منذ عقود دأبت إسرائيل على تحويل المناطق الفلسطينية كمكب لنفاياتها النووية، غير ملتفتة لكل التحذيرات الرسمية للمسؤولين الفلسطينيين الذين أبدوا قلقهم من مخاطر ارتفاع مستويات الإشعاع النووي في الغلاف الجوي والتربة الجوفية لمناطق جنوب الضفة الغربية، وتحديداً في مدينة الخليل، التي تسجل سنوياً مستويات قياسية في إصابات مرض السرطان وتشوهات الأجنة.
ورغم ما يحيط بالبرنامج النووي الإسرائيلي من غموض وسرية تامة، فإن شهادات فلسطينية بوزارتي الصحة والبيئة أكدت وجود نسب إشعاع بمستويات خطيرة تم رصدها في محافظات جنوب الضفة الغربية، وبشكل خاص في مدينة الخليل، تعود بدرجة أساسية إلى قيام سلطات الاحتلال بعمليات دفن مخلفات أنشطتها النووية بطريقة تنافي المعايير العالمية، للتخلص من هذا النوع من النفايات شديدة الخطورة في قرى وبلدات جنوب الضفة الغربية.
الخليل في دائرة الاستهداف
وتتركز عمليات دفن المخلفات النووية في مناطق وبلدات جنوب محافظة الخليل، كونها أقرب المحافظات الفلسطينية لمفاعل ديمونا النووي، إذ لا تزيد المسافة بينهما عن 40 كيلومتراً، ونظراً لوقوع هذه المناطق ضمن التصنيف الإداري (ج) وفقاً لاتفاق أوسلو، أي أنها خاضعة للسيطرة العسكرية الإسرائيلية، ما يعني أن إسرائيل تتحكم بشكل كامل في حركة الدخول والخروج لهذه المناطق، وهو ما يفسر استحالة وصول وسائل الإعلام أو الجهات الدولية ذات الصلة لهذه المناطق، لنقل شهادات المواطنين، كونهم سيكونون عرضة للاعتقال أو التعرض للأذى الجسدي من قبل قوات الجيش الإسرائيلي.
تقول مصادر إن عدد المدافن التي شيّدتها إسرائيل في مناطق الضفة الغربية يزيد عن 98 مدفناً، فرضتها إسرائيل في المناطق الفلسطينية ضمن سياسة فرض الأمر الواقع لتصريف المخلفات النووية والكيماوية السائلة منها والصلبة، تتركز غالبيتها في بلدات يطا والظاهرية ولويبلة وخويلفة والسموع ووادي الصرار وقرية بني نعيم، والتي تقع جميعها في محافظة جنوب الخليل، وتستحوذ على أكثر من ثلثي عدد المدافن المنتشرة في الضفة الغربية.
تدمير الطبيعة
مع مرور الوقت بدأت مظاهر الحياة الطبيعية في مناطق دفن المخلفات النووية بالاختفاء تدريجياً، إذ يشير بهجت جبارين مدير مكتب سلطة جودة البيئة في مدينة الخليل لـ"عربي بوست" أن مناطق شاسعة من جبال الدوايمة تحولت إلى منطقة جرداء، بعد أن كان يكسو الجبل التي تزيد مساحته عن 5 آلاف كيلومتر العشرات من عناصر التنوع الحيوي الطبيعي كالنباتات والأشجار، أهمها الزيتون والبلوط والكينا والغزلان البرية، والتي اختفت كلياً بعد أن تحولت المنطقة إلى صحراء قاحلة لا ينمو فيها أي مظهر من مظاهر الحياة الطبيعية.
وأضاف اختفاء مظاهر الحياة الطبيعية يعود لتسرب الإشعاعات النووية من المدافن التي قامت إسرائيل بتشييدها في هذه المناطق، حيث تقوم سلطات الاحتلال بعمليات حفر داخل الصخور بأعماق مختلفة يتراوح عمقها ما بين 2-6 أمتار لدفن المخلفات النووية، ثم تتم تغطيتها بمكعبات خرسانية، ولكن ذلك لم يمنع تسرب الإشعاعات النووية في الغلاف الجوي والتربة الداخلية حتى وصلت إلى عمق المياه الجوفية.
تحدث "عربي بوست" مع عدد من شهود العيان من منطقة يطا، لنقل جزء من حقيقة ما يجري في البلدة التي تضم قرابة 15 مدفناً، إذ يشير أحدهم إلى أن عمليات الدفن تتم بشكل أسبوعي في البلدة منذ ثمانينات القرن الماضي، تبدأ فصول العملية بفرض الجيش الإسرائيلي منعاً للتجوال في المنطقة قد يمتد لأكثر من عشر ساعات، ويقوم خلالها بقطع التيار الكهربائي عن البلدة، يتبع ذلك قدوم عدد من الشاحنات التي تضم عشرات البراميل، تقوم بتفريغ ما تحمل من نفايات سامة في أحد المدافن التي تم تخصيصها في البلدة، وبعد الانتهاء من العملية تأتي خلاطات الباطون لتغطية المدفن بكتلة خرسانية.
يرفض الجانب الإسرائيلي الكشف عن حجم المخلفات النووية أو طريقة معالجتها وأماكن دفنها، ولكن الباحث الفلسطيني جابر الطميزي كشف في إحدى الدراسات التي أشرف على إعدادها أن البرنامج النووي الإسرائيلي تسبب في إنتاج أكثر من 4 ملايين طن من المخلفات النووية، قامت إسرائيل بدفن 48% منها في الأراضي الفلسطينية، والجزء الآخر قامت بنقله إلى الصحراء الإفريقية والمحيطات.
إشعاعات نووية تدق ناقوس الخطر
يشير الدكتور خليل ذيابنة، الأستاذ المشارك في الفيزياء النووية والإشعاعية في جامعة الخليل أن "معدل التلوث بالإشعاعات النووية في محافظة الخليل هو أعلى بـ3 أضعاف من المعدل الطبيعي المسموح به، كما أن تركيز "النويدات المشعة" وتحديداً عنصر السيزيوم 137 المشع تم رصده في عينات التربة والماء والنباتات بنسب كبيرة، والذي يفترض أن يكون معدل وجوده صفراً".
وأضاف لـ"عربي بوست": "تركيز عنصر السيزيوم 137، والراديوم 226 غير موجود في الطبيعة، ووجوده حصراً لا ينجم إلا عن التفاعلات النووية أو من تسرب إشعاعي أو من تفجيرات الأسلحة النووية، وعالمياً لم يسجل وجود هذا العنصر في الطبيعة سوى في محيط مفاعل "تشرنوبل" في أوكرانيا، و"فوكشيما" في اليابان، ولكنه في الخليل يصل تركيزه إلى 1.3 بيكريل/كغم" (وحدة قياس الإشعاعات).
وعن خطورة تركيز هذه العناصر في الطبيعة يشير ذيابنة أنه "مع مرور الوقت تؤدي هذه العناصر إلى تفاعلات تؤثر على تركيبة الوظائف الحيوية داخل الجسم حين استنشاقها عبر الهواء، أو تناول الأطعمة الملوثة بها، ويؤدي تفاعلها إلى اختلال وظائف خلايا الجسم والتسبب في تلف الكروموسومات التي تحمل الخصائص الوراثية، ما يتسبب في حدوث تشوهات جينية للأجيال القادمة علاوة على تكرار حالات الإجهاض للأمهات".
لا يقتصر الأثر البيئي لدفن المخلفات النووية على الطبيعة فحسب، بل امتد هذا الأثر لارتفاع إصابات مرض السرطان بعضها من النوع النادر في صفوف المواطنين القاطنين في القرى والبلدات القريبة من المدافن النووية.
إصابات بالسرطان
وكان تقرير لوزارة الصحة الفلسطينية صدر في عام 2016 رصد تسجيل مدينة الخليل 32% من معدلات الإصابة بمرض السرطان على مستوى الضفة الغربية، بمعدل 1700 إصابة سنوياً، وهي أعلى من باقي مدن الضفة الغربية.
وفي سياق التوزيع الجغرافي للإصابات، يبلغ معدل الإصابات السنوية في محافظة الخليل 166 إصابة لكل 100 ألف مواطن، مقارنةً بالمعدل العام للإصابات في باقي محافظات الضفة الغربية الذي يبلغ 83 إصابة لكل 100 ألف مواطن.
أما معدل الوفيات فيبلغ 42 حالة وفاة لكل 100 ألف سنوياً، وبذلك يُعد مرض السرطان المتسبب الثاني في الوفاة بفلسطين بعد أمراض القلب.
وكان رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية قد أشار في لقاء جمعه بسفراء دول الاتحاد الأوروبي في رام الله، في 7 من ديسمبر/كانون الأول 2021، أن وزارة الصحة الفلسطينية رصدت إصابة أكثر من 6250 مصاباً بمرض السرطان في القرى والبلدات القريبة من المدافن النووية جنوب محافظة الخليل، متوعداً إسرائيل بمقاضاتها أمام المحاكم الدولية.
تتعامل إسرائيل بمنطق الموت البطيء للفلسطينيين، من خلال فرض قيود تعيق وصول المصابين بأمراض السرطان لتلقي خدمة العلاج في المشافي الإسرائيلية، كما أن سياسة انتشار الحواجز على مداخل القرى جنوب الخليل، والتي تصل إلى حد فرض حظر للتجوال قد يمتد لعدة أيام، تعيق وتؤخر وصول عدد كبير من المصابين لتلقي جرعات العلاج (الكيماوي) في مستشفى الحسين للسرطان في المملكة الأردنية، نظراً لافتقار فلسطين لأي مركز صحي لعلاج أمراض السرطان.
يرصد "عربي بوست" في هذه السطور شهادات حية، إذ تشير سيدة من قرية بني نعيم أنها اضطرت للإجهاض 3 مرات بسبب نصيحة الأطباء لها، بعد رصد وجود تشوه في الأجنة، بحيث ينمو الجنين داخل الرحم بطريقة غير طبيعية، ومن بين هذه الحالات تكون الجنين داخل الرحم بعين واحدة، وفي حالة أخرى تم رصد وجود قصور في نمو الأطراف وعدم تساويها، ما يعني أن الجنين سينمو بطريقة مشوهة.
وأضافت لـ"عربي بوست" أصبت في سرطان الرحم في العام 2013، وبعد أشهر قليلة أصيبت شقيقتي بسرطان نادر، المعروف اصطلاحاً بسرطان قاع الدماغ، حيث تكونت كتلة صلبة أعلى الرقبة، وهي حالة نادرة على مستوى العالم، وهي لا تزال تواصل علاجها في مركز الحسين للسرطان.
حالة أخرى لطفل (16 عاماً) من بلدة بيت الروش جنوب الخليل، يروي لـ"عربي بوست" عن إصابته بنوعين من السرطان في عظام القدم الذي تطور لإصابته بسرطان القفص الصدري، حيث شخصت حالته بأنها من الحالات النادرة على مستوى العالم، ويعاني الطفل من ضمور في نمو العظام التي تنمو بطريقة منتفخة، ومع مرور الوقت اضطر للاستعانة بكرسي متحرك، نظراً للآلام الكبيرة في العظام وعدم قدرتها على تحمل وزنه أثناء المشي أو الوقوف.
وفي تعليقه على هذه الشهادات يشير الطبيب الاستشاري الدكتور بلال الجوهري المختص في الأمراض الباطنة أن الأضرار الأولية التي تصيب الإنسان عند تعرضه للأشعة النووية، هي إصابة الغدة الدرقية المسؤولة عن النشاط في الجسم بالخمول، فتنخفض تدريجياً قدرته على الوقوف على قدميه وفي حالات متقدمة يفقد القدرة على الكلام.
وأضاف لـ"عربي بوست" في حال لم يستطع المريض تشخيص إصابته بالسرطان في المراحل الأولى لتعرضه للإشعاعات النووية، ينتقل الضرر إلى الجهاز المناعي الذي يتعرض للضعف، ويصبح غير قادر على مواجهة الفيروسات والبكتيريا الخارجية، وفي مرحلة متقدمة يصل الضرر إلى تفاعل الإشعاعات النووية مع الأعضاء الحيوية داخل الجسد فيصاب المريض بأنواع متعددة من مرض السرطان.
لعل ناقوس الخطر الذي تعاني منه محافظة الخليل هو استحواذها على أكثر من 32% من الإصابات السنوية التي تسجل في الضفة الغربية بمرض السرطان، فوفقاً لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية يصاب سنوياً ما يزيد عن 1700 حالة بالسرطان في محافظة الخليل وحدها.
وفي السياق ذاته، يستنزف مرض السرطان الجزء الأكبر من ميزانية وزارة الصحة الفلسطينية، حيث تقدر تكاليف العلاج السنوي داخل المستشفيات الإسرائيلية والأردنية بما بين 350 – 400 مليون دولار، في حين تتراوح تكلفة العلاج للمريض الواحد ما بين (1000 – 5000 دولار) شهرياً.
أخطر من ذلك يعاني الفلسطينيون من ندرة وجود أقراص "اللوغول" (اليود غير المشع) وهي أقراص علاجية تؤخذ عن طريق الفم، وتعمل بدورها على منع تسرب المواد المسرطنة إلى الجسم أو إحداث تفاعل مع الأعضاء الحيوية، كما تعزز هذه الأقراص من أداء الغدة الدرقية باعتبارها خط الدفاع الأول عن الجسم، ويصل سعر العبوة الواحدة التي تضم 10 أقراص إلى أكثر من (700 دولار)، في حين يقدر مخزون اللوغول" في إسرائيل بأكثر من 200 مليون قرص، توزعها الدولة بشكل دوري على مواطنيها من اليهود لتعزيز مناعتهم، ومنعاً لوصول الإشعاعات النووية إلى أجسادهم.