لم تكن وزارة البيئة المصرية تعلم، وهي تضاعف حملاتها للتشجيع على تجميع زيت الطعام المستعمل والتخلص منه بطريقة آمنة، أو إعادة استخدامه مرة أخرى في غير أغراض الطهي مقابل حوافز تشجيعية ومالية، أن ذلك سيقود لانتشار مخازن زيوت الطعام مجهولة المصدر التي تنتشر في المناطق الشعبية والمحافظات المختلفة.
تنبع الخطورة من انعدام الرقابة الحكومية على مرحلة ما بعد بيع الزيوت المستهلكة، والتي تقود لإعادة استعمال الزيوت الهالكة للطهي مجدداً عبر استخدام مواد كيميائية تسهم في إعادة تفتيح لونها وبيعها للمطاعم الشعبية وعربات الفول المنتشرة في شوارع العاصمة القاهرة وغيرها من المحافظات، ما يهدد بكارثة صحية تفوق تبعاتها الكارثة البيئة التي تخشاها الحكومة.
انتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي صفحات مجهولة، عنوانها الرئيسي "شراء زيت الطعام المستعمَل من البيوت والمطاعم" و"بيع وشراء زيت الطعام المستعمل"، وغيرها عشرات الصفحات التي تحمل مسميات شبيهة، ويشترك فيها آلاف الأشخاص من المتابعين، وتعتمد بالأساس على عرض المواطنين بيع لترات من الزيوت، ودخول أصحاب المصانع لعرض شرائها، عبر إرسال مندوبين إلى المنزل، أو تنافس عدد من التجار على شراء لترات الزيوت بأسعار أعلى، وتواصل المواطنين معهم لبيعها.
وبالتوازي مع ذلك انتشرت الدراجات البخارية و"عربات الكارو" المشهورة في مصر لتجوب الشوارع والأزقة، بحثاً عن الزيوت المستعملة، وهؤلاء ينطلقون في المناطق الفقيرة التي تتزايد فيها معدلات بيع الزيوت الهالكة بأسعار مرتفعة، دون التعرف على هوية مشتريها، والمهم أن توفر ربة الأسرة بضعة جنيهات تمكنها من شراء احتياجاتها الأساسية.
تراجع قيمة الجنيه ينعش تجارة الزيوت المستهلَكة
بحسب صاحب أحد مصانع إعادة التدوير الخاصة، يعمل بصفة رسمية بترخيص من وزارة البيئة المصرية، فإن الزيادات المضطربة في أسعار الزيوت بنسبة بلغت 25% أو أكثر -مع التعويم الجديد للجنيه وانخفاض قيمته أمام الدولار(19 جنيهاً للدولار الواحد)-، يساهم في انتشار سوق بيع الزيوت المستهلكة، سواء كان ذلك على مستوى المواطنين الذين يسعون لتحقيق أي عوائد مالية، أو المطاعم الشعبية التي تحاول تقليص خسائرها جراء ارتفاعات الأسعار.
في الطبيعي لا يمكن أن يتجاوز سعر بيع لتر الزيت المستعمل العشرة جنيهات، وذلك في حال ما إذا كان الهدف منها إعادة تدويرها واستخدامها في الوقود الحيوي أو في صناعة الجلسرين والصابون السائل وصابون غسل الأيدي، وهذا السعر تطبقه الشركات المرخصة العاملة في مجال إعادة التدوير، ولا يتجاوز عددها 18 شركة.
لكن في حالة المخازن غير المرخصة والتي يصعُب حصر عددها، وقد تصل إلى المئات في مختلف المحافظات، فإن سعر الشراء وصل مع الزيادات الأخيرة في أسعار الزيوت إلى 20 جنيهاً للتر الواحد، ويجري بيعها إلى المطاعم بأسعار تصل إلى 23 جنيهاً للتر الواحد، ودائماً ما تخزنها في جراكن صفراء اللون يصل وزنها إلى 20 لتراً، بحسب ما يضيف المصدر.
يفسر المصدر ذاته التفاوت في أسعار الشراء بين الشركات المرخصة والأخرى مجهولة المصدر إلى أن الأولى لديها مصروفات أخرى، جراء استخدام مواد حافظة، وتقوم بعملية تهيئتها للتصدير في حالة إعادة استخدامها في الوقود الحيوي، كما أنها تدفع ضرائب للحكومة المصرية ولديها عشرات بل مئات العاملين في مناطق متفرقة، لكن في الحالة الثانية يتم إضافة مادة "سيليكات الأمونيوم"، أو ما يُعرف باسم "تراب التبييض" مع استخدام ماكينة التكرير التي تعيد شكل الزيت مرة أخرى إلى اللون الذهبي، وتعتمد على عدد قليل من المندوبين.
مخازن غير مرخصة تغطي على سرج بيع الزيوت للمطاعم
تبقى هناك فرص عديدة لأن تحقق المخازن غير المرخصة مكاسب طائلة جراء بيع الزيوت المستعملة لأن مصر التي تستهلك سنويًا 2.4 مليون طن سنويا، بمعدل 20 كيلوغراماً للفرد، تستورد ما يقرب 67% من احتياجات البلاد للزيوت، وفق تصريحات رئيس شعبة الزيوت باتحاد الصناعات زكريا الشافعي، ومع انخفاض قيمة الجنيه من المتوقع أن تشهد الزيوت ارتفاعات جديدة في الأسعار خلال الأيام المقبلة ما يزيد من رواج الزيوت المستعملة.
يبرر محمد عيد، وهو اسم مستعار لأحد أصحاب مطاعم الأكلات الشعبية بمنطقة بولاق الدكرور بمحافظة الجيزة، شراء الزيوت المستعملة واستخدامها مرة أخرى لقلي الطعمية والباذنجان والبطاطس للتفاوت الكبير في أسعار جراكن الزيت من السرج المخصصة لبيعها مع زيادة أسعارها، إذ أنها تأتي بالأساس مستوردة من إندونيسيا والصين ووصل سعر الجركن الذي يحتوي على 20 لتراً إلى 500 جنيه بينما يمكن شراء سعر الجركن ذاته من بائعي الزيوت المستعملة بـ400 جنيه أو 450 جنيهاً على الأكثر حسب درجة لونه.
يشير صاحب المطعم، الذي تحدث شريطة عدم ذكر اسمه، إلى كارثة أخرى في الزيوت المستعملة تتمثل في قيام أصحاب المخازن غير المرخصة بتنقيتها فقط من الشوائب، وبيعها مباشرة لأصحاب المطاعم بأسعار زهيدة، وفي كل الحالات فإن الزيوت تستخدم مرات عديدة على مدار اليوم، وتكون هناك صعوبة في التعرف على طبيعة جودتها.
لا يحتاج تجار الزيوت المستعملة سوى غرفة صغيرة داخل إحدى الشقق السكنية أو العمارات قديمة، وبحسب صاحب المطعم، فإن المناطق العشوائية والتي تتسم بالرخاوة الأمنية ويصعب الوصول إليها من الجهات الرقابية مكتظة بتلك الأماكن التي أخذت في الانتشار مع تحقيق كثير من المواطنين مكاسب طائلة جراء التجارة فيها، مع انتشار المطاعم الشعبية في كثير من الشوارع الجانبية والصغيرة، باعتبارها أحد أكثر الأماكن التي يُقبل عليها المواطنون للحصول على قوت يومهم.
رأس مال متواضع ومكاسب مضمونة
تواصل "عربي بوست" مع أحد أصحاب شركات بيع الزيوت المستعملة للتعرف على طبيعة السوق، وأكد أن هذا النوع من التجارة يأخذ منحى تصاعدي وأصبح رائجاً كونه لا يحتاج إلى رأس مال كبير، في حال أن المشروع جرى تأسيسه بشكل غير شرعي، ولا تتجاوز قيمته 100 ألف جنيه على أقصى تقدير، ويتطلب الأمر مكاناً للتخزين ودراجات بخارية مخصصة في نقل البضائع صغيرة الحجم أو ما تسمى بـ "التروسيكلات"، في حين أن المكاسب مضمونة وبشكل سريع.
يتعامل أصحاب هذه المشاريع مع ربات البيوت في نطاقهم الجغرافي وأشخاص يثقون فيهم لعدم الإبلاغ عنهم، وأخيراً اضطر هؤلاء ذهاب بأنفسهم إلى البيوت دون أن يكون لديهم انتشار ظاهر في الشوارع كما كان يحدث في السابق، وذلك مع التفات الجهات الرقابية إليهم، ويقومون بتوصيل الزيوت إلى أصحاب محال يقبعون في مناطقهم أيضاً خشية انكشاف أمرهم.
الأخطر من ذلك أن التاجر الذي تواصلنا معه سلط الضوء على انتشار المصانع التي تقوم بإعادة تدوير الزيوت وبيعها للمحال بعلامات تجارية غير معروفة، وبيعها بأسعار أقل من الزيوت الأخرى بخمسة جنيهات أو أكثر، وهذه المصانع تأخذ في الانتشار بالمناطق الشعبية التي تقوم فيها بعملية توزيع الزيوت على محال البقالة الصغيرة.
بين الحين والآخر تعلن الأجهزة الحكومية والمحلية والرقابية عن ضبط مخازن زيوت طعام غير مرخصة، لكنها، في الوقت ذاته، ليست لديها أدوات رقابية تجعلها قادرة التعرف على خط سير الزيوت الهالكة من ربات البيوت وحتى أصحاب المطاعم، وفي حال ألقت القبض على أحد التجار أو قامت بضبط مخازن غير مرخصة، فإنها لا تصل إلى باقي الأطراف المتورطين.
الحكومة تتورط في تشجيع مصانع بئر السلم
تنبه عدد من نواب البرلمان أخيراً إلى الأزمة التي شاركت فيها الحكومة دون أن تدري، بعد أن ساهمت في نشر الوعي المجتمعي؛ لإعادة تدوير الزيوت والمخلفات بوجه عام، لكنها لم تضع الإطار القانوني السليم الذي يضمن عدم استغلالها سلبياً.
وتقدم البرلماني، أيمن محسب، في شهر يونيو/حزيران الماضي، إلى المستشار حنفي جبالي، رئيس المجلس، بطلب مناقشة عامة بشأن استيضاح سياسة الحكومة لدعم إعادة تدوير زيوت الطعام المستعملة لإنتاج الوقود العضوي، وأشار إلى اقتحم المجال ما يعرف بـ"مصانع بير السلم"، التي دخلت في تجميع الزيت المستعمل من المنازل مقابل حوافز مالية وإعادة تدويره واستخدامه في الطهي مرة أخري، وهو ما يعتبر سماً قاتلاً يعرِّض حياة المصريين للخطر.
وتشير دراسة أجراها الدكتور محمد سعد، أستاذ الكيمياء الحيوية والبيئة بجامعة القاهرة، فإن الزيوت المستعملة تحتوي على مركبات ضارة ناتجة من تفاعل "الأحماض الأمينية" والسكريات الموجودة بالأغذية، نتيجة تعرض المواد الغذائية لحرارة "القلي"، التي تصل إلى 160 درجة، وتؤدى هذه المركبات إلى تكوين مركب "الأكريلاميد" المسرطن و"البوليمرات".
سرطان القولون وتصلب الشرايين أمراض تسببها الزيوت المستعمَلة
وبحسب الدراسة، فإن الزيت يتحول بعد ذلك إلى الصورة المؤكسدة، وتتسبب في تدمير أغلب الأحماض الدهنية الموجودة، ويؤدى ذلك إلى التأثير على الكبد، وتؤدى إلى شيخوخته، إضافة لإنتاج خلايا مسرطنة، وتأكسد الروابط الزوجية بالأكسجين والرطوبة ودرجة الحرارة العالية، فتنتج مركبات ضارة تؤثر على جدار الأوعية الدموية، وعضلة القلب، والكبد، والقدرة الذهنية والبدنية والعصبية للإنسان.
وشدد أحد أطباء أورام الكبد على أن فرص زيادة الخلايا السرطانية داخل الجسم تتضاعف مع استخدام الزيوت أكثر من مرة، ويظهر آثار ذلك داخل الجسم بعد سنوات، وليس بصورة مباشرة يمكن علاجها قبل تطورها، وفي الغالب يصاب المواطنون الذين يقبلون عليها بسرطان القولون والمعدة والبنكرياس، وكذلك فإن تلك الزيوت تؤدي بشكل مضطرب لزيادة نسبة الدهون الثلاثية الضارة داخل الجسم، ويكون من نتائجها إصابة المريض بتصلب الشرايين، وتضاعف نسب حدوث الجلطات.
ويؤكد الطبيب أن مادة التبييض المستخدَمة لتفتيح لون الزيوت، تؤدي إلى خلل في الجهاز المناعي للجسم، ومع تكرار استخدام الزيوت تحدث تغييرات كيميائية أثناء الغليان ينتج عنها عملية تأكسد والتي يتكون منها مجموعة من الشوائب المضرة، وتتغير خصائصه من حيث اللون والطعم والرائحة، يصبح غير صالح للاستخدام مرة أخرى.
إلقاء الزيوت في البالوعات أقل ضرراً من أخطارها الصحية
اللافت هو ما يذهب إليه الطبيب ذاته، بأن الخسائر التي يسببها زيت الطهي حال جرى إلقاؤها في مواسير البالوعات أخف كثيراً من الأضرار الفادحة التي تترتب على تأثيراته الصحية السلبية تحديداً حال تزايدت معدلات الإصابة بالسرطان التي تكون بحاجة إلى تكاليف علاجية باهظة تفوق قدرات الحكومة، وكثير من المواطنين.
وبحسب مصدر مسؤول بوزارة البيئة المصرية تواصلت معه "عربي بوست"، فإن ما فتح الباب لمصانع بئر السلم هو أن التراخيص اللازمة لإقامة مصانع إعادة تدوير الزيوت الهالكة وفقاً للاشتراطات البيئية السليمة التي تضمن عدم تضرر المواطنين من الزيوت المستعملة تجعل صغار التجار يعزفون عنها، في حين أنها تحقق عوائد مالية طائلة، وأن صاحب المشروع يكون بحاجة لإيفاء اشتراطات وزارة التجارة والصناعة إلى جانب وزارة البيئة، والأصعب من ذلك الحصول على موافقة الأمن الصناعي بشأن أماكن إقامة المشروع وتوفير والالتزام بأسس التخزين السليمة.
ويوضح أن وزارته تفكر في طريقة تمكنها من التعرف على خط سير الزيوت الهالكة، وقد يكون ذلك من خلال "شهادة التخلص الآمن للزيوت" للتعرف على المسارات التي تذهب إليها، مع الانتهاء من استخدامها، تحديداً على مستوى الأماكن التجارية والمطاعم والفنادق الكبرى، هذا بالإضافة إلى تعزيز التكاتف بين الجهات الرقابية المختلفة للتنسيق بشأن معلومات المناطق التي تنتشر فيها تجارة الزيوت غير الشرعية وتشديد الحملات عليها.
وكانت وزارة البيئة المصرية قد أطلقت في شهر أكتوبر الماضي، مبادرة لحث المواطنين على عدم التخلص من زيت الطعام المستعمل بعد القلي، من خلال خدمة "جرين بان" المقدمة برعاية شركة "تجدد" للطاقة المتجددة، وذلك للتخلص من الزيت المستعمل بطريقة صحية.
وخاطبت الوزارة المواطنين قائلة: "ساهم في المحافظة على البيئة ومواردنا المائية، ومترميش الزيت المستعمَل في الصرف الصحي.. سجل معانا واحنا نتواصل معاك، وهنيجي لحد عندك، ونساعدك في التخلص منه بالطريقة الصحيحة".
ويُقدر الموقع الإلكتروني لمنتدى مصر للتعاون الدولي والتمويل الإنمائي OUDA حجم مخلفات زيت الطعام المُستعمَل أو الهالك سنوياً نحو 500 ألف طن. كاشفاً أن مصادر الزيت المُستعمَل تُنتجها مصانع المواد الغذائية والمطاعم والفنادق والمنازل.