من المعلوم أن العملات النقدية المعروفة تقوم على تغطية قيمتها برصيدٍ من الذهب المودع لدى البنوك المركزية في دول إصدارها، وتزيد وتنقص قيمتها بناء على عاملين أساسيين هما التضخم والمضاربة، بحسب قاعدة العرض والطلب. فكلما قامت الدولة بطبع أو سك عملات نقدية جديدة دون تغذية رصيدها من الذهب بالمقابل انخفضت قيمة العملة، وبالتالي انخفضت قدرتها الشرائية، وكذلك الحال بالنسبة للوفرة، في ظل العرض الكثيف للعملة في الأسواق وضعف الطلب عليها. أما في حال ارتفاع الطلب وشح العملة في السوق فإن قيمتها سترتفع بطبيعة الحال.
ما كان يشغلني دوماً هو كيف حصلت العملات الرقمية كالبيتكوين على قيمتها الأولية عند نشأتها، وكيف تم تقديرها وهي غير مرتبطة برصيدٍ من المعادن النفيسة كالذهب؟
لا أدعي الخبرة الاقتصادية في المضاربات التجارية، ولا المعرفة النوعية في صيرفة العملات الافتراضية، فلهذا المجال جهابذته ورجالاته، ولكن حركني فضولي العلمي كمهندس كهرباء متخصص في مجال الاتصالات والإلكترونيات، وحيث إن البيتكوين ونشأتها أمر مرتبط بالهندسة الكهربائية واقتصادياتها، فقد قررت الكتابة عن هذا الجانب المهمل من قصة البيتكوين، التي استهوت الكثيرين في الآونة الأخيرة من كُتابٍ مهتمين وقُراءٍ متابعين وتجارٍ مضاربين، بعد أن وصلت أسعارها عنان السماء، وبدأت بالتأرجح تارةً صعوداً يحبس الأنفاس وتارةً هبوطاً يخلع القلوب.
بات القاصي والداني يعرف أن البيتكوين تنشأ من عملياتٍ حسابيةٍ متسلسلة شديدة التعقيد، تقوم بها شبكة من الحواسيب، تتضافر لإنتاج بروتوكول محكم التشفير غير قابل للاختراق أو التتبع، بحيث يملك هذا البروتكول فقط من يعرف كلمة السر الخاصة به. هذا البروتوكول صار يعرف بالبيتكوين، وعملية الوصول إليه صارت تعرف بالتعدين.
نترك البيتكوين عند هذا الحد لنعود إليها لاحقاً وننتقل الآن للكهرباء، ذلك الاختراع الذي غير ملامح الحضارة الإنسانية. ولتبسيط مفهوم الكهرباء أستخدم المثال التالي: تخيل أن ينبوعاً يتفجر بالماء، وهذا الماء يجري ضمن مجرى معين، سواء كان هذا المجرى نهراً أو جدول ماء، وينتهي هذا المجرى إلى البحر يصب فيه مياهه منهياً رحلةً طويلة لعشرات الأميال من النبع إلى البحر. خلال رحلة الماء في مجراه يستفيد من هذا الماء الجاري كل شخصٍ اقترب من مجرى الماء واغترف منه بكوبٍ أو إناءٍ أو برميل، كلُّ بحسب حاجته. الماء المغترف تمت الاستفادة منه بشكلٍ أو بآخر، أما بقية الماء الجاري الذي لم يستغل فقد استمر بالجريان حتى تم هدره حينما خالط مياه البحر المالحة في مصبه الأخير. تلك هي -أيها السادة- قصة الكهرباء ببساطة، حيث تقوم شركات الطاقة الكهربائية بتأسيس وتشغيل محطات عملاقة لتوليد الكهرباء، التي تمثل الينبوع في قصتنا، أما الكهرباء فهي الماء الجاري، في حين أن شبكة الأسلاك والكابلات هي بمثابة مجرى الماء، والمغترفون من الماء هم نحن أيها السادة!
الفرق بين القصة والحقيقة أن الله عز وجل يفجر الأرض ينابيع وعيوناً، ويجري الماء المتفجر منها في أنهار وجداول لتنتفع به المخلوقات، وما يفيض منها يصب في مصبٍّ طبيعي ليتابع الماء دورته المعروفة في الحياة بإتقان مدهش لا يبدعه إلا الخالق. والكرم كما الإبداع صفة من صفات الخالق الكثيرة، فهذا الماء متاحٌ للجميع وبالمجان، في حين أن تصميم تلك المنظومة الطبيعية المتقنة لا هدر فيه إلا بما اكتسبته أيدي الناس. أما شركات الكهرباء والقائمون عليها فقد عجزوا عن مجاراة هذا المثال البديع، فكان لا بد من هدر الطاقة الكهربائية المنتجة هدراً تاماً في نهاية المطاف، ما لم تُستغل، ولأن شركات الكهرباء شركات ربحية لا تتعامل بمفاهيم الكرم والعطاء بغير حساب كان لا بد من دفع ثمن ما يتم استغلاله من الطاقة الكهربائية، كلُّ بحسب استهلاكه.
نعود الآن لقصة البيتكوين، فإن عملية التعدين كما بينا تتطلب شبكة عملاقة من الحواسيب المعقدة، التي تعمل ليل نهار لشهورٍ طويلة دون كللٍ أو ملل لإنتاج بيتكوين واحدة، الأمر الذي يؤدي لاستهلاك كبير جداً للطاقة الكهربائية طوال المدة اللازمة لتلك الحواسيب لإتمام العمليات الحسابية بالغة التعقيد للوصول للبيتكوين. لذلك كان من المنطقي أن ترتبط القيمة الأولية للبيتكوين في بدايات نشأتها بقيمة الطاقة الكهربائية التي تم استهلاكها خلال عملية التعدين، لتحل بذلك الطاقة الكهربائية في تقييم العملات الافتراضية محل الذهب، حسب الطريقة التقليدية لتقييم العملات النقدية المعروفة، و ليلعب عامل العرض والطلب لاحقاً الدور الأهم والأكبر في تحديد قيمة العملة السوقية، والذي قفز بهذه القيمة قفزات هائلة بسبب المضاربات عليها بحيث أصبحت قيمتها الأولية التي اكتسبتها من الكهرباء هامشية لا تذكر بالنظر لقيمتها السوقية الحالية.
الرابحين من البيتكوين
بناءً على ما تقدم يمكن تقسيم الرابحين من ظاهرة البيتكوين على النحو التالي:
- شركات توليد وتوزيع الطاقة الكهربائية: هي بلا شك أكبر الرابحين بالنظر إلى عامل المخاطرة، فقد تمكنت تلك الشركات من الاستفادة بشكل مذهل من سوقٍ جديد ظهر فجأة من العدم (هذا على فرض أن هذه الشركات لم تسهم بشكلٍ من الأشكال في خلق هذا السوق من الأساس، أو أنها عملت على ازدهاره لاحقاً على أقل تقدير). هذا السوق الذي مثل لها الحل السحري لتقليص الهدر في الطاقة الكهربائية المنتجة غير المستغلة، والتي يتعذر تخزينها بشكل ناجع للاستفادة منها لاحقاً، فكانت فكرة التعدين بمثابة طوق نجاة تمكنت بموجبه شركات الطاقة من جني عوائد من منتج معدم لم يجد من يستغله، وكان يشكل بمصاريفه التشغيلية عبئاً يثقل كاهل أرباحها. أما عامل المخاطرة بالنسبة لهذه الشركات فهو صفر حقيقي بمعنى الكلمة، فالكلف الرأسمالية اللازمة للتأسيس مدفوعة أصلاً ولم تلحق بها زيادة من أي نوع، وكذلك الحال بالنسبة للكلفة التشغيلية، في حين أن عائدات الشركة قد زادت، وهوامش الخسارة الناجمة عن هدر المنتج قد تقلصت.
- المُعَدِّنون: وهم الشريحة التي تعكف على إنتاج البيتكوين عبر عملية التعدين، فهم ثاني أكبر الرابحين بالنظر إلى عامل المخاطرة. تكلفتهم الرأسمالية محدودة وبسيطة، تتمثل في تكلفة الحواسيب وملحقاتها، أما كلفتهم التشغيلية فهي استهلاكهم للكهرباء اللازم لإنتاج البيتكوين، وبناءً على أسعار البيتكوين الجنونية هذه الأيام فإن تكلفة التعدين لا تقارن بسعر البيتكوين، فهم رابحون حتماً مهما تذبذبت أسعار السوق، ومع افتراض أسوأ الاحتمالات لا يمكن لسعر البيتكوين أن ينخفض لما دون كلفة الكهرباء اللازمة لإنتاجها.
- المضاربون: وهم شريحة التجار الذين يبحثون عن ربح كبير في وقت قصير وبدون أي جهدٍ يذكر، حيث يشترون البيتكوين من السوق ويترقبون حركة الأسعار للبيع في اللحظة المناسبة التي تدر عليهم الأرباح المنشودة، هذه الفئة هي الأقل ربحاً بالنظر إلى عامل المخاطرة، حيث هو الأعلى في هذه الحالة على الإطلاق، ومن الوارد جداً أن يُمنى المضارب بخسارة فاحشة ما لم يتحلى بالخبرة اللازمة والبصيرة النافذة في مثل هذا المجال.
في الختام، أود التنويه إلى أنني لم أتعامل مع أي نوعٍ من العملات الافتراضية في حياتي، ولا أرغب في ذلك، وهذا لا يعني بالضرورة أنني أتخذ موقفاً منها سلباً أو إيجاباً، كما أنني لست بمقام إسداء النصح لأحدٍ بهذا الخصوص، فلكل شخص اجتهاده بحسب رأيه.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.