تلقّى الصحفيون المصريون خبر انتحار صحفي الأهرام، عماد الفقي، بمزيج من مشاعر الحزن والألم والغضب والصدمة؛ فالحادث هو الأول من نوعه في أكبر مؤسسة صحفية بمصر، وواحدة من أعرق المؤسسات الصحفية بالشرق الأوسط، ودلالاته لا حصر لها.
وضجت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر بمنشورات وتغريدات غاضبة ومحذرة من الحالة المزرية وغير المسبوقة التي وصلت لها الصحافة المصرية، وفتح الصحفيون الملف المسكوت عنه في الصحافة المصرية منذ ما يقرب من عقد من الزمان، وهو أوضاع الصحفيين الاقتصادية والمادية، وحالة العوز التي تنتاب غالبية الصحفيين، وهو ما دفع المئات منهم إلى هجر المهنة، وبعضهم أصبح سائقاً لدى تطبيق أوبر، وآخرون فتحوا محال بقالة وعطارة ومنسوجات.
ودعا نقيب الصحفيين السابق، يحيى قلاش، إلى عقد مؤتمر عام عاجل لنقابة الصحفيين؛ لبحث الوضع الذي وصفه بأنه مليء بالحمم البركانية، ووقع المئات من الصحفيين على بيان كتبه عضو مجلس النقابة السابق عمرو بدر، دعا فيه إلى عقد جمعية عمومية عاجلة؛ من أجل بحث المخاطر غير المسبوقة التي تتعرض لها الصحافة المصرية.
انتحار صحفي الأهرام لم يكن الأول
وإذا كانت واقعة انتحار صحفي الأهرام قد فجعت الرأي العام المصري؛ لكونها الأولى من نوعها في تاريخ الصحافة المصرية، فلم يسبق لصحفي أن انتحر في مكان عمله، ولكون الصحفي يعمل في أكبر صحيفة قومية؛ إلا أن حادث انتحار مشابه قد وقع لصحفي كان يعمل بدولة خليجية، وحين عاد إلى مصر قبل 3 سنوات، ولم يجد أية فرصة عمل في أية صحيفة؛ أطلق على نفسه الرصاص داخل سيارته بمحافظة المنيا، التي تبعد عن العاصمة المصرية القاهرة 290 كيلومتراً.
وبحسب المصادر التي تحدثت مع عربي بوست، ورفضت ذكر اسمها، فإن الصحفي كان يعمل بجريدة يومية في دولة خليجية "صحيفة العرب القطرية"، وبعد عدة سنوات قضاها هناك، عاد إلى مصر، وحاول بكل الطرق البحث عن فرصة عمل دون جدوى، فسافر إلى كينيا من أجل البحث عن فرصة عمل، واستمر في كينيا ما يقرب من عام، وتعرض هناك لأزمات كبيرة دفعته للعودة إلى القاهرة، وحينما تراكمت عليه الديون والأزمات، مع انعدام الأمل في إيجاد أية فرصة عمل مناسبة بأية صحيفة؛ انتحر. ولفتت تلك المصادر إلى أن هذا الصحفي لم يكن عضواً بنقابة الصحفيين.
دخل الصحفي في مصر الأقل في العالم العربي
ولا تقتصر أزمات وأوجاع الصحفيين في مصر على حجب العشرات من المواقع، وتسريح المئات من الصحفيين، ومنع مئات آخرين من غير "الموالين" للنظام من الكتابة، ولكنها تشمل الأوضاع الاقتصادية والمالية للصحفيين، باستثناء قلة قليلة لا يزيد عددهم عن 100 صحفي من المقربين للأجهزة الأمنية في مصر، والذين يحصلون على رواتب ضخمة في القنوات الفضائية التي تمتلكها الأجهزة السيادية؛ فهناك الآلاف من الصحفيين يعانون من العوز، ولا يزيد دخلهم عن 4 دولارات فقط يومياً.
ووفقاً لتقارير صحفية عربية ومحلية؛ فإن أجور الصحفيين المصريين هي الأقل في العالم العربي، وتتحدث هذه التقارير عن أن دخل الصحفي في مصر لا يتراوح ما بين 120 إلى 140 دولاراً شهرياً.
بينما يتقاضى الصحفي في فلسطين من 450 إلى 800 دولار شهرياً، وأشار التقرير إلى أن رواتب المحررين في فلسطين بدأت تتحسن بعد عام 2007.
ويبلغ متوسط الراتب الشهري للمحرر الصحفي في الأردن 400 دولار، وفي المغرب 1700 دولار، وفي العراق 800 دولار، وفي اليمن من 150 إلى 200 دولار، وفي الجزائر 270 دولاراً، فالصحفي المصري يعد من الأقل دخلاً في العالم.
الأمر ذاته كان قد لفت إليه كرم جبر، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، مشيراً إلى تراجع مكانة مهنة الصحافة في مصر؛ لتحتل المرتبة رقم 202، بعد أن كانت المهنة رقم 2 في السلم الاجتماعي في مصر.
إعلام الواتس آب ليس نكتة
ليست الأوضاع الاقتصادية المزرية للصحفيين هي كل ما في الأمر؛ فبحسب مراقبين فإن الذي تسبب في تلك الأوضاع الكارثية هو سيطرة الأجهزة السيادية على كل وسائل الإعلام في مصر، حتى الدراما والسينما أصبحت تحت سيطرة الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، المملوكة لجهاز المخابرات العامة.
ووفقاً لتقرير استقصائي نشرته وكالة رويترز للأنباء؛ سيطرت أجهزة الدولة السيادية على كل وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية سيطرة تامة، وأشار التقرير إلى أن كل رؤساء تحرير الصحف المصرية، وكل رؤساء تحرير برامج التوك شو، وكل مقدمي هذه البرامج؛ يتلقون تعليمات يومية من ضابط مخابرات، ولفت التقرير إلى وجود جروب على "الواتس آب" بين ضابط المخابرات وقيادات الصحف الخاصة والقومية ورؤساء القنوات الفضائية؛ لضمان وصول التعليمات بشكل يومي للجميع، وهو ما يعني أن جملة "إعلام الواتس آب" التي يتندر بها الصحفيون على سيطرة أجهزة الأمن على الإعلام؛ ليست نكتة، وإنما حقيقة.
نقيب الصحفيين السابق دون عمل
مصدر بنقابة الصحفيين تحدث مع عربي بوست، مشترطاً عدم ذكر اسمه، مؤكداً أن القبضة الأمنية على الصحافة تضاعفت منذ 2018، مع بدء الولاية الثانية للرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وأوضح المصدر أن حالة العوز والفقر والاحتياج، التي يعيشها الصحفيون، ليست صدفة، وإنما ممنهجة ومتعمدة، عقاباً للصحفيين والإعلاميين على دورهم في ثورة يناير، وعلى دورهم في أزمة تيران وصنافير.
ولفت المصدر إلى أنه، باستثناء صحف الشروق والمصري اليوم والبوابة نيوز وفيتو؛ فإن كل الصحف الخاصة أصبحت مملوكة، بشكل كامل، لجهاز المخابرات، مشيراً إلى توقف شبه تام للاستثمار في مجال الصحافة منذ ما يقرب من عقد من الزمان.
وأضاف المصدر: "الأجهزة الأمنية تتعامل مع الصحفي بوصفه خائناً إلى أن يثبت العكس، وكبار الصحفيين وأكثر الصحفيين موهبة وأكثرهم حصولاً على جوائز؛ يجلسون في بيوتهم بلا عمل، بمن فيهم نقيب الصحفيين السابق يحيى قلاش، الذي عوقب على موقفه من اقتحام النقابة من قوات الأمن قبل عدة سنوات بمنعه من العمل، والاستغناء عن خدماته في مكتب صحيفة الخليج الإماراتية بالقاهرة، والذي ظل مديراً له لمدة 20 عاماً.
صحفية سابقة بجريدة المصري اليوم، وعضو نقابة الصحفيين، تحدثت مع عربي بوست عن الأزمة التي تحياها الصحافة المصرية قائلة: "أوضاع الصحفيين المادية، سواء من كان يجلس في منزله أم ما زال يعمل، كلاهما مر وعلقم".
وأضافت: قيادات الصحف "ماسكين المحررين من إيدهم اللي بتوجعهم"، وأنهم يطلبون منهم، على سبيل المثال، تحقيق تارجت لا يقل عن 10 موضوعات في اليوم أو يتركون العمل".
وأشارت إلى أنه "حتى بدل التكنولوجيا، الذي يحصل عليه الصحفي عضو النقابة، أصبح، مع موجات الغلاء، غير قادر على تلبية أية احتياجات".
وعن تجربتها الشخصية، بعد أن انضمت إلى طابور الصحفيين الذين أصبحوا بلا عمل، قالت: "بالنسبة للصحفي الموهوب الجالس في منزله، وأنا نموذج على ذلك، لا يوجد مناخ مناسب ليحقق موهبته في كتابة تحقيقات، أو حتى "فيتشرات إنسانية"؛ فقيادات الصحف أصبحت ترى أن هذه القوالب الصحفية ليست ذات أهمية، وأصبحت اللايفات والبحث عن توافه الأمور والترافيك هي الأهم، وأشارت إلى أن غياب حرية الصحافة أصبح أهم معوقات مهنة الصحافة في مصر.
ويتفق معها صحفي شاب، كان يعمل مدير تحرير صحيفة يومية خاصة، قائلاً: "الصحافة المصرية تعيش أسوأ مراحلها على جميع المستويات؛ بشكل أفقدها احترام وتقدير الرأي العام المحلي الذي انصرف عنها، وولَّى وجهه شطرَ منصات إخبارية غير مصرية ينشد منها بعض الحقيقة التي يجري تغييبها".
وأضاف في تصريحات خاصة لـ"عربي بوست": "لكي تتأكد أن الصحافة كلها تحت السيطرة، انظر إلى الصفحة الأولى في جميع الصحف الرسمية والمعارضة والمستقلة؛ تكاد تكون نسخة واحدة، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الصحافة المصرية".
آخر التصنيفات العالمية
وتابع: "بالأرقام تتذيل الصحافة المصرية المراكز الأخيرة في التصنيفات الدولية الخاصة بأوضاع الصحافة في العام خلال السنوات الأخيرة، بل وتتقدم عليها دول حديثة النشأة وحديثة العهد بالصحافة أيضًا، مستبعدًا حدوث تغيير جذري خلال الأيام المقبلة".
وشدد على أن المسؤولين عن تنظيم الصحافة المصرية لا يحظون بالتقدير الكافي من الصحفيين المصريين أنفسهم؛ خاصة أن كثيراً منهم لا يمتلك السيرة الذاتية الجيدة التي تمنحه أن يجلس على رأس صحيفة رسمية عريقة، أو جهة منوط بها إدارة الصحافة وترتيب أحوالها، متابعًا: الأسوأ لم يأت بعد، ولكنه سوف يأتي حتماً؛ فالمقدمات الخطأ تقود إلى نتائج وخيمة.
وكشف عن أن هناك تدخلات عديدة تتعرض لها الصحافة المصرية، ورقية كانت أم إلكترونية، من أطراف نافذة مختلفة؛ حيث تتعرض العديد من المعالجات والمقالات المختلفة للحذف أو التعديل لأسباب واهية جداً وغير منطقية؛ ما دفع معظم الصحفيين إلى الانصراف عن الصحافة الجادة والانخراط فيما يُسمَّى "المناطق الآمنة"؛ حتى لا يفقدوا وظائفهم أو حرياتهم.