عشر سنين كاملة مرّت على تأسيس مخيم الزعتري للاجئين السوريين في الأردن، بعد أن أُقيم على عجالة للتعامل مع دفق اللاجئين القادم عبر الحدود، ليصبح الآن واحداً من أكبر مخيمات اللاجئين في العالم.
نما المخيم، استُبدِلت خيمه بمآوٍ ثابتة مُسبقة الصنع، وافتُتحت الأسواق والمتاجر، ودخلت الطاقة الشمسية والمحافظ الإلكترونية، ورأى أكثر من 20 ألف طفلٍ النور بين كرفانات الصفيح المقوّى والحديد.
يأمل اللاجئون السوريون في العودة إلى ديارهم في أقربِ وقت، لكن حالهم كحال اللاجئين الفلسطينيين في سوريا ولبنان والأردن، يجد السوريون أنفسهم عالقين في وضع المؤقت دون أيّ توقعات بالتغيير في المدى المنظور.
نظرنا في "عربي بوست" إلى ثلاثة نماذج لمخيمات لجوءٍ من أنحاء مختلفة من العالم (الهند وتنزانيا وكينيا)، لمقارنة تعامل الدول المضيفة مع لاجئيها وما حلّ بالأجيال الحديثة التي ترعرت ضمن هذا الظرف والمسمّى.
تتراوح أعمار المخيمات التالية بين 30 و70 عاماً، ويظهر التباين جليّاً بين مآلات سكانها وأحوالهم الحاليّة بعد عقودٍ من اللجوء، تبعاً لصرامة القوانين ونوعية الحقوق التي تمنحها الدول للاجئين أو تمنعها، فبينما وجد بعض اللاجئين طريقهم إلى خارج حياة المخيم وبنوا لأنفسهم نوعاً من الحياة، ما يزال آخرون محبوسين ومهدّدين بالترحيل مثل لحظة وصولهم الأولى.
مخيم كوبر غرب البنغال
قد يكون هذا المخيم أحد أقدم مخيمات اللجوء الباقية حتى الآن في العالم، ويعود تاريخ إنشائه إلى فترة تقسيم الهند عام 1947.
بعد الحرب العالمية الثانية، ضعف نفوذ بريطانيا وقررت أن تعيد للهند استقلالها، بعد قرابة القرنين من الاستعمار البريطاني وحركات النضال الهندية.
لكن هذا الاستقلال لم يحصل بسلاسة؛ إذ إن بريطانيا رسّمت الحدود لتترك وراءها مقاطعات منفصلة معتمدة على أساس تمركز الأغلبيات الدينية الهندوسية والمسلمة، وفي غضون خمسة أسابيع جرى تقسيم شبه القارة الهنديّة بالكامل وخروج الحكم البريطاني تاركاً وراءه بلاداً مؤججة بالخلاف.
لم يكن الهنود ولا الباكستانيون راضين عن خريطة التقسيم الجديدة، واندلعت أعمال العنف بين الهندوس والمسلمين متسببة بمقتل نصف مليون إلى مليون شخص على الأقلّ، ونزوح 12 مليون لاجئ على الأقل بين الدولتين.
وهكذا بقي مخيم كوبر واحداً من الشواهد على ما فعله التقسيم بشبه القارّة؛ إذ استقبل المخيم حينها عدداً كبيراً من الهندوس الذين فرّوا من ولاية البنغال الشرقية المسلمة (بنغلادش الآن) عبر الحدود، إلى ولاية البنغال الغربية في الهند.
مرت أجيال متعاقبة على المخيم؛ إذ مضى على انتقال اللاجئين إليه أكثر من 70 عاماً، وكان المخيم عبارة عن ثكنة عسكرية في الحرب العالمية الثانية، وقد خصصت الحكومة الهنديّة هذه الأراضي المعزولة لهم ضمن منطقة ناديا البنغاليّة.
ما يزال مخيّم كوبر موطناً لأكثر من 23 ألف شخص، وفقاً للتعداد الحكومي الهندي في 2011، بنسبة أكثر من 8.5% منهم من الأطفال تحت السادسة، و21% نسبة انتشار الأمية بين المقيمين، بالإضافة إلى نسبة بطالة عالية وصلت إلى 61% من سكان المخيم.
عندما وصل اللاجئون إلى أراضي الهند كانت لديهم آمالهم ببدء حياةٍ جديدة هنا في الأراضي المستقلّة حديثاً، وعندما بدأوا ترتيب أمورهم في أراضي المخيم كانوا يتعاملون مع الأمر على أنه "وضع مؤقت"، لكن المخيم آل إلى النسيان.
نادراً ما يُلقى الضوء على حال هؤلاء اللاجئين في وقتنا المعاصر، حتى إنّ الكثير من الهنود لا يعرفون بوجود مخيم "العبور" هذا.
ووفقاً لمقابلاتٍ أجرتها صحيفة الأوبزرفر مع بعض سكان المخيم عند دخولهم في الستين عاماً من اللجوء، فلقد مات أغلب الأفراد من جيل أول الواصلين، وبعضهم قضى قبل أن يحقق حلمه في الحصول على جنسية أو عمل، ومنهم من لم يجرؤ على مغادرة المخيم للخوف من الترحيل وأمضى عمره كله على هذه الشاكلة.
وقابلت الأوبزرفر أفراداً من الجيل الثاني، الذي وجدوا أنفسهم لا يزالون بصفة اللاجئين حالهم حال أهاليهم الآتين من عقود، فيما حمل البعض تصريحاً هنديّاً مختوماً بختم مخيم كوبرز، ولم يستطع آخرون الحصول على حقهم في التعليم.
ورغم أن كوبرز لم يعد يظهر على هيئة مخيّم فعلية بزوال السياج منذ أمدٍ بعيد، إلا أن الأثر الاقتصادي للانتقال واللجوء هو الأبرز، فلا يزال الكثيرون يعيشون على المعونات الحكومية، ويعتمد الأغلبية على عمل "المياومة" أو أيّ عملٍ بأجور متدنية قد يستطيعون إيجاده.
ظاهريّاً لم يعد المخيّم يشبه أيّاً من مخيّمات اللجوء التي نتخيلها عند استحضار الكلمة، فلا هو مسيّج أو محدّد بحواجز، ولا فيه حرّاس ولا مراكز تابعة للأونروا أو غيرها من منظمات اللاجئين.
أصبح المخيّم حالياً أقرب لأي قرية هندية شائعة، لكن حالة اللجوء وأثره باقية في وضع الناس أنفسهم، من تزايد الفقر والبطالة والحرمان من الأوراق والملكية.
وكانت الحكومة الهندية قد اتخذت خطوات عدة في ستينيات القرن الماضي لإعادة تأهيل اللاجئين في المنطقة لتخفيف العبء، مُرسلة إياهم إلى مناطق أخرى للاستيطان في ولاية بنغال الغربية؛ مثل أندامان ودانداكارانيا.
تحسّنت أحوال اللاجئين الذين انتقلوا لمناطق مجّهزة لإعادة التأهيل والسكن، وبدأوا بالاندماج وإعادة بناء حياتهم بعد عمليات تقنين امتدت لعقود بالنسبة للبعض، فيما وجد المتبقون منهم ومن رفض الانتقال، وجدوا أنفسهم محرومين من أغلب الحقوق.
وتنقل صحيفة الأخبار البنغلادشيّة عن رئيس مجلس إدارة المخيم شيبو باين وصفه لحالة القلق التي تعتري سكان المخيم المتبقين إثر حوادث العنف الموجهة ضد اللاجئين القادمين إلى بعض الولايات، واستمرار شعور البعض بالرعب وعدم الاستقرار رغم مرور كل تلك السنين.
مخيم كاتومبا تنزانيا
يُعدّ مخيم كاتومبا واحداً من أقدم المخيمات في العالم؛ إذ يعود تاريخه إلى عام 1972، حين عبر الملايين من المواطنين البورونديين الحدود إلى تنزانيا هرباً من بطش حكومتهم بمواطني الهوتو، وتبعه سريعاً إنشاء مخيمات متعددة أخرى.
في الواقع، لتنزانيا تاريخ طويل من استقبال اللاجئين من بوروندي وجمهورية الكونغو الديمقراطية وموزمبيق، ابتدأ من تدفق اللاجئين البورونديين في 1960، وتلاها موجات نزوح كبيرة في أعوام 1972 و1988 و1993 و2015.
أقيم مخيم كاتومبا دون تخطيط، ونُظّم بالطريقة الملائمة لقوانين سكانه وعاداتهم، وبدأ يحقق نوعاً من الاكتفاء الذاتي مع الزمن، وقد قضى أغلب اللاجئين بقية حياتهم كلها في هذا المخيم.
في قرارٍ تاريخي، عرضت حكومة تنزانيا منح جنسيّتها على عشرات الآلاف من اللاجئين في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، ليعيش البورونديون المتجنسون بشكلٍ نظامي بين عامة السكان.
وصار عام 2008 عام البدايات الجديدة للاجئي 1972، كان على كلّ منهم اتخاذ القرار؛ إما البقاء والانتماء لبلدهم المضيف أو العودة لبلدهم السابق؛ لأن تنزانيا أرادت حلّ مستوطنات اللجوء القديمة.
اختار أغلبية اللاجئين البقاء، فاللاجئون الذين تقلّ أعمارهم عن 40 عاماً لا يتذكرون ولا يشعرون بالانتماء لبلدٍ آخر، واللاجئون الأكبر اعتادوا على المكان ولديهم مخاوفهم من وضع بوروندي غير المستقرّ واستمرار عمليات العنف.
وكان التجنيس في تلك المرحلة يعني ترك المخيمات والانتقال للسكن بصورةٍ نظامية في مناطق تنزانيا المختلفة، وكانت المفوضية قد أشادت بـ"لاجئي 1972″ لأنهم لم يشكلوا عبئاً أثناء لجوئهم، فقد اكتفوا ذاتيّاً في الأراضي المُعطاة لهم عبر الزراعة والبيع.
كانت هذه المرة الأولى التي تقوم فيها أيّ دولة بتجنيس مثل هذه المجموعة الكبيرة من اللاجئين تحت حماية المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، وقد اختار جزء من اللاجئين العودة لوطنهم بين عاميّ 2008 و2009.
عبر تعاون المفوضية والحكومة التنزانية، أقيم برنامج لتيسير العودة الطواعية لآلاف اللاجئين القدامى من مخيم كاتومبا والمخيمات الأخرى، وجرت مساعدتهم في شؤون استعادة أراضيهم السابقة أو إيجاد مأوى جديد لهم في بوروندي في قرى ريفية مفتتحة حديثاً.
لم يعد المزاج العام التنزاني مرحّباً باللاجئين مثل السابق، فقد بدأت حكومة تنزانيا بحملات ترحيل جماعية للاجئين البورونديين (الوافدين الأحدث من غير المجنّسين) عام 2019 رغم مناشدات الأمم المتحدة، وقال وزير الداخلية التنزاني كانجي لوجولا إن الخطة تقتضي بإعادة 2000 لاجئ أسبوعياً.
ووفقاً للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، تمارس الحكومة التنزانية الحاليّة على عموم البورونديين حتّى المجنسين منهم، ومن الأمثلة على ذلك إعلان وزير الداخلية في سبتمبر/أيلول منع اللاجئين البورونديين الحاصلين على الجنسية التنزانية عام 2007 (ويبلغ عددهم 163 ألف) من التصويت؛ ما أثار القلق من أن يرتبط استبعادهم من التصويت بخطط حكومية لنقلهم إلى جزء مختلف من البلاد.
مخيم داداب كينيا
ليس مخيم داداب في كينيا واحداً من أقدم المخيمات في أنحاء العالم فحسب، بل هو أيضاً من أكبرها على الإطلاق وأكثرها احتواءً للاجئين.
بدأت القصة بفرارِ آلاف العائلات من الصراع الدائر في الصومال عام 1991، لتنشئ المفوضية السامية مجمّع داداب للاجئين، والذي حوى ثلاثة مخيمات رئيسية هي إيفو ودغالي وهاغاديرا، وقد صُممت لاستقبال 90 ألف لاجئ.
ضمّ المجمع أكثر من 218 ألف لاجئ "مُسجّل" وفقاً لإحصائية الأونروا في يوليو/تموز 2020، ويأتي اللاجئون من الصومال وإثيوبيا ورواندا والسودان وإريتريا وأوغندا، إلا أن الأغلبية العظمى من الصوماليين.
ضيّقت شروط اللجوء الكينية الصارمة من الخناق على أوضاع اللاجئين، فلا يمكن لهؤلاء اللاجئين أن يصبحوا مواطنين ولا يحقّ لهم العمل أو التنقل خارج المخيم بصورةٍ طبيعية؛ إذ يتعيّن عليهم الحصول على وثيقة سفر للمغادرة حتى مع وجود حالة طبية حرجة، كما تحظر الحكومة بناء بيوت كاملة داخل المخيم.
لكن مع ذلك نمت المخيمات مع الزمن لتشكل ما يشبه البلدات الطبيعية التي تدير شؤونها بنفسها من الناحية العملية، وشرعت العائلات بإنشاء مشاريع عملٍ صغيرة، وافتُتحت المدارس والمتاجر والمراكز الصحية والمشافي والأسواق المحلية في الداخل بحدود المتاح.
بهذا مثّل مخيم داداب نموذجاً هامّاً لتطوّر المخيمات التي تُجبر على البقاء في "وضع المؤقت" لا سيما مع منع الحكومة الكينية اللاجئين من استقرارهم خارجها، فكما يصف الأمر الصحفي الصومالي مولد هجالي -الذي عاش بنفسه في مخيم داداب منذ أن كان في العاشرة من عمره-: "ترى معظم الحكومات أن هذا الأمر مريح لوجستياً، ويقلل الاحتكاك مع المجتمعات المحلية المضيفة"، لكن هجالي يشدد على كميّة المشكلات التي تخلقها المخيمات هذه على المدى البعيد: "ليست هذه المخيمات غير مستدامة فحسب -إذ تلحق ضرراً بالبيئة وتنفّر الجهات المانحة- لكنها تحبس اللاجئين خلف بوابات المخيمات أيضاً، ما يحرمهم من الحقوق والحريات الأساسية".
بعد 4 سنين من متابعته لأحوال تسعة لاجئين هناك، وصف الباحث والكاتب البريطاني بن رولينس مخيم داداب بـ"المدينة العالمية العملاقة المصنوعة من الطين والخيام والأشواك"، واصفاً في كتابه تجارب اللاجئين المليئة بالانتظار والتوق لأنماط الحياة التي لا يعرفونها من العالم الخارجي، فالعيش في المخيم يشابه العيش في السجن؛ حيث تتأرجح الأفكار بين الأحلام غير الواقعية والواقع الكئيب.
ضاقت الحكومة الكينية ذرعاً باضطرارها لتحمّل واحدةً من أعقد حالات اللجوء في العالم، لا سيما مع قرب مخيم داداب من حدود الصومال وتسلل عناصر من حركة الشباب إليه لغايات التجنيد؛ ما جعلها تعلن في عام 2016 عزمها إغلاق مخيم داداب تماماً، مع سياسات متعددة تدفع اللاجئين للعودة القسرية إلى بلادهم في إطارٍ زمنيّ ضيق.
لاحقاً، توصّلت لجنة ثلاثية مؤلفة من كينيا والصومال والمفوضية السامية لاتفاق مع الحكومة الكينية لتأجيل الإغلاق.
في مارس/آذار 2021، عادت الحكومة الكينية إلى التهديد بأنها لم تعد تحتمل المزيد من المفاوضات، وإن لم تغلق المفوضية السامية لشؤون اللاجئين مخيميّ داداب وكاكوما خلال أسبوعين فإن الحكومة الكينية مستعدة لترحيل اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية.
أعادت الحكومة الكينية النظر في القرار بعد شهرٍ من التهديد، مؤجلة قرار إغلاق المخيمين حتى 30 يونيو/حزيران 2022، كما كانت المحكمة العليا في كينيا قد عطّلت إصدار قرارٍ مفاجئ بالإغلاق، ويحوي المخيمان سوية أكثر من 433 ألف لاجئ.
يعيش اللاجئون في مخيم داداب حالياً في وضع من التهديد وانعدام الاستقرار التام، ويتوقع أن تكون العودة محفوفة بالمخاطر في حال طُبّقت بالطريقة الحالية، وينتظر مئات الآلاف من اللاجئين ما يتفق عليه المسؤولون ليعرفوا مصائرهم.