئيس مجلس الوزراء.
وبدا القرار -وفق الخبير الاقتصادي-منعزلاً عن الحالة الصناعية المصرية التي لم يحدث فيها أي تطورات تقود للاعتماد على المنتج المحلي، واتخذ قراره دون غطاء سياسي أو اقتصادي يمكّنه من تجاوز آثاره، ما قاد في النهاية لتدخل رئيس الجمهورية باستثناء مستلزمات الإنتاج والمواد الخام من فتح الاعتمادات المستندية بالبنوك قبل عملية الاستيراد، والعودة إلى النظام القديم من خلال مستندات التحصيل.
وتضمن القرار ذاته تشكيل مجموعة عمل برئاسة رئيس مجلس الوزراء، وعضوية كل من محافظ البنك المركزي، ووزير المالية، ووزيرة التجارة والصناعة، وجهات الاختصاص الأخرى، للقيام بالمتابعة الدورية والتقييم المنتظم لمنظومة إجراءات الاستيراد ومدى تلبيتها لاحتياجات عملية الإنتاج، لكن من الواضح أن الحكومة فوجئت بإصدار البنك المركزي قراراً جديداً في أبريل الماضي بمنع قبول موارد النقد الأجنبي غير معلومة المصدر أو التي حصل عليها من شركات الصرافة، في العمليات الاستيرادية، وهو ما أجج الأجواء بين الطرفين.
تغوّل الجهاز المصرفي على الهيئات الحكومية
وأوضح المصدر لـ"عربي بوست" أن المجموعة الاقتصادية بالحكومة لاحظت أن الجهاز المصرفي أصبح متحكماً بشكل أكبر في قراراتها وتوجهاتها، عكس ما كانت عليه الأوضاع قبل عقد تقريبًا، وأن البنك المركزي أصبح لديه صلاحيات واسعة في التحكم بمجريات الاقتصاد الكلي، وهو أمر أزعج دوائر حكومية وأجهزة سيادية سعت لإحداث توازن في القوى عبر ترك الخلافات تتصاعد دون أن تتدخل.
ولفت إلى أن تلك الدوائر رأت أن فلسفة البنك المركزي التي اعتمدت على الودائع الدولارية والأموال الساخنة لدعم صمود الجنيه في مقابل العملات الأجنبية لم تكن سليمة، وبُنيت على أوضاع داخلية دون مراعاة لأي تطورات خارجية، وبالتالي فإن الاقتصاد المصري تعرض لهزات قوية مع الإغلاق العالمي الذي تزامن مع انتشار فيروس كورونا، وتضاعفت أزماته مع الحرب الأوكرانية.
وتسبب رفع أسعار الفائدة في أمريكا نتيجة التأثيرات الاقتصادية للحرب الأوكرانية في موجة خروج الاستثمارات والأموال الساخنة من مصر وغيرها واتجاه المستثمرين للدولار كملاذ آمن مقارنة بالأسواق الناشئة، وقدر رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي قيمة الأموال الساخنة التي خرجت منذ بداية العام من مصر بـ 20 مليار دولار.
القروض أحد أسباب الخلاف مع الحكومة
وحسب مصادر في البنك المركزي، فإن القروض التي حصلت عليها الحكومة المصرية خلال السنوات الماضية كانت سبباً في نشوب أزمات بين عامر والمجموعة الاقتصادية وتسببت في خسائر فادحة بالاقتصاد المصري، لأن سياسات البنك قامت على توفير العملة الصعبة كاحتياطي نقدي في مقابل منح الوزارات أموال تلك القروض بالجنيه المصري، وهو ما خلق ما يشبه الفقاعة الفارغة التي بدت فيه العملة المصرية متماسكة، لكن يحيط بها قدر كبير من الهشاشة.
ويترجم متابعون الرسالة التي أرسلها إلى الشاعر والكاتب فاروق جويدة ونشرها على حلقتين بصحيفة الأهرام الحكومية، يومي السادس والسابع من أغسطس الجاري، تحت عنوان "رسالة من طارق عامر" بمثابة صرخة أخيرة للدفاع عن قراراته عبر تحميل جهات أخرى تشترك معه في التدهور الاقتصادي المسؤولية كاملة بعد أن وجد نفسه وحيداً في وجه انتقادات متتالية.
وتضمنت الرسالة تأكيد عامر أن الإعلام المصري تداول في الفترة الأخيرة السياسات النقدية والمالية وكال الاتهامات والانتقادات للاقتصاد المصري، ويرى أن "الصورة مشوشة للمواطن وأن الموضوعات لا يتم تناولها بالعمق الكافي والمعرفة المطلوبة"..
رسالة ذات طابع نقدي للحكومة
واستفاض عامر في نقض سياسات اقتصادية حكومية على مدار عقود ماضية، ملمحاً إلى استمرارها للوقت الحالي لكن دون أن يعلن ذلك بشكل صريح، وضرب أمثلة بـ"بيع شركات الدولة للقطاع الخاص، وفي بعض الأحيان تمويل هذا البيع من البنوك المصرية، وهذا ما أوقفه البنك المركزي بقراراته في عام 2005″.
وتطرق إلى السياسات المالية، قائلاً: "بسياسات مالية مصاحبة لسياسات خطيرة في التجارة الخارجية انهارت الصناعة والزراعة حتى وصل الوضع إلى أن مصر أصبحت تستورد احتياجاتها الضخمة من الغذاء من الخارج، وهذا الضعف الاقتصادي تحول إلى اعتماد تام على الخارج، وأصبح المجتمع متعوداً على هذه السلع وهذا النمط من الاستهلاك، لذا أصبح من اللازم على الدولة توفير احتياجاته وأصبحت مستويات".
واعتبر الخبير الاقتصادي ورئيس مجلس إدارة مؤسسة الأهرام الحكومية سابقًا، أحمد السيد النجار، أن رسالة عامر أفضل ما فعله الرجل، وأفضل ما خرج عن أحد رجال النظام الحاكم منذ عقود، وأنه قام بإدانة واضحة للسياسات التي أفقرت الطبقة الوسطى والفقراء وصنعت ثروات أسطورية لمحاسيب النظام من خلال خصخصة الأصول العامة والاحتيال على المال العام، لافتاً إلى أنه بغض النظر عن كونه شريكاً في تلك السياسات من عدمه، فإن الاعتراف يكشف للمجتمع بؤس وفساد تلك السياسات التي يُعاد إنتاجها وبالذات خصخصة الأصول العامة.
وتابع قائلاً: "أحد الذين يقصدهم عامر من مروجي كل ما تعرف به الرأسمالية العالمية لتحقيق مصالحها على حساب الشعوب الأخرى لا يكف عن المطالبة بتخفيض سعر صرف الجنيه مقابل الدولار، وتخفيض سعر الفائدة، دون أن يكلف خاطره بالنظر إلى سعر تعادل القوى الشرائية بين الجنيه والدولار وهل يستوجب الأمر المزيد من تخفيض الجنيه أم لا، ودون أن يهتم أصلاً بسعر الفائدة الحقيقي الذي من المفترض أن يكون إيجابياً، فهو غير معنيّ بحقوق القطاع العائلي الذي تعود إليه نسبة 81,2% من إجمالي الودائع في الجهاز المصرفي حسب النشرة الإحصائية الشهرية للبنك المركزي (يونيو 2022)".
الاعتمادات المستندية.. الأزمة التي قسمت ظهر عامر
لكنّ معارضين لسياساته المالية، يرون أنه "لم يستطع السيطرة على التضخم، وفشل كذلك في الحفاظ على الاحتياطي الدولاري في البنك المركزي أو تنميته، وجعل رصيد البنوك التجارية من العملات الأجنبية سالب 305 مليارات جنيه، أي أنه كان يكشف موقف البنوك، وأن قراراته في الاعتمادات المستندية أربك الاستيراد تماماً، حتى زادت سلعة مثل السيارات لحدود جنونية لأنها أصبحت شحيحة جداً بالأسواق".
وتراجع احتياطي مصر من النقد الأجنبي بنحو 20% إلى 33.14 مليار دولار هذا العام، بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية وتدفقات رأس المال الخارجة وتكاليف الاقتراض المتزايدة، وهو ما يدفع الحكومة لمزيد من عمليات الاقتراض الخارجي لتعويض خسائرها.
كما تراجعت قيمة الجنيه المصري مقابل الدولار بنحو 22% منذ مارس الماضي، واستقر سعر صرف الجنيه أمام الدولار الأسبوع الماضي عند 19.17 جنيه للدولار، ليقترب من أدنى مستوى قياسي له في ديسمبر 2016 حين بلغ 19.54 جنيه للدولار.
وبلغ الدين الخارجي لمصر أعلى مستوياته على الإطلاق وارتفع بنسبة 17% على أساس سنوي، ليصل إلى 157.8 مليار دولار في ثلاثة أشهر من يناير إلى مارس.
وفي وقت سابق، كشف تقرير لبنك "إتش إس بي سي" عن الحالة المالية للبنك المركزي المصري ووضعية العملة المحلية، منوهاً إلى تأثير الصفقات مع صندوق النقد الدولي على اقتصاد البلاد.
وأوضح التقرير الذي كتبه الخبير الاقتصادي، سايمون ويليامز، وجود عجز كبير في الحساب الجاري، وضعفٍ في تدفقات رأس المال، وتدهور للميزانية العمومية، إضافة إلى أعباء مدفوعات سداد الديون، ملمحاً إلى أن ميزان المدفوعات تحت ضغط كبير فيما بدا الجنيه المصري عرضة للخطر.
ولفت ويليامز إلى أن صفقة صندوق النقد الدولي المدعومة من الخليج من شأنها أن تسهل الانتقال المنظم، حتى بتكلفة، إلا أن تأخيرها مكلف أكثر.
وتم تعيين طارق عامر محافظاً للبنك المركزي في 27 نوفمبر 2015، وهو نجل شقيق المشير عبد الحكيم عامر وزير الحربية المصري الأسبق، ونجل المهندس حسن عامر رئيس مجلس إدارة نادي الزمالك السابق، وكان يشغل رئاسة مجلس البنك الأهلي المصري.
وجاءت استقالة عامر من منصبه قبل أكثر من عام على انتهاء ولايته الثانية في نوفمبر 2023 وبعد مرور 7 سنوات من توليه منصب المحافظ خلفاً لهشام رامز الذي تقدم باستقالته هو أيضاً قبل شهور قليلة من انتهاء مدته.