أعادت أحداث مكب نفايات "القنة" بمحافظة صفاقس بتونس إلى الواجهة ملف مكبات النفايات في البلاد، وما تسببه من كوارث بيئية فضحت فشل سياسة الدولة في التصرف في هذه المكبات.
وتسيطر مافيات ولوبيات على "سوق" النفايات في تونس الذي يدر الربح الوفير، إذ يبلغ حجم النفايات الصحية في تونس سنوياً 18 ألف طن، من بينها 8 آلاف طن من النفايات الخطرة.
وحسب المعلومات التي تحصّل عليها "عربي بوست " من مصادر خاصة فإن 7 شركات متعاقدة حالياً مع كل المستشفيات لمعالجة النفايات الاستشفائية الخطرة، وهي الشركات التي تشكل لوبياً بيئياً تقوم بمعالجة قرابة 12 ألف طن من هذه النفايات سنوياً.
وتشهد معتمدية عقارب الواقعة بمحافظة صفاقس جنوبي تونس موجة احتجاجات؛ بسبب قرار وزارة البيئة التونسية إعادة فتح مكب نفايات "القنة" بعد إغلاقه بقرار قضائي.
وقد قوبل قرار إعادة فتح المكب باحتجاجات أهالي عقارب الذين ووجهوا بالغاز المسيل للدموع من قبل قوات الأمن، في محاولة للتصدي لهذا الحراك الذي أخذ منحى تصعيدياً بعد وفاة أحد المحتجين.
مكبات النفايات في تونس.. الإبادة الجماعية
يوجد في تونس أكثر من 12 مكباً للنفايات أكبرها مكب "برج شاكير" بالعاصمة، والذي يمتد على مساحة 124 هكتاراً ويستقبل حوالي 3 آلاف طن من النفايات من 38 بلدية، تلقى بطريقة عشوائية؛ مما أسفر عن مساحة مفتوحة بـ12 هكتاراً من القمامة بارتفاع ناهز 30 متراً.
أيضاً يوجد مكب "تالبت" للنفايات بمنطقة سدويكش التابعة لمحافظة جربة، الذي يستقبل نفايات كامل الجزيرة، ويحتوي على كم هائل من مكعبات القمامة يصل وزن الواحدة منها إلى 500 كغ، وأكوام عالية من النفايات.
هذه المكبات عشوائية وليست مراقبة وهي تعتمد على الردم المباشر للنفايات العضوية دون أي فرز مع المواد البلاستيكية أو المعدنية، مما ينجر عنه رطوبة مرتفعة وتخمير عشوائي يؤدي إلى مياه الرشح، وانبعاث الروائح الكريهة.
عادل الهنتاتي، الخبير الدولي في البيئة والتنمية المستدامة قال إن "انبعاث الغازات السامة والروائح الكريهة من المكبات العشوائية يعود إلى غياب الرقابة، وعدم اعتماد طرق تقنية خاصة لفرز النفايات وردمها".
وأضاف المتحدث في تصريح لـ"عربي بوست" أن "سياسة معالجة النفايات في تونس ينتج عنها انتشار الجرذان والناموس وتلوث الهواء ومرض الربو، وإصابة الجهاز التنفسي، كما أن مزج النفايات الطبية بالنفايات المنزلية يؤدي إلى أمراض سرطانية".
مافيا النفايات أقوى من الدولة
ترتبط مافيا النفايات في تونس بشبكات معقدة تنشط في تجارة المكبات، وتجني من ورائها أرباحاً طائلةً، وهي تتحرك تحت غطاء شركات خاصة قانونية متعاقدة مع الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات، وفق دفتر تحملات يخضع لشروط تضبط طرق ممارسة أنشطة جمع وخزن ونقل ورسكلة وتثمين النفايات غير الخطرة.
وحسب تصريح عادل الهنتاتي الخبير الدولي فإن هذه الشركات المستغلة للمكبات لم تطبق الإجراءات التقنية المطلوبة لتدوير النفايات ومعالجتها، ولم تلتزم بدفتر التحملات، الذي بدوره يحتوي على العديد من الإخلالات، مما زاد في تفاقم أزمة المكبات.
وكشفت تقارير لهيئات رقابية تونسية عن وجود شبهات فساد بالوكالة الوطنية لحماية المحيط، وبالوكالة الوطنية للتصرف في النفايات؛ وهو ما أثبته تقرير هيئة الرقابة العامة للمصالح العمومية بتاريخ 17 مارس/آذار 2012، بعد إجراء عملية تفقد لبعض أوجه التصرف بالوكالة، خصوصاً الجوانب المتعلقة بالتصرف في منظومة دراسة المؤثرات على المحيط.
واعتبر حمدي شعبان، المختص في تثمين النفايات المنزلية أن "قضية النفايات ليست مسألة تلوث بيئي لاغير، بل تتعدى ذلك إلى تقاطع مصالح مع لوبيات تنشط في هذا المجال وبعضها أجنبي، لذلك مرت هذه المنظومة الفاسدة باستعمال القوة في جهة عقارب لقمع الأصوات الرافضة لعودة مصب (القنة) إلى النشاط بعد أن تم إغلاقه بقرار قضائي".
وأضاف المتحدث حسب تصريح لـ"عربي بوست" أن "هذه المافيات أقوى من الدولة، ولها ارتباطات عميقة بأطراف سياسية وأحزاب وغيرها، وبمسؤولين سواء في وزارة البيئة أو في الوكالة الوطنية لحماية المحيط، أو الوكالة الوطنية للتصرف في النفايات".
من جهته، يرى رمضان بن عمر المكلف بالإعلام في المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية أن "الشركات التي تتحكم في مصبات النفايات في تونس تحوم حولها العديد من الشبهات، وتتمتع بحصانة تمكِّنها من تعطيل مشاريع ما يسمى بالانتقال البيئي وتثمين وتدوير النفايات في إطار الاقتصاد الدائري، والدليل على ذلك أن الحلول والمقترحات لتجاوز حالة "الموت البطيء" الذي تحدثه النفايات وانتشار الأمراض السرطانية وغيرها نتيجة انبعاث الغازات القاتلة، لا يتم اعتمادها من قبل الدولة وتردم في الأرفف".
النفايات الإيطالية بتونس.. مافيا عابرة للقارات
ضبطت سلطات الجمارك في ميناء مدينة سوسة شرقي تونس في يوليو/تموز الماضي 282 حاوية تضم "نفايات بلاستيكية سامة" قادمة من إيطاليا، ولا تتطابق مع معايير استيراد النفايات في العالم.
ووجه على إثر ذلك قاضي التحقيق تهمة التدليس والاستيراد الممنوع إلى عدد من المتهمين، واستمع قاضي التحقيق في هذا الملف إلى 26 شخصاً بينهم 6 بحالة إيقاف، من بينهم وزير البيئة السابق مصطفى العروي، ومتهم آخر بحالة فرار وهو صاحب الشركة الموردة للنفايات الإيطالية وصادرة في شأنه بطاقتا ضبط وطنية ودولية.
وتورطت في هذه القضية، التي تفجرت في تونس قبل أشهرٍ شركة "سوريبلاست" بسوسة، المختصة في تثمين النفايات البلاستيكية.
وأكد النائب بالبرلمان التونسي المجمدة اختصاصاته مجدي الكرباعي لـ"عربي بوست" أن هناك نفايات أخرى دخلت من إيطاليا إلى تونس متعلقة بفواضل النسيج، وأخرى تستعمل في أفران الأسمنت، وتم الكشف عن 60 حاوية كانت معدة للتصدير إلى تونس متجهة إلى معمل الإسمنت ببنزرت.
وأضاف المتحدث أنه حصل على وثيقة من محكمة كالابريا الإيطالية التي هي جزء من عملية كشف شبكة "إندرنفتا" المختصة في التجارة بالنفايات، والتي صُدّرت نفايات لتونس.
هذه الوثيقة هي بحث قامت به الفرق المختصة لمجابهة الجريمة المنظمة في إيطاليا، والتي كشفت أنّه تمّ إنشاء مصبات في تونس من أجل التخلص من نفايات "الخردة" التي دخلت عبر ميناء يبعد عن العاصمة 50 كلم، وذلك بتواطؤ من وزارة البيئة.
ولقد أثبتت التقارير الوطنية والدولية على غرار الوكالة الوطنية لحماية المحيط والمركز الدولي لتكنولوجيا البيئة خطورة الغازات السامة المنبعثة من المصبات، وما تسببه من روائح كريهة يستحيل معها العيش، هذا إضافة إلى الأمراض الخطيرة التي تنجر عنها، إلا أن سياسات الدولة في التعاطي مع الملف أثبتت فشلها لوجود مافيات تنشط في هذا المجال تكاد تكون مرتبطة ارتباطاً عضوياً بأطراف سياسية وبمسؤولين متنفذين داخل الدولة يوفرون لهم الغطاء القانوني، ويغضون الطرف عن أنشطتهم "المشبوهة" في مجال النفايات الطبية والصحية وغيرها.
النفايات في تونس تسيل لعاب السياسيين
وما يؤكد تقاطع المصالح مع أطراف سياسية سقوط حكومة إلياس الفخفاخ في 15 تموز/يوليو 2020 في تونس، وهي الحكومة التي لم تعمر طويلاً بسبب صفقة لإعادة تدوير النفايات.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد لتفوح مرة أخرى روائح القمامة من الميناء التجاري بمحافظة سوسة، وما يعرف بقضية النفايات الإيطالية التي كشفت عن وجود شبكات عابرة للقارات تنشط في هذه التجارة.
وقد أسقط هذا الملف شكري بلحسن، وزير البيئة الأسبق ومسؤولين آخرين، بعد ثبوت تورطهم في انتظار استكمال التحقيقات والإطاحة بكامل الشبكة.