أعادت صفقة استحواذ أحمد عز إمبراطور الحديد في عصر الرئيس الراحل حسني مبارك على حصة أحمد أبو هشيمة في حديد المصريين والتي أعلن عن إتمامها يوم الأحد الرابع عشر من ديسمبر/كانون الأول الحالي، الضوء على الدور الذي يقوم به ضباط سابقون في الأجهزة السيادية ممن يطلق عليهم "سماسرة العلاقات" في تسهيل عقد الصفقات الكبرى بين رجال الأعمال.
وكذلك تسهيل تسيير أعمال الشركات الكبرى في مصر مع الجهات الحكومية والأجهزة البيروقراطية مستغلين في ذلك علاقاتهم الوثيقة مع زملائهم السابقين في الأجهزة السيادية المصرية، خصوصاً الجيش والمخابرات والأمن الوطني وهي الأجهزة التي تتحكم تقريباً في المشهد العام في مصر من اقتصاد وسياسة وإعلام، وصولاً إلى مختلف مجالات "البيزنس".
كانت شركة حديد عز المملوكة لرجل الأعمال للجدل أحمد عز قد أفصحت عن إتمام الاستحواذ على 18% من حصة رجل الأعمال أحمد أبو هشيمة في شركة حديد المصريين (إجمالي أسهمه في الشركة 30% بحسب البيان المقدم إلى البورصة المصرية) بقيمة إجمالية قدرها 2.5 مليار جنيه تقريباً، قالت الشركة في بيان أرسلته للبورصة المصرية إنها (القيمة المالية) تمثل القيمة العادلة للصفقة بموجب تقرير أعدته شركة مور إيجيبت للاستشارات المالية، لكن تركت الصفقة العديد من الأسئلة حول ما جرى خلف الستار وأدى إلى رفع قيمة الاستحواذ من 1.5 مليار جنيه كما أعلن من قبل لتصل إلى 2.5 مليار! وكذلك عن الطريقة التي نجح بها أحمد عز وشركته في تدبير مبلغ الصفقة من مواردها الخاصة كما جاء في بيانها الذي نوه إلى أن قيمة الصفقة سيجري تسديدها من موارد شركة عز الدخيلة للصلب- الإسكندرية، بينما كانت كل التقارير الاقتصادية التي سبقت إتمام الصفقة قد رجحت صعوبة تنفيذها بسبب الديون المتراكمة على حديد عز لمختلف البنوك المصرية!
جهاز سيادي دعم صفقة استحواذ حديد عز على حصة أبو هشيمة وتعليمات للبنوك الدائنة بعدم إثارة الجدل
وفقاً لمصادر "عربي بوست"، فإن الفضل في إتمام صفقة الاستحواذ التي تمت بإشراف من المخابرات العامة، يرجع إلى من يطلق عليهم في مجتمع رجال الأعمال "سماسرة العلاقات" الذين توسطوا للتقريب بين عز والمخابرات العامة عقب الإفراج عنه عام 2014 بكفالة
بعدما نقلوا للمسؤولين استعداد عز للتبرع بكل ما يطلب منه مقابل العودة إلى شركته وإلى المشهد الاقتصادي من جديد، حيث كان يرى في تلك العودة رداً لاعتباره بعد اتهامه بالفساد وسجنه عقب ثورة يناير/كانون الثاني 2011، ثم واصلوا دعمه وتقديمه للأجهزة السيادية باعتباره وجهاً اقتصادياً يمكن السيطرة عليه وضمان ولائه بعكس رجال أعمال آخرين بدأوا يظهرون تذمرهم بشكل علني في الفترة الأخيرة من هيمنة الجيش على مقدرات الاقتصاد في مصر، مثل نجيب ساويرس ومحمد أبو العينين قطب صناعة السيراميك.
وعلمت "عربي بوست" أيضاً من مصدر أمني أن جهازاً سيادياً مهماً في مصر دعم "مادياً" صفقة استحواذ حديد عز على نسبة من حصة أحمد أبو هشيمة، مرجعاً السبب في ذلك إلى أن عز قام بعملية الاستحواذ من الأصل بطلب من الجهاز السيادي تمهيداً لجمع الشركات العاملة في مجال الحديد والصلب في مصر تحت مظلة واحدة، كما قام البنك المركزي المصري بتمرير تعليمات سرية إلى البنوك التي يدين لها أحمد عز وشركته بعدم إثارة الجدل أو المطالبة بتسوية تلك الديون قبل إتمام الصفقة، حتى لا تؤثر سلباً على تنفيذها.
وعن ظاهرة "سماسرة العلاقات" التي بدأت تتوسع في مصر، فلقب سماسرة العلاقات هو لقب دارج في جلسات رجال الأعمال في مصر ويطلق عادة على عدد من ضباط الجيش وجهاز الأمن الوطني السابقين الذين أحيلوا إلى التقاعد لكنهم لا يزالون يحظون بعلاقات ودية مع مسؤولين حاليين في الجيش والمخابرات العامة والحربية والأمن الوطني نفسه بجانب علاقات نافذة مع أغلب الهيئات والمؤسسات الحكومية.
يقوم هؤلاء بترتيب أو تنسيق العلاقات بين تلك الأجهزة ورجال أعمال سواء الكبار الراغبين في الحصول على نصيب من المشروعات الكبرى الجارية، أو رجال الأعمال الصغار أصحاب الطموح في دخول سوق الاستثمار في مصر، ويحصل هؤلاء السماسرة بالطبع على عمولات ضخمة من كل عملية تنسيق يقومون بها، وبعضهم أغدقت عليه الأجهزة بمناصب حزبية ومقاعد نيابية لتحصين وضعه من أي مساءلة قانونية.
سماسرة العلاقات ظاهرة قديمة اتسع نطاقها مع تزايد النفوذ الاقتصادي للجيش في مصر
توسعت ظاهرة سماسرة العلاقات إلى عامي 2013 و2014 عقب الإطاحة بالرئيس الراحل محمد مرسي واستيلاء الجيش على السلطة في مصر؛ حيث أطلق الرئيس عبد الفتاح السيسي أيدي الأجهزة السيادية والجيش في الاقتصاد واحتكار المشروعات الكبرى، ما تسبب في توسيع أدوار سماسرة العلاقات الذين لم يقتصر دورهم على "توفيق الرؤوس" بين رجال الأعمال والأجهزة السيادية فحسب، ولكنه امتد للتوفيق بين شركات القطاع الخاص الطامحة في الحصول على نصيب من كعكة المشروعات الحكومية العملاقة، وبين أجهزة الحكومة البيروقراطية ومن خلفها الأجهزة السيادية التي تتحكم في كل شيء في مصر.
لم يعد بإمكان أي رجل أعمال مهما كان حجمه الحصول على حصة أو نصيب من تلك المشروعات إلا من خلال جهاز سيادي، ولا يصل إليه غالباً سوى من خلال سمسار علاقات، "وطبعاً كله بحسابه متمثلاً في عمولات بعشرات الملايين لهؤلاء السماسرة ومن يقف وراءهم.
ماذا يفعل الضباط المتقاعدون؟
الجزء الأكبر من سماسرة العلاقات من الضباط المتقاعدين، عملوا كوسطاء في قطاعات اقتصادية تتمتع بمستويات عالية من الحماية الجمركية مثل قطاع السيارات، كما تم فرض آخرين من قبل الهيئات العسكرية كأعضاء في مجالس إدارة شركات تعمل في قطاعات جديدة مثل الإعلام والإسمنت والصلب.
من ناحيتها، رأت الشركات الخاصة أن الأمر لا يخلو من فوائد، حيث أعفاها وجود هؤلاء السماسرة من التعاطي مع التعقيدات البيروقراطية بعدما تولى الضباط المتقاعدون الذين يعملون تحت لافتة شكلية كمدراء "العلاقات العامة" أو "الشؤون الحكومية" على إزالة العقبات البيروقراطية وزيادة الفرص في حصد العقود، بفضل علاقاتهم الممتدة مع زملائهم من المنتشرين في إدارات الدولة التي يتعامل معها
الضباط السابقون، باختصار أصبحوا مثل "الخط الساخن" الذي يوفر تواصلاً سريعاً وفعالاً مع الجهات الحكومية، والأهم الأجهزة السيادية التي تتحكم في كل مفاصل الاقتصاد المصري تقريباً في السنوات الأخيرة، مما يسهل لتلك الشركات الحصول على حصص من المشروعات الحكومية وكذلك التراخيص اللازمة للعمل دون مشاكل، وذلك مقابل عمولات بعشرات الملايين لهؤلاء السماسرة.
دور سماسرة العلاقات بدأ في عصر السادات وتطور في عهد السيسي
مسؤول سابق بجهاز سيادي قال لـ"عربي بوست" إن تدخل الضباط السابقين في عمليات الوساطة في مجال البيزنس بدأ على استحياء في نهاية حقبة السبعينيات من القرن الماضي، وتحديداً بعد التوسع في إحالة ضباط الجيش إلى التقاعد عقب توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل، وفي ذلك الوقت تلقى الرئيس الراحل أنور السادات نصيحة من المخابرات الحربية بأن الضباط المتقاعدين يمكن أن يصبحوا قنابل موقوتة بسبب الفراغ وقلة الدخل المادي التقاعدي..
وبالتالي بدأ في تعيين كبار الضباط المتقاعدين كمسؤولين في الأجهزة الحكومية المختلفة، لكن بقيت المشكلة في بقية الضباط ذوي الرتب الصغيرة، قبل أن يجري حل المشكلة بإلزام شركات القطاع الخاص بتوظيف نسبة من العمالة من هؤلاء، حتى إن بعض الإحصائيات ذكرت أن ما بين 10 إلى 15% من موظفي أغلب الشركات الخاصة في مصر أصحاب خلفيات عسكرية من المتقاعدين.
ومع توسع نفوذ الجيش والأجهزة السيادية في مختلف المجالات الاقتصادية في السنوات الأخيرة، تجاوز طموح الضباط المتقاعدين حدود الوظيفة ذات الراتب الثابت والعمولات البسيطة، ليقوم بعضهم بأدوار سماسرة العلاقات، حيث يظهرون في أفخم الفنادق التي تشهد تجمعات معروفة وجلسات ودية لرجال الأعمال، وشيئاً فشيئاً حدث التقارب بين الطرفين خصوصاً مع ازدياد قناعة رجال الأعمال بأن هؤلاء السماسرة طريقهم لنيل رضا الأجهزة السيادية الضروري للحصول على نصيب من المشروعات الحكومية، وأحياناً إعفاؤهم من المساءلة عن تجاوزات مالية.
رجل أعمال يروي تجربته مع سمسار علاقات.. كيف سهل له عمله وكم تقاضى؟!
رجل أعمال عمل لفترة عشرين عاماً بإحدى الدول الخليجية روى لـ"عربي بوست" قصته في التعامل مع أحد سماسرة العلاقات فقال إن الأمر بدأ قبل 5 سنوات تقريباً عندما عاد لمصر حين كان يحلم بتأسيس شركة خاصة به برأسمال يمثل تحويشة عمره، لكن وجد المشكلة الأولى وقتها أنه لكي يعمل في السوق ويحصل على أي عقود حكومية لا بد له من تسجيل شركته كشركة تابعة لإحدى الوزارات السيادية، وهو ما لم يمثل مشكلة له في ذلك الوقت، إلى أن اكتشف أن تسجيل الشركة مسألة قد تستغرق سنوات طويلة من الإجراءات البيروقراطية المعقدة، ما لم يكن هناك سمسار علاقات يسهل له الأمر، ولجأ بالفعل إلى أحد السماسرة عن طريق صديق له، وهذا السمسار كان ضابطاً سابقاً في الجيش، ذهب إليه في حديقة أحد الفنادق الفخمة المطلة على نيل القاهرة حيث اعتاد الرجل الجلوس هناك يومياً لمقابلة زبائنه الباحثين عن حصة من المشروعات الحكومية أو عن النجاة من التعقيدات البيروقراطية.
ويضيف: "طلب الضابط 100 ألف جنيه مقابل تسريع إجراءات تسجيل الشركة، ولم أجد بداً من الموافقة، وبالفعل نفذ ما وعد به ولم يمض أسبوع واحد حتى انتهت إجراءات تسجيل الشركة وفتح ملف ضريبي لها، لكن المشكلة أنني اكتشفت لاحقاً أن السمسار يشترط حصوله على عمولة لا تقل عن 200 ألف جنيه عن أي مشروع يسند إلى شركتي، بصرف النظر عن معدل الربح المتوقع من المشروع.
عبثاً حاولت إقناعه بأن بعض المشروعات تغطي تكاليفها بالكاد، لكنه أصر على شرطه وكان عليّ الانصياع له لأن البديل إلغاء تسجيل الشركة في الوزارة وربما يصل الأمر إلى تلفيق تهمة لي مثل رجال أعمال آخرين سمعت قصصهم وأنا جالس مع السمسار في حديقة الفندق الفخم، ممن حاولوا التمرد على سطوة سماسرة العلاقات فكان نصيبهم دخول السجن بتهم مختلفة منها الفساد المالي والتربح والرشاوى".
عمل سماسرة العلاقات "مؤسسي" والعمولات تقسَّم تحت سمع وبصر الأجهزة الرقابية
هل يعمل هؤلاء السماسرة بمفردهم أم لحسابهم الخاص؟! أم أنهم مجرد واجهات للأجهزة السيادية نفسها؟! سؤال طرحته "عربي بوست" على إعلامي مصري عمل لسنوات محرراً عسكرياً ويملك علاقات ودية مع مسؤولين كبار في القوات المسلحة، قال إنه من الصعب الجزم بالأمر في ظل مناخ السرية المفروض على كل ما له علاقة بالجيش والأجهزة السيادية في مصر، فلا أحد يعرف مصادر التمويل ولا أوجه الإنفاق، فضلاً عن تفاصيل ميزانية تلك الجهات، لكن من واقع الخبرة يصعب تصور أن سماسرة العلاقات يعملون بمفردهم أو لحسابهم الخاص لأكثر من سبب.. الأول، الثقة التي يتحدثون بها والقدرة التي يتمتعون بها على إنجاز أي مهمة مع الأجهزة السيادية مهما بلغت درجة تعقيدها، وهذه أمور أعرف بحكم خبرتي في التعامل مع عدد من الأجهزة السيادية يستحيل أن تتم بشكل ودي.
أو بموجب علاقات بين الضابط السابق وزملاء له لا يزالون في الخدمة، ولكنها تتم بشكل مؤسسي وبمباركة مسؤولين في الأجهزة السيادية، ما يعني أن هناك حصصاً توزع بنسب معينة من العمولات التي يحصل عليها سمسار العلاقات، وهذه الحصص يتم تحديدها وتوزيعها تحت سمع وبصر الأجهزة الرقابية التي ترى أن إطعام أفواه الضباط والمسؤولين في الأجهزة السيادية كفيل بضمان ولائهم للنظام خاصة مع الصعوبات المعيشية المتزايدة في مصر.