تساؤلات كثيرة تركتها القرارات الأخيرة التي تهدف للقضاء على ما يسمى إعلامياً وشعبياً "لجان أولاد الأكابر"؟ فهل حقاً الإجراءات قادرة على القضاء على تلك الظاهرة التي أثارت غضباً شديداً في الشارع المصري منذ 2007، وما إذا كانت لدى الجهات المنظمة لعملية الامتحان القدرة على ضبطها؟ أم أنها قد يترتب عليها ظهور لجان أكابر في مناطق أخرى وبأشكال مختلفة تضمن استمرار الغش والفساد في منظومة امتحانات الثانوية العامة التي واجهت هذا العام قدراً هائلاً من الانتقادات؛ بسبب تعدد وسائل الغش وتداول الامتحانات وإجاباتها على منصات التواصل الاجتماعي.
كانت وزارة التربية والتعليم في مصر قررت أخيراً، وقف تحويل الطلاب المقيدين بالصف الثالث الثانوي إلى مدارس إدارة دار السلام التعليمية التابعة لأحد مراكز محافظة سوهاج (جنوب)، والمعروفة بانتشار ما يُسمى بلجان "أولاد الأكابر" والتي يؤدي فيها الامتحانات أبناء القيادات التعليمية في المحافظة، وشهدت على مدار السنوات الماضية وقائع غش جماعي متكررة دون أن تكون لدى الجهات المسؤولة عن إدارة امتحانات شهادة الثانوية العامة في مصر قدرة على ضبطها.
هدف قرار الوزارة الأخير، الذي صدر عقب انتهاء امتحانات هذا العام الخميس الماضي، وضع حداً لسيل التحويلات التي أخذت في التصاعد خلال العام الماضي، وبدا أن الأمر يتكرر مع فتح باب التحويل مطلع يوليو/تموز الجاري، ما قد يضع الجهات الحكومية في مأزق جديد حال استمر الوضع كما هو عليه؛ إذ شهدت المدارس التي اكتسبت شهرتها من الغش كثافات مرتفعة تفوق قدرتها على تحمل الطلاب أثناء العام الدراسي.
وسبق قرار وزير التربية والتعليم والتعليم الفني، طارق شوقي، آخر مماثل من جانب محافظ سوهاج اللواء طارق الفقي، نص على "وقف تحويل طلاب الثانوية العامة للمدارس الحكومية والخاصة، بإدارتي جهينة ودار السلام التعليميتين، وإلى حين ظهور نتيجة الدور الثاني لامتحانات الثانوية العامة وذلك للوقوف على الكثافات الطلابية بمحيط الإدارتين، وللصالح العام وصالح العملية التعليمية".
إجراءات لمحاصرة لجان أولاد الأكابر
انتشر مصطلح "لجان أولاد الأكابر"، خلال العقدين الماضيين ودائماً ما يجري تداوله أثناء امتحانات الثانوية العامة، ويشير إلى اللجان التي تشهد تحويلات جماعية بالمخالفة لإجراءات التحويل التي تقرها وزارة التربية والتعليم، ويترتب على هذه التحويلات تحول لجان بعينها إلى بؤر للغش الجماعي، من خلال إحداث حالات شغب وترهيب المراقبين، حتى يتسنى للطلاب استخدام أدوات الغش وتصوير ونشر الامتحانات، وتركزت بؤرة انتشارها في محافظات كفر الشيخ وأسيوط وسوهاج وقنا، داخل مناطق نائية يسيطر عليها الطابع القبلي.
يقول مصدر مطلع على صلة بعملية الامتحانات لـ"عربي بوست" إن وزارة التربية والتعليم المصرية رصدت تحويل 2200 طالب إلى محافظتي سوهاج وقنا (جنوب) قبل انطلاق ماراثون الثانوية العامة، وذلك بالمخالفة للإجراءات التي سبق وحددتها الوزارة لمواعيد وطريقة وشروط التحويل في الثانوية العامة، ولفت إلى اتخاذ قرارات تأديبية بحق من تورط فيها سواء على مستوى مديري الإدارات التعليمية أو الموظفين العاديين.
وكانت الوزارة قد اشترطت لتسجيل أي طالب لدخول الامتحانات بهذه اللجان، أن يكون مر على فترة إقامته بذات المنطقة، عام دراسي سابق، بمعنى أن يكون أدى امتحانات الصف الثاني الثانوي في نفس اللجنة، على أن يكون محل السكن المدون في بطاقة الطالب وولي الأمر، ليس حديثاً، بل مرت عليه سنة على الأقل؛ بحيث يتم إثبات إقامته بنفس المنطقة الواقع بها اللجنة.
وأشار المصدر ذاته إلى أن الوزارة حاولت التخفيف من حدة الأزمة وقامت بتوزيع الطلاب المحولين إلى لجان عديدة بما يمنع حدوث وقائع غش جماعي فيما بينهم، كما أن ذلك ساعد في إحكام السيطرة على بعض اللجان، وقمنا بالتواصل مع وزارة الداخلية لتشديد الإجراءات الأمنية على تلك اللجان.
التصريحات "وردية" لكنها غير مطابقة للواقع
الملفت أن وزير التربية والتعليم والتعليم الفني، طارق شوقي، أعلن قبل انطلاق الامتحانات، أن مصطلح "لجان أولاد الأكابر"، أصبح تراثاً قديماً تم نسفه من قاموس "التعليم في مصر"، مشيراً إلى أن الوزارة تعاملت مع هذه اللجان بشكل حاسم وقضت عليها، في ضوء خبرتها المتراكمة خلال السنوات الماضية.
وأضاف، في تصريحات صحفية لمحرري الوزارة، أن جميع أجهزة الدولة لديها علم بتلك اللجان، وأن كلاً منها أدى دوره للقضاء عليها ضماناً لنزاهة الامتحانات، وحفاظًا على مبدأ تكافؤ الفرص بين الطلاب.
لكن الواقع بحسب شهود عيان وروايات العديد من أولياء الأمور والطلاب لـ"عربي بوست" أكدا عكس ذلك، وذهبت إحدى أولياء الأمور للتأكيد أن ابنها الذي خاض الامتحانات دون أن يحضر إلى المدرسة أثناء العام الدراسي فوجئ بأن لجنته الامتحانية تحوي طلاباً جرى تسكينهم على دفاتر المدرسة قبل انطلاق العام الدراسي من مراكز مختلفة داخل المحافظة، وأن لجنته التي خاض بها الامتحان بمدرسة "الرواد الخاصة" شهدت غشاً جماعياً.
وأوضحت أنه جرى السماح بدخول الهواتف المحمولة وسماعات البلوتوث، وجرى دفع آلاف الجنيهات بالمشاركة بين الطلاب إلى مدرسي المواد المختلفة للاتفاق على التواصل معهم أثناء الامتحانات والإجابة عن الأسئلة، على أن يتم توزيع الإجابات على الطلاب داخل اللجنة بحسب كل نموذج امتحاني، وأن المعلمين ورؤساء اللجان الذين اعترضوا على عمليات الغش لم يحظوا بالحماية المطلوبة من أجهزة الأمن.
تسليط الضوء على لجان بعينها يفتح الباب أمام انتشار طرق أخرى تسهّل الغش الجماعي
مصدر بوزارة التعليم أكد لـ"عربي بوست" أن تصريحات الوزير المصري لا تتسم بالواقعية؛ لأن تسليط الضوء على لجان بعينها في مديريات ومحافظات معروفة يفتح الباب أمام انتشار طرق أخرى تسهل الغش الجماعي، ليس فقط لأولاد الأكابر لكن لأبناء الطبقة المتوسطة الذين يمضون في التحويل من مدارس حكومية إلى أخرى، خاصة بمصروفات دراسية يكون لديها حظ أوفر من الغش بعكس أقرانهم في لجان المدارس الحكومية.
لعل ذلك ما أكدت عليه (منى. م) وهي ولية أمر طالب بالصف الثاني الثانوي، أقدمت هذا العام على نقل نجلها إلى مدرسة دار الأرقم الخاصة بمحافظة سوهاج بعدما كررت التجربة مع ابنتها قبل ثلاث سنوات والتي تمكنت من دخول كلية الطب، وتُرجع ذلك إلى أن اللجان تتسم بحالة من الهدوء قد لا تتوفر في لجان المدارس الحكومية التي تشهد تشديداً في إجراءات المراقبة والتأمين.
وأوضحت أن كثيراً من المدارس الخاصة، ليس فقط في محافظة سوهاج لكن داخل العديد من الأقاليم والمحافظات الأخرى، أضحت قِبلة لأولياء الأمور والطلاب، وهناك قناعة بأنها تتيح الفرصة أمام الطلاب لمساعدتهم أثناء الإجابة على الامتحانات، ارتكاناً على المصروفات الدراسية التي يدفعونها، كما أن البعض من أصحاب المدارس يوظف الأمر للترويج إلى مدرسته من منطلق تحقيق مكاسب مادية عبر جذب عدد كبير من الطلاب، في حين أنه لا يكون بحاجة لتوفير فصول أو معلمين لعدم انتظام العملية الدراسية في المرحلة الثانوية.
قرار الوزير فتح المجال للاستثناءات من جانب الجهات المختصة بالوزارة
كشف مصدر مطلع بمديرية التربية والتعليم في سوهاج أن هناك عدداً من التحويلات تم تمريره إلى مدارس مركز دار السلام قبل اتخاذ القرارين، خلال الأيام التي سبقت إجازة عيد الأضحى، والتي أعقبها مباشرة صدور قرار المحافظ ومن ثم وزير التربية والتعليم، بوقف تحويل الطلاب المقيدين بالصف الثالث الثانوي، وهناك تحويلات وصلت إلى الإدارات التعليمية جرى وقفها انتظاراً لما ستؤول إليه الأوضاع خلال الفترة المقبلة.
وكشف المصدر أن قرار المحافظ فتح الباب أمام إمكانية التحويل عقب صدور نتيجة امتحانات الدور الثاني، أي قبل أيام قليلة من انطلاق العام الدراسي الجديد، وفي الغالب تتزايد التحويلات على المدارس المعروفة بالغش في امتحانات الثانوية العامة خلال هذا التوقيت، كما أن قرار الوزير فتح المجال للاستثناءات من جانب الجهات المختصة بالوزارة.
وترك قرار وزير التربية والتعليم مهمة قبول التحويل من عدمه حال كانت هناك حالات مُلحة للنقل إلى "الجهات المختصة داخل ديوان عام الوزارة الرئيسي بالقاهرة؛ لكي تقوم بمهمة مراجعة كافة مستندات التحويل للبت فيها"، كما أن قرار الوزارة الذي وجهته إلى مديرية التربية والتعليم بسوهاج شدد على ضرورة "الالتزام بموافقة وزير التربية والتعليم، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية حيال المتسبب في عدم تنفيذ تلك التعليمات".
سماسرة التحويلات.. تحويل الطالب مقابل 50 ألف جنيه
يحتاج الطلاب الساعون للتحويل للحصول على تأشيرات قبول من جانب وزير التربية والتعليم أو المحافظ المختص، وبحسب المصدر الذي تواصلنا معه بمديرية سوهاج، فإن "أولاد الأكابر" يمارسون ضغوطاً للحصول على تأشيرات للتحويل مع هدوء موجة الانتقادات، وأن العام الماضي كان شاهداً على دخول ما يمكن تسميتهم بـ"سماسرة التحويلات" للحصول على مبالغ من أولياء الأمور نظير الحصول على تلك التأشيرات، ووصلت في بعض الحالات إلى 50 ألف جنيه للطالب الواحد.
ولفت إلى أن تحويل آلاف الطلاب العام الماضي تسبب في مخالفة المدارس المعروفة بالغش لكثافات الطلاب المقررة داخل الفصول الدراسية، وأن عدم انتظام العملية التعليمية ساهم في التغطية على المشكلة، لكن الواضح أنه بدلاً من اقتصار الغش على مدرستي "عبدالحميد رضوان الثانوية" و"محمد عبدالحميد رضوان الثانوية" أضحى هناك ثلاث مدارس خاصة شريكة في عملية الغش وهي "الرواد الخاصة" والنيل الخاصة" و"ابن عطاء الله الخاصة".
لجان أولاد الأكابر عمرها 15 عاماً تتجدّد مشكلتها مع ماراثون الثانوية العامة
ظهر المصطلح الذي ظل لصيقاً بامتحانات الثانوية العامة منذ العام 2007؛ إذ شهدت إحدى لجان امتحانات الثانوية العامة بمدينة ديروط التابعة لمحافظة أسيوط (جنوب) واقعة غش جماعي في لجنة يقبع بها أبناء قيادات التعليم بالمحافظة.
وكانت الواقعة الأشهر في العام 2008 بمحافظة المنيا (جنوب)، وأثبتت تحقيقات الوزارة التي أجرتها في ذلك الحين وجود ثماني لجان خاصة تم تشكيلها لأداء الامتحان بمستشفى مغاغة التابع للمحافظة، وتبين أن كل الطلاب الذين يؤدون الامتحان به من أبناء المسؤولين بعدد من الوزارات في المحافظة؛ ما أدى لصدور قرار وزاري بإلغاء اللجان الخاصة التي كانت تعقد في المستشفيات نظراً للظروف الصحية للطلاب.
وفي أثناء تلك الامتحانات أيضاً، حدثت مشكلة التسريبات الشهيرة للامتحانات عبر بيعها في شوارع المحافظة للطلاب، وأحيل 19متهماً في هذه القضية إلى المحاكم الجنائية، وتدخل الرئيس المصري الراحل حسني مبارك في ذلك الحين لاستعراض المشكلة وطالب بتطبيق أي سياسات خاصة بالتعليم على نحو مفاجئ.
وكانت محافظة أسيوط صاحبة القدر الأكبر من لجان "أولاد الأكابر"، تحديداً في مركز البداري المعروف بانتشار السلاح، ففي العام 2013، شهدت إحدى اللجان شرق المدينة غشاً جماعياً للطلاب عن طريق السيارات والدراجات البخارية أمام وحول أسوار اللجان، وذلك تحت سمع وبصر رؤساء اللجان والملاحظين.
تكررت وقائع الغش الجماعي في لجان البداري حتى العام 2017، وفي ذلك العام نجحت وزارة التعليم في ضبط 40 طالباً قاموا بالغش الجماعي وإحالتهم جميعاً للشؤون القانونية وقررت إلغاء الامتحانات لهم وحرمانهم منها، ورصدت الوزارة في ذلك الحين تحويل 600 طالب من أولاد الذوات بينهم أعضاء في البرلمان إلى لجان الإدارة.
ورغم اتخاذ الوزارة الإجراء ذاته في لجان دار السلام بمحافظة سوهاج التي انتشرت فيها لجان الغش الجماعي في العام 2018؛ حيث قامت بحجب نتيجة 82 طالباً وحرمانهم من دخول الامتحانات لمدة عام، إلا أنها لم تقُد لوقف الظاهرة، واعتبر أولياء أمور الطلاب المحجوبة نتائجهم في ذلك الحين أنهم كبش فداء لأبناء أعضاء مجلس النواب بمحافظتي سوهاج وقنا وغيرهم من أبناء القيادات التعليمية والأمنية وذلك لتحسين صورة الوزارة.
خبير تربوي: اتفاق خفي بين مراكز القوى للإبقاء على استمرار حالة الخرق المستمرة
وقال الخبير التربوي كمال مغيث إن قضية الغش في الامتحانات أكبر من قرارات الوزارة بوقف التحويل إلى لجان بعينها، ويبدو من الواضح أن هناك اتفاقاً خفياً بين مراكز القوى داخل البرلمان والحكومة وأولياء الأمور النافذين للإبقاء على استمرار حالة الخرق لتكافؤ الفرص وغياب العدالة التربوية بين الطلاب.
وشدد على أن الطلاب الذين يمتلك أولياء أمورهم الأموال ستكون لديهم فرصة للغش في الامتحانات عبر وسائل عديدة ومختلفة، في حين أن الفقراء تبقى فرصهم ضئيلة ومحدودة، وهو ما ينقل انعدام التكافؤ المجتمعي إلى التعليمي، والذي يشكل الحد الأدنى الذي يحتاج إلى قدر من التوازن بين الطبقات المختلفة.
وأوضح أن وقائع مثل جمع آلاف الجنيهات من أولياء الأمور لاستضافة رؤساء اللجان وتقديم رشاوى إليهم غير مباشرة تتمثل في توفير كل ما لذَّ وطاب إليهم في مقابل تسهيل عملية الغش، ووقائع أخرى تتمثل في التهديدات العديدة التي يتلقاها المراقبون دون أن توفر لهم الحماية، تعد بمثابة أشكال فساد مختلفة قد لا تكون موجودة داخل لجان "أولاد الأكابر" لكنها تنتشر في مناطق متفرقة لا يتم تسليط الضوء عليها.