"الأخ الأكبر يراقبك" جملة شهيرة من رواية الكاتب العالمي جورج أوريل جاءت في روايته "1984" والتي وصف بها حالة المراقبة في الأنظمة الشمولية لتثبيت أركانها، حالة تعيشها بعض المنظمات الصحفية في مصر لا سيما القومية منها والمحسوبة على النظام، فجميع العاملين بها مراقبون.
والرقابة على الصحف فكرة شائعة في مصر، منذ عهد مبارك، سواء كانت في الصحف القومية أو المستقلة أو الحزبية، لكن ما تطور فيها هو وجود تلك الغرفة المظللة بزجاج "فاميه" في الصحف القومية، لا يعرف من بداخلها ولكنه يفرض رقابة على كل حرف يكتب ويصدر فيها.
"الرجل الخفي" اسم على مسمى كما يقول مدير تحرير بإحدى الصحف القومية في مصر، لا يعرف أحد حتى من كبار الصحفيين في تلك المؤسسة هويته ولا حتى رتبته داخل الجهاز الذي يعمل فيه، كما أنهم غير واثقين مما إذا كان يعمل في الأمن الوطني، كما كان عليه الحال طوال 40 عاماً تقريباً؛ إذ كان الأمن الوطني هو من يشرف على ملف الإعلام في مصر، أم أنه يعمل في جهاز المخابرات العامة التي وضعت يدها بقوة على هذا الملف منذ أن تولى اللواء عباس كامل، مدير مكتب الرئيس السيسي السابق، رئاسة المخابرات قبل حوالي 5 سنوات، لكنه يقرر بنفسه ما ينشر ويذاع وما يمنع حسب وجهة نظره التي لا يستطيع أحد من أبناء المهنة أن يناقشه فيها.
رقيب الصحافة الخفي لا يقبل مراجعة قراراته من أهل المهنة!
يضيف: "المشكلة أن (الرجل الغامض) يتحكم في كل التفاصيل الخاصة بالتحرير، رغم أنه من الواضح لا يفهم في الصحافة والإعلام كما أنه شخص يبدو من ملاحظاته أنه محدود الثقافة، لكنه رغم ذلك لا يستطيع أحد من مدراء التحرير في الجريدة المرموقة مراجعته أو توضيح أخطائه"، وفي هذا الصدد يتذكر الصحفي موقفاً طريفاً تسبب فيه الرجل الخفي قبل عامين تقريباً وأدى إلى تأخر صدور الطبعة الأولى من الجريدة لأكثر من ساعة، مما تسبب في خسائر مالية ضخمة نتيجة تأخر التوزيع الليلي في العاصمة المصرية، وكذلك عدم اللحاق بمواعيد القطارات الليلية التي تتولى توصيل أعداد الصحيفة إلى المحافظات المختلفة.
الخطأ الذي اكتشفه الرقيب كان اعتراضاً على عنوان في الصفحة الأولى يقول "المنتخب المصري في مواجهة مصيرية مع منتخب الأولاد" وذلك في معرض تقديم مباراة منتخب مصر مع جنوب إفريقيا في ثمن نهائي كأس الأمم الإفريقية الأخيرة التي استضافتها مصر صيف عام 2019، وأرجع اعتراضه على العنوان إلى أنه من غير اللائق وصف منتخب إفريقي ضيف على مصر بأنه "منتخب الأولاد"!!
لم يقبل حينها "والكلام على لسان مدير التحرير" أي تفسيرات من مسؤولي التحرير في الجريدة لإفهامه أن كلمة الأولاد ليست من صنع كاتب الخبر وإنما هو لقب أطلقه عليهم نيلسون مانديلا المناضل الشهير ضد العنصرية ورئيس جنوب إفريقيا لاحقاً، وهو مترجم من عبارة "بافانا بافانا" بلغة الزولو التي تعني الأولاد الأولاد.
المشكلة أن وجود هذا الرجل لا يضيف شيئاً ولا يمنع كثيراً من الأخطاء؛ وذلك لأنه قليل الخبرة ولا يسمع لأحد، مما خلق حالة من اللامبالاة بين الصحفيين المسؤولين عن إقرار المواد الصحفية قبل نشرها، ويتذكر في هذا السياق خطأ فادحاً وقعت فيه الصحيفة في حق زوجة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وتحديداً في خبر تحدث عن زيها الذي ارتدته في حفل ما، لكن تم استبدال حرف الياء في كلمة زي بحرف الباء، وهو ما جعل الكلمة تؤدي إلى معنى بذيء في مصر، وقال إن الخطأ وقع بالأساس نتيجة التسرع والرغبة في "تقفيل" الجريدة بشكل سريع؛ تحسباً للوقت الذي يستغرقه الرقيب المجهول في مراجعة العدد، لكن المفارقة أن الرجل لم ينتبه لهذا الخطأ رغم أن وظيفته الأولى التأكد من كل حرف ينشر ويخص الرئيس أو أحداً من أفراد أسرته.
وبحسب اتصالات أجراها "عربي بوست" مع مسؤولين سابقين في أجهزة أمنية فإن الرجل الخفي لم يعد تابعاً لجهة أمنية واحدة، مثلما كان عليه الحال طوال سنوات طويلة بأن الأمن الوطنى "أمن الدولة سابقاً" كان هو من يتولى مهام الرقابة الداخلية على الإعلام، تاركاً مهام الرقابة الخارجية لجهاز المخابرات العامة، وإنما حدث نوع من الخلط يصل في بعض الأحيان إلى صراع بين الجهازين الأمنيين، ويتداخل معهما جهاز المخابرات العسكرية لممارسة الرقابة، في مختلف المجالات خصوصاً الصحافة والإعلام.
المنع عقوبة من لا يطيعون التعليمات
تكررت في السنوات الأخيرة ظاهرة منع طباعة صحف مختلفة في أيام معينة بسبب اعتراض على عناوين موضوعات أو على مضمون تحقيقات أو أخبار يرى ذلك المسؤول أنها لا تتفق مع السياسة العامة للدولة، والملاحظة أن الرقيب لا يفرق بين الصحف الموالية للدولة بشكل كامل أو كما يقال عنها في مصر "ملكية أكثر من الملك نفسه" وبين الصحف التي يمكن تصنيفها معارضة.
ففي 9 أبريل/نيسان 2017، تعرضت جريدة البوابة للمصادرة؛ ما دفع رئيس تحريرها عبدالرحيم علي، أحد الصحفيين المعروفين بقربه من الجهات الأمنية، لإصدار بيان أدان فيه عملية المصادرة رافضاً مزايدة الأجهزة الأمنية عليه، بسبب مقال في الصحيفة حمل فيه وزارة الداخلية المصرية المسؤولية عن تفجيرات كنيستي "مار جرجس" بطنطا و"المرقسية" بالإسكندرية.
بينما تم منع عدد من جريدة "المصري اليوم" التي اعتادت على مشاغبة أي نظام حكم في مصر بسبب الحلقة الثامنة من ملف "ثعلب المخابرات المصرية" الذي يكتبه الكاتب الصحفي محمد السيد صالح، ولم تتم طباعة الجريدة إلا بعد حذف الموضوع، كما تعرض مالك الصحيفة السابق، رجل الأعمال صلاح دياب لتأنيب من أجهزة أمنية خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة بسبب مانشيت الجريدة الذي جاء فيه أن الحكومة تحشد الناخبين للتصويت، ما اعتبرته تلك الجهات تلميحاً لتدخل الدولة في عملية التصويت، وهو ما دفع دياب لإقالة رئيس تحرير الجريدة وقتها محمد السيد صالح من منصبه.
وفي 14 أغسطس/آب من عام 2015، قامت جهة أمنية بجمع و"فرم" أحد أعداد جريدة صوت الأمة بعد الانتهاء من طباعته بمطابع الأهرام، بسبب احتواء العدد خبراً يتحدث عن أحزان الرئيس لمرض والدته وزيارته لها في مستشفى الجلاء، بحسب تصريحات رئيس تحرير الجريدة عبدالحليم قنديل، الذي أكد أن الجريدة أعدت نسخاً بديلة بعد رفع الخبر المختلف عليه، وعاودت طبع الصحيفة وطرحها في الأسواق من جديد.
بعد ذلك بنحو أسبوع واحد أوقفت مطابع الأهرام بناءً على تعليمات من جهات أمنية طباعة جريدة الصباح؛ لأن العدد تضمن مقالاً عن محمد بدران، الرئيس السابق لحزب مستقبل وطن، والذي جاء تحت عنوان: "كيف تكون طفلاً للرئيس في 9 خطوات". وقال وائل لطفي، رئيس تحرير الصباح: إن هناك جهة طلبت تغيير المقال، رغم أنه قام بعرضه على محمد بدران، للرد، ولكنه رفض التعليق على المقال.
كما تم منع طبع أحد أعداد جريدة "المصريون" الأسبوعية بسبب تحفظات "مجهولة المصدر" على مقال جمال سلطان رئيس التحرير، بعنوان: "لماذا لا يتوقف السيسي عن دور المفكر الإسلامي"، ينتقد تركيز الرئيس عبدالفتاح السيسي على مسألة الخطاب الديني أكثر من انشغاله بواجبات وظيفته الأساسية، ومنع طبع عدد آخر من نفس الجريدة للاعتراض على تقرير منشور فيه بعنوان: "الغموض يحيط بزيارة السيسي إلى بريطانيا خوفاً من الاعتقال"، والذي يتناول مصير زيارة الرئيس عبدالفتاح السيسي إلى بريطانيا نهاية عام 2015، لكن إدارة التحرير استبدلت الموضوعين، ما أدى إلى السماح بطباعة العدد.
كذلك صدر قرار بوقف طبع جريدة الأهالي قبل عامين تقريباً بسبب تحقيق منشور فيها، كما تقول الكاتبة أمينة النقاش رئيس تحرير الجريدة، وتوضح أنها تلقت اتصالاً هاتفياً في وقت متأخر من مساء يوم الثلاثاء الذي تطبع فيه الجريدة، من أحد أعضاء الأمانة العامة للمجلس الأعلى للإعلام، يخبرها باعتراض الرقيب على تحقيق صحفي احتواه العدد يتناول حصول بعض المُدانين في قضايا عنف على عفو رئاسي، وطالب عضوُ الأمانة العامة باستبدال التحقيق حتى يتسنى طبع الجريدة، لكن بعد التشاور مع مجلس التحرير وقيادة الحزب، تم رفض طلب الحذف أو التعديل؛ ما أدى إلى وقف الطبع.
رؤساء التحرير يوافقون من أجل البقاء في مناصبهم
تعليقاً على المنع المتكرر تحدث أحد أعضاء مجلس نقابة الصحفيين في مصر مع "عربي بوست" قائلاً إن من يتحملون مسؤولية طغيان الرقابة على الإعلام والصحف، هم الصحفيون أنفسهم وخصوصاً رؤساء تحرير الصحف الذين يميلون للتهدئة و"سماع الكلام" من أجل البقاء في مناصبهم، مشيراً في هذا السياق إلى ما حدث في شهر أكتوبر/تشرين الأول من عام 2011 حين قرر عدد كبير من كتاب المقالات في الصحف المختلفة الامتناع عن كتابة مقالاتهم بسبب عودة الرقابة الأمنية على المطبوعات، وظهر بالفعل عدد من الصحف وفيها مساحات بيضاء مكان المقالات التي لم تكتب.
أما الآن- والكلام لا يزال لعضو مجلس النقابة- فالكل يعمد إلى التهدئة والخضوع لسلطة الرقيب رغم قناعته بأن أغلب ما يعترض عليه يتسم بعدم الإنصاف، ويذكر العضو واقعة حدثت مؤخراً حين نشرت مجلة فنية مصرية مقالاً عن المطربة آمال ماهر، ما أثار حفيظة الرقيب السري الذي سارع بالاتصال بأكثر من مسؤول في المؤسسة الصحفية القومية التي تصدر عنها المجلة وأسمعهم ما لا يرضيهم بدعوى أن الكتابة عن المطربة المصرية في الوقت الحالي بمثابة استفزاز للمستشار السعودي تركي آل الشيخ الذي يقال إنه تزوج آمال ماهر ثم انفصلا وبينهما العديد من المشاكل حالياً، وطلب منهم عدم ترويج المقال في مواقع التواصل الاجتماعي قائلاً بشكل واضح: "انسوا إن فيه مطربة اسمها آمال ماهر".
وأردف قائلاً إن كل المسؤولين الذين تحدث معهم الرقيب الخفي لم يتخذوا موقفاً أو يعترضوا على مضمون ما قاله لهم أو حتى الطريقة التي تحدث بها، وفي نفس السياق رفض وائل لطفي رئيس تحرير جريدة الصباح تصعيد الأمور حينما تم منع طباعة عدد من الجريدة، رغم أن النقابة عرضت وقتها التدخل في الأمر، وبالتالي فإنه طالما كان الانبطاح هو موقف رؤساء التحرير أو المسؤولين عن الصحف سيظل من الصعب التضامن لمواجهة تغول الرقيب الخفي على الصحافة.
من هو الرقيب وما هي حدود تدخله؟
كثير ممن تحدثنا إليهم في الصحف القومية لا يعرفون وسائل الرقيب في ممارسة دوره، ولا يعرفون بالتالي أن المسؤولين عن مطابع المؤسسات القومية في مصر التي تتولى طباعة الصحف الخاصة سواء اليومية أو الأسبوعية لديهم أوامر صارمة بالتواصل مع ضباط محددين في الأمن الوطني، حيث يقوم هؤلاء المسؤولون بإرسال صفحات كل جريدة تطبع عندهم على رقم "واتس آب" يرسل إليهم ولا يعطون أمر الطباعة إلا بعد أن يرد عليهم من يملك الرقم بالموافقة، أو يطلب منهم تغيير خبر أو أكثر، وبالتالي يعودون إلى مندوب الصحيفة المتواجد في المطبعة لتنفيذ ما يطلبه الرقيب وإلا فإن النتيجة هي عدم طباعة العدد.
أحد هؤلاء المسؤولين يقول إنه لا يتلقى تعليماته سواء بالطبع أو المنع من مدير المطابع أو رئيس مجلس الإدارة المعنيين بالأمر، بل إنهما في أغلب الأيام لا يعرفون مسألة منع طبع أي جريدة إلا في اليوم التالي، وهما لا يمانعون تقليص دورهم حسب قوله، لأنهم يعرفون أن القرار في النهاية في يد الضابط وأن أي محاولة منهم للتدخل قد تقلص مدة بقائهم في مناصبهم، وبالتالي يخضعون للأمر الواقع.
وحتى لا تُتهم الدولة بمخالفة المادة الـ71 من الدستور المصري التي تحظر بأي وجه، فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها. ويجوز استثناءً فرض رقابة محددة عليها في زمن الحرب أو التعبئة العامة، تقوم الأجهزة الأمنية بممارسة دورها الرقابي من خلف ستار المجلس الأعلى للإعلام الذي يحق له بموجب المادة الرابعة من القانون رقم 180 لسنة 2018، والمسمى بقانون تنظيم الصحافة واﻹعلام، التي منحت المجلس اﻷعلى للإعلام صلاحيات الحجب والمنع والمصادرة الصحف والوسائل اﻹعلامية المصرية وفقاً لمعايير فضفاضة قابلة للتأويل مثل: "اﻵداب العامة" و"النظام العام" و"اﻷمن القومي"، حيث قالت الكاتبة الصحفية أمينة النقاش إن من يتواصل معها أعضاء بالأمانة العامة للمجلس الأعلى للإعلام، لكننا نعلم أن ما يقولونه ليس قرارهم بل إنهم هم أنفسهم يتعرضون لضغوط كبيرة.