في الأشهر الأخيرة، ظهر اسم لاري إليسون ليطفو على سطح المشهدين السياسي والتكنولوجي في الولايات المتحدة — لا بصفته الملياردير الذي انتزع مؤقتًا لقب أغنى رجل في العالم من إيلون ماسك، ولا كصاحب اليخوت والقصور والجزيرة الخاصة في هاواي — بل كحلقة الوصل بين المال والسلطة والمعلومات في واحدة من أكثر الصفقات حساسية في وادي السيليكون: صفقة فصل عمليات "تيك توك" الأميركية عن الشركة الأم الصينية "بايت دانس"، في مشروع ترعاه إدارة الرئيس دونالد ترامب ويقوده تحالف استثماري تتصدره شركته "أوراكل".
في هذه الصفقة، لا يدور الأمر حول تطبيق ترفيهي، بل حول السيطرة على واحدة من أكبر المنصات التي تُشكّل وعي جمهور من الشباب الأميركي. فبعدما أجّلت إدارة ترامب مرارًا تنفيذ قرار المحكمة العليا بحظر "تيك توك" ما لم تُبع لشركة أميركية، برز إليسون بوصفه المرشح المفضّل لإدارة الصفقة — ليُمنح تحالفه حق الإشراف على بيانات المستخدمين والخوارزمية، أي على البنية الخفية التي تحدد ما يراه ويسمعه ملايين من الأميركيين يوميًا.
في المقابل، يرى بنيامين نتنياهو—رئيس وزراء الاحتلال والمطلوب دوليًا بتهم جرائم حرب—في إليسون أكثر من مجرد حليف تكنولوجي؛ فهو من أبرز داعمي إسرائيل في وادي السيليكون، ومموّل مباشر لجيش الاحتلال، وصديق مقرّب لنتنياهو. فقد استغل إليسون نفوذه للضغط لصالحه في إحدى قضايا الفساد التي يواجهها، كما استضافه في جزيرته "لاناي"—التي يملك 98% منها—حيث شارك نتنياهو في جلسة "بيلاتس" داخل أحد منتجعات "فور سيزونز" الفاخرة هناك.
وهكذا تتقاطع مصالح ترامب ونتنياهو عند إليسون: رجلٌ يجمع بين المال والتكنولوجيا والولاء السياسي. فترامب يراه شريكًا مخلصًا قادرًا على تنفيذ أجندة الرقابة والسيطرة على الفضاء الرقمي الأميركي، فيما يراه نتنياهو داعمًا استراتيجيًا يملك مفاتيح النفوذ في وادي السيليكون. وبين الرجلين، يتحرك إليسون بثقة رجلٍ يجيد إدارة الخيوط من وراء الستار، خصوصًا في ما يتعلّق بإعادة هندسة السردية الإسرائيلية التي بدأت تتآكل داخل الوعي الأميركي منذ اندلاع الإبادة في غزة.
فمن هو هذا الرجل الذي أصبح يومًا أغنى شخص في العالم؟ ولماذا يدعم إسرائيل وبنيامين نتنياهو بهذه الحماسة؟ وماذا يسعى إلى تحقيقه بكل ما يملكه من تكنولوجيا ونفوذ؟"
لماذا يتداول اسم إليسون الآن؟
خلال الأشهر الأخيرة، بدأ اسم لاري إليسون يطفو في المشهد الأمريكي، لا بوصفه الرجل الذي انتزع مؤقتا لقب أغنى رجل في العالم من إيلون ماسك، ولا بسبب حياته الصاخبة المليئة باليخوت الخاصة والزيجات المتكررة وامتلاكه جزيرة كاملة في هاواي، بل لأن اسمه ارتبط بواحدة من أكثر الصفقات حساسية في وادي السيليكون والسياسة الأمريكية معًا: صفقة فصل عمليات "تيك توك" الأميركية عن الشركة الأم الصينية ByteDance، وفتح الباب لتحالف استثماري تقوده شركة إليسون، "أوراكل".
الصفقة، برعاية وتوجيه من ترامب نفسه، فقد ظل يؤجّل تنفيذ قرار المحكمة العليا القاضي بحظر "تيك توك" ما لم تُبع لشركة أميركية، لكي تظهر شركة "أوراكل" التي يملكها إليسون كخيار مفضل في صفقة تجمع بين المصالح الاقتصادية والسياسية والإعلامية في آن واحد.
فبينما كانت مشكلة إدارة بايدن مع المنصة ترجع إلى ملكيتها الحالية لشركة ByteDance المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالحكومة الصينية وتأثيرها على المواطنين الأميركيين، فإن انتقال ملكية "تيك توك" إلى مستثمرين مقربين من ترامب، مثل لاري إليسون وحلفائه، قد يفتح الباب أمام نوع آخر من الرقابة، تهيمن فيه القوى المقربة من ترامب على ما يراه ويسمعه الأميركيون.

لذلك، بعد عودته إلى البيت الأبيض، دعا ترامب اثنين من كبار أباطرة التكنولوجيا لبحث صفقة تتيح للحكومة الأميركية امتلاك ما يصل إلى 50% من المنصة ضمن تسوية جديدة، وعندما سُئل عن الشخص الذي يفضّل أن يقود عملية الشراء، أجاب بلا تردّد: "أتمنى أن يشتريها لاري".
وهو ما يحدث اليوم، فوفق التصريحات الرسمية، يُتوقع أن تحتفظ الشركة الصينية الأم "بايت دانس" بحصة تقل عن 20% من "تيك توك"، بينما تنتقل الإدارة والملكية إلى تحالف بقيادة "أوراكل"، المملوكة لإليسون، مع منحهم حق الإشراف على الخوارزمية والبيانات — أي على البنية التي توجّه ما يراه المستخدمون. وتُقدّر قيمة الصفقة بنحو 14 مليار دولار، على أن تُستكمل تفاصيلها قبل يناير/كانون الثاني المقبل.
لذلك، عند الحديث عن منصة "تيك توك"، لم يعد يصلح تصنيفها كمجرد منصة للترفيه، بل أصبحت مساحة مفتوحة تحولت إلى ساحة سياسية ذات تأثير ثقيل، خصوصًا مع تصاعد المحتوى المؤيد لفلسطين منذ بدء الحرب على غزة. ومع اقتراب عدد مستخدمي التطبيق في الولايات المتحدة من 136 مليون شخص، لم يعد مستغربًا أن تنظر إليها واشنطن باعتبارها أداة لا تقل أهمية عن القنوات الإخبارية التقليدية.
وهذا ما يدركه الاحتلال أيضًا، ففي 27 سبتمبر/أيلول 2025، صرّح رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب، خلال لقائه مؤثرين في نيويورك بأن منصات التواصل هي "السلاح الأهم" للحفاظ على التأييد الأميركي لإسرائيل، واصفًا صفقة "تيك توك" بأنها "أهم عملية شراء جارية الآن"، ومشيرًا إلى ضرورة التنسيق مع إيلون ماسك.
وهكذا تتقاطع مصالح ترامب ونتنياهو عند نقطة مشتركة: السيطرة على المحتوى وإعادة صياغة الخطاب العام. فبحسب مجلة "نيويورك"، فإن انتقال "تيك توك" إلى ملكية أمريكية من هذا النوع قد يعني بروز شكل جديد من "وسائل التواصل التابعة للدولة"، حيث يسعى كبار رجال التكنولوجيا إلى إرضاء السلطة، سواء في البيت الأبيض أو في تل أبيب.
لماذا يجتمع نتنياهو وترامب على لاري إليسون تحديداً؟
الجواب يكمن في مزيج نادر من المال، والنفوذ، والولاء السياسي. إذ يمتلك إليسون تاريخًا يمتد لأكثر من عقد مع الحزب الجمهوري، وعلاقة شخصية متينة مع دونالد ترامب منذ ولايته الأولى. كان ضيفًا دائمًا في منتجع ترامب "مارالاغو"، يجلس إلى مائدته في الولائم الخاصة، كما التقى به في البيت الأبيض أكثر من مرة، لدرجة أن أحد مستشاري ترامب وصفه في جلسة خاصة بأنه "الرئيس الظل للولايات المتحدة".
ولم يُخفِ ترامب إعجابه به. ففي مؤتمر صحفي بعد يوم واحد من تنصيبه، قال: "في حالة لاري، لاري إليسون، الأمر يتجاوز التكنولوجيا… إنه أشبه بمدير تنفيذي لكل شيء. إنه رجل مذهل ورجل أعمال رائع".
ويبدو أن جاذبية إليسون بالنسبة لنتنياهو لا تقلّ عن جاذبيته لترامب. فالرجل من أبرز الداعمين لإسرائيل في وادي السيليكون، ومن الممولين المباشرين لجيش الاحتلال الإسرائيلي عبر منظمة "أصدقاء قوات الدفاع الإسرائيلية" (FIDF). ففي عام 2017، قدّم إليسون أكبر تبرع فردي في تاريخ المنظمة آنذاك، بقيمة 16.6 مليون دولار.
كما تجمعه علاقة شخصية قوية ببنيامين نتنياهو، وصلت إلى درجة التدخّل المباشر لصالحه في قضية جنائية حساسة. فبحسب صحيفة "تايمز أوف إسرائيل"، مارس إليسون ضغوطًا شخصية على رجل الأعمال أرنون ميلتشان — أحد المتهمين في قضايا الفساد مع نتنياهو — لإقناعه بالتنازل عن خدمات محاميه بوآز بن تزور حتى يتمكن الأخير من تمثيل نتنياهو نفسه في المحاكمة. ولم تتوقف العلاقة عند هذا الحد؛ إذ عرض إليسون ذات مرة على نتنياهو الانضمام إلى مجلس إدارة "أوراكل" براتب سنوي يصل إلى 450 ألف دولار، وفقًا لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية.
كما أثار سفر نتنياهو لقضاء عطلة في جزيرة لاناي — التي يملك إليسون 98% منها — حيث شارك في جلسة "بيلاتس" داخل أحد منتجعات "فور سيزونز" الفاخرة هناك، كثيرًا من التساؤلات في حينه، خصوصًا أن نتنياهو كان مطالبًا قضائيًا بتجنّب التواصل مع الشهود في قضيته الجارية، والتي ورد فيها اسم إليسون نفسه كشاهد محتمل ضمن مئات الشهود.
من أين جاء لاري وكيف بنا إمبراطوريته؟
في عام 1944، وُلد طفل في حي متواضع بمدينة نيويورك، لم يكن أحد يتخيل أنه سيغدو بعد ثمانية عقود واحدًا من أغنى وأخطر رجال الكوكب. اسمه لاري جوزيف إليسون، ابن أم يهودية لم يتعدَّ عمرها حينها 19 عامًا، تدعى فلورنس سبيلمان، التي تخلّت عنه بعد إصابته بالتهاب رئوي حاد وهو لم يكد يبلغ تسعة أشهر. فتبنّاه خاله وخالته في شيكاغو، حيث نشأ إليسون في بيت متواضع من غرفتين في الجانب الجنوبي من شيكاغو، ولم يعلم بحقيقة تبنّيه إلا حين بلغ الثانية عشرة من عمره.
نشأ إليسون في بيت يعتنق اليهودية الإصلاحية، إذ كان والده بالتبني يهوديًا. ومع ذلك، لم يكن لاري ملتزمًا دينيًا؛ بل اشتهر بأنه رفض إقامة حفل "بار ميتسفا" (طقوس بلوغ اليهود) عندما كان مراهقًا لأن دروس اللغة العبرية تعارضت مع جدول تمارينه في لعبة البيسبول.
لم يفلح لاري إليسون في الحصول على أي درجة جامعية، إذ ترك الدراسة في جامعتي شيكاغو وإلينوي قبل أن يتوجه إلى كاليفورنيا في أواخر ستينيات القرن الماضي، باحثًا عن عمل يُشبع شغفه المتنامي بعالم البرمجة والحاسوب.
رغم ذلك، حمل إليسون هذا الشغف معه إلى بيركلي، وهناك، وعلى مدى ثماني سنوات، تنقّل بين وظائف مختلفة، فعمل فنّيًا في شركتَي Fireman's Fund وWells Fargo Bank، ثم مبرمجًا في شركة Amdahl Corporation، حيث شارك في تطوير أول نظام حاسوب مركزي متوافق مع IBM — وهي التجربة التي شكّلت الخطوة الأولى نحو تأسيس إمبراطوريته التقنية لاحقًا.
في عام 1977، أسس إليسون مع زميليه في شركة أمدال، روبرت ماينر وإد أوتس، شركتهم الخاصة تحت اسم "مختبرات تطوير البرمجيات" (Software Development Labs)، وتولّى إليسون منذ البداية منصب الرئيس التنفيذي.
خلال تلك المرحلة، صادف إليسون ورقة بحثية بعنوان "النموذج العلائقي للبيانات في بنوك البيانات الكبيرة المشتركة" (A Relational Model of Data for Large Shared Data Banks)، كتبها الباحث إدغار إف. (تِد) كود من شركة IBM، شرح فيها مفهومًا جديدًا لتنظيم البيانات عبر لغة الاستعلام البنيوية (SQL). ورغم أن شركة IBM لم ترَ في الفكرة إمكانات تجارية كبيرة، إلا أن إليسون التقط الخيط الذهبي مبكرًا.
وجاءت فرصته الكبرى عندما حصل على عقد لمدة عامين مع وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (CIA) بقيمة لا تتجاوز 50 ألف دولار، لتطوير نظام لإدارة قواعد البيانات. كانت الوكالة تبحث آنذاك عن مبرمجين قادرين على تصميم نظام معلوماتي يُتيح تخزين كميات هائلة من البيانات وتحليلها بسرعة ودقة. أُطلق على المشروع الاسم الرمزي "Oracle" — أي العَرّاف أو الوحي. أنجز فريق إليسون المشروع قبل موعده بعام كامل، واستغل الوقت الفائض في تحسين النظام وتطوير نسخة تجارية منه.
وحين انتهى العقد مع الـCIA، كان لدى الفريق منتج جاهز للسوق أطلقوا عليه أيضًا اسم "أوراكل"، تيمنًا بالمشروع السري. لاحقًا، تم تغيير اسم الشركة نفسها إلى شركة أوراكل (Oracle Corporation)، تيمّنًا بمنتجها الأساسي الذي بدأ يغزو السوق سريعًا في مطلع الثمانينيات.
فقد جاءت نقطة التحول الكبرى عام 1981، عندما قررت شركة IBM نفسها اعتماد نظام أوراكل لقواعد البيانات في حواسيبها المركزية. فجأة، وجدت أوراكل أمامها سوقًا عالميًا مفتوحًا، وبدأت مبيعاتها تتضاعف كل عام لمدة سبع سنوات متتالية. وفي عام 1986، طرحت الشركة أسهمها للاكتتاب العام وجمعت 31.5 مليون دولار، لتصبح في طريقها إلى مصاف عمالقة صناعة البرمجيات.
خلال عقد واحد فقط، تحوّلت "أوراكل" من شركة برمجيات تقليدية إلى واحدة من أكبر مزوّدي خدمات قواعد البيانات والحوسبة السحابية في العالم. فهي لا تتعامل مباشرة مع الأفراد، بل تقدّم خدماتها إلى الحكومات والمؤسسات الكبرى، لتصبح البنية التحتية غير المرئية التي تمرّ عبرها بيانات مليارات المستخدمين. ووفقًا لتقارير، تمتلك "أوراكل" اليوم أكثر من 100 منطقة سحابية حول العالم، مقارنةً بأكثر من 60 منطقة لمايكروسوفت، و42 لـ"غوغل كلاود"، و36 لأمازون AWS، ما يمنح أوراكل موقعًا استراتيجيًا في إدارة المعلومات والاتصالات الرقمية.
وتُظهر دراسات أكاديمية، أن من يمتلك هذه الشبكات الضخمة من البيانات والخوارزميات لا يكتفي بفهم سلوك المستخدمين، بل يستطيع أيضًا التأثير فيه، سواء عبر الإعلانات الموجهة أو التنبؤ بالاتجاهات السياسية والاجتماعية. ومع استثماراتها المتزايدة في الذكاء الاصطناعي والتحليل التنبؤي، فبحسب الدراسات، أصبحت شركات التكنولوجيا العملاقة مثل "أوراكل" — بقيادة لاري إليسون — تمارس نفوذًا مركّبًا يجمع بين الاقتصادي والسياسي والتقني، نفوذًا يقترب في بعض جوانبه من سلطة الدول.
إليسون وإسرائيل: علاقة لا تنتهي
وبالعودة إلى إسرائيل في أكتوبر 2021، افتتحت شركة أوراكل أول مركز بيانات سحابي لها في إسرائيل – تحت أرض مدينة القدس وعلى عمق 50 مترًا تقريبًا – ليكون قادرًا على تحمل ضربات الصواريخ والهجمات دون أن تتعطل خدماته. بُني هذا المركز المحصّن بتكلفة مئات الملايين من الدولارات، مزوّدًا بمولّدات طاقة احتياطية، ليضمن للشركات والمؤسسات الإسرائيلية إمكانية تخزين بياناتها محليًا داخل البلاد بدلًا من الاعتماد على خوادم في دول أخرى. وتداول الأخبار عن تخطيط الشركة لافتتاح مركز بيانات ثانٍ تحت الأرض لضمان بقاء البيانات الاستراتيجية داخل الحدود الإسرائيلية.
ولا يخفي الملياردير الأميركي ميوله الصهيونية ودعمه الكامل لإسرائيل. ففي عام 2014، عندما سئل لاري إليسون عن علاقته بإسرائيل في حوار أجراه معه الصحفي الإسرائيلي غيل تماري، أجاب بصيغة جمع المتكلم "نحن"، قائلاً: "لقد كنا شعبًا بلا دولة لأكثر من 2000 عام، ولهذا علينا أن ندعم بكل قوة النساء والرجال الشجعان في الجيش الإسرائيلي".
أما داخل شركته، فتلعب سافرا كاتز — الرئيسة التنفيذية الإسرائيلية الأميركية — دورًا محوريًا في ترسيخ العلاقة مع تل أبيب. فقد كشفت رسائل إلكترونية مسرّبة نُشرت في "Responsible Statecraft" عام 2015 أنها دعت رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك للمشاركة كمستشار في إنتاج مسلسل تلفزيوني عن الجيش الإسرائيلي، بهدف التأثير على الرأي العام الأميركي لصالح إسرائيل ومواجهة حركة المقاطعة (BDS). كتبت كاتز حينها: "نحن نؤمن بضرورة ترسيخ حب إسرائيل واحترامها في الثقافة الأميركية." وبعد بدء حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة، سافرت إلى الأراضي المحتلة، لتعبر عن دعمها للاحتلال قائلة "إنها فقط حينها بدأت تبتسم مجددًا".
وقد حرصت سافرا كاتز، الرئيسة التنفيذية لشركة أوراكل، على تحويل موقفها الداعم للاحتلال الإسرائيلي إلى جزءٍ معلن من هوية الشركة وثقافتها المؤسسية. فخلال الأعوام الأخيرة، لم تكتفِ كاتز بالتعبير عن تضامنها السياسي، بل جعلت من الولاء لإسرائيل معيارًا معلنًا داخل أوراكل نفسها.
ففي أكثر من مناسبة، أكدت كاتز أن أوراكل "غير مرنة" في التزامها تجاه "إسرائيل"، وأن من لا يتفق مع هذه الرؤية "ربما لا يكون مناسبًا للعمل في الشركة"، مشددة على أن دعم إسرائيل هو "جزء من مهمة أوراكل" نفسها. هذا الموقف جاء ردًا على احتجاجات بعض موظفي شركات التكنولوجيا الكبرى، مثل غوغل وآبل، على الحرب الإسرائيلية في غزة.
وبعد شن حرب الإبادة، سارعت كاتز إلى إطلاق حملة داخلية وعالمية لدعم إسرائيل، إذ وجّهت رسالة إلى عملاء أوراكل في جميع أنحاء العالم، بمن فيهم المتعاملون مع الحكومات، لتؤكد أن الشركة تضع إسرائيل على رأس أولوياتها. وأعلنت أن مواقع أوراكل الرسمية في جميع البلدان ستعرض شعار "نحن نقف مع إسرائيل" بلغات محلية متعددة، في خطوة قالت إنها تهدف إلى "إرسال رسالة قوية للعالم حول الفرق بين الخير والشر".
وفي السياق ذاته، شدد إيراني فيغنباوم، مدير أوراكل في إسرائيل، على أن "لا شركة عالمية تُظهر دعمًا لإسرائيل كما تفعل أوراكل"، مشيرًا إلى أن هذا الموقف متجذر في قيادة الشركة.
يُنسَب جانب كبير من صعود لاري إليسون وشركة "أوراكل" إلى القمة التكنولوجية والمالية العالمية إلى دور شريكته التنفيذية سافرا كاتز، التي قادت الشركة نحو مرحلة توسّع غير مسبوقة. فقد نجحت "أوراكل" مؤخرًا في إبرام صفقة ضخمة بقيمة 300 مليار دولار مع شركة OpenAI ضمن مشروع البنية التحتية العملاق للذكاء الاصطناعي المعروف باسم "ستارغيت" (Stargate)، ما رسّخ مكانتها كلاعب رئيسي في سباق الذكاء الاصطناعي العالمي.
وقد توالت بعدها العقود الحكومية والخاصة على الشركة بوتيرة متسارعة، حتى بلغ إجمالي ما أمّنته من عقود في مجالي الحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي نحو نصف تريليون دولار، لتضمن بذلك، كما وصفتها فايننشال تايمز، "مقعدًا على مائدة الاقتصاد الجديد المدعوم حكوميًا".
ويرى لاري إليسون في الذكاء الاصطناعي بوابة نفوذه القادمة، إذ يعتبره — كما قال في محادثة فيديو جمعته برئيس الوزراء البريطاني الأسبق توني بلير — "الذكاء الاصطناعي هو أمر أكبر بكثير من الثورة الصناعية والكهرباء وكل ما سبقه". فهو يرى في هذا التحول التكنولوجي لحظة تأسيسية جديدة في مسار البشرية، لا تقل شأنًا عن أعظم اكتشافاتها السابقة. ولا تقتصر علاقته ببلير على الإعجاب الفكري؛ إذ يُعدّ إليسون من أبرز الداعمين لمعهد بلير للتغيير العالمي، حيث قدّم أو تعهّد بتبرعات تجاوزت 348 مليون دولار لدعم أنشطته البحثية والتكنولوجية.
من جانب آخر، لعبت سافرا كاتز دورًا حاسمًا في المفاوضات الخاصة بصفقة شراء "تيك توك"، إذ أشرفت على مراحلها الأساسية بصفتها من كبار مسؤولي "أوراكل". واليوم، أصبحت الشركة بقيادة إليسون — الحليف المقرّب من ترامب ونتنياهو — المشرف الرسمي على خوارزميات "تيك توك" داخل الولايات المتحدة، بعد أن تم اعتمادها كمزود أمان للمنصة. وخلال توقيع المرسوم التنفيذي الجديد في سبتمبر، مازح ترامب الحاضرين قائلاً إنه يريد أن يجعل خوارزمية تيك توك "مئة بالمئة مؤيدة لحركة MAGA".
بالنسبة لإليسون، تمثل هذه الاستحواذات أكثر من مجرد توسّع تجاري؛ إنها محاولة لبناء إمبراطورية إعلامية-رقمية عابرة للمنصات، تهيمن على الاقتصاد والإعلام الأميركي، وتبث أجندته السياسية عبر شبكة مترابطة من المؤسسات المدعومة بالذكاء الاصطناعي، تمتد من القنوات الإخبارية ومنصات البث إلى استوديوهات السينما وشبكات التواصل الاجتماعي.
وقد نجح إليسون في مدّ نفوذه إلى الإعلام الجماهيري عبر نجله ديفيد إليسون، الذي استحوذ مؤخرًا على عملاق الإنتاج والإعلام الأميركي "باراماونت" (Paramount Global) — الشركة المالكة لشبكات CBS وMTV وNickelodeon وShowtime، إضافة إلى استوديو "باراماونت بيكتشرز"، أحد أبرز استوديوهات هوليوود. وفي أعقاب الصفقة، جرى تعيين الصحفية باري وايس رئيسةً لتحرير الأخبار في شبكة CBS News، ضمن إعادة هيكلة تحريرية يقودها التحالف الجديد الذي يربط عائلة إليسون بإدارة باراماونت وسكايدانص.
وتُعرف وايس بأنها "صهيونية متحمسة" و"مؤيدة متعصّبة لإسرائيل"، وقد اتُّهمت مؤسستها الإعلامية "Free Press" بنشر مواد تُنكر الإبادة في غزة، عبر تحقيق زعم أن الأطفال الفلسطينيين الذين يموتون جوعًا يعانون من أمراض مزمنة سابقة.
وهكذا، تتضح ملامح الانحياز المؤيد لإسرائيل داخل هذه المنظومة الإعلامية الناشئة التي يقف إليسون وعائلته خلفها. أحد أساتذة إدارة الأعمال علّق على هذه الشبكة من التحالفات قائلاً: "هؤلاء أشخاص أذكياء جدًا، ولا شيء مما يحدث يجري بالصدفة." في المحصلة، تصب كل هذه التحركات في مصلحة بنيامين نتنياهو وآلة النفوذ الإسرائيلية المتغلغلة في الاقتصاد والإعلام الأميركي.
ومع ذلك، ترى مجلة "نيويورك" إلى أن امتلاك تيك توك وحده لن يكون كافيًا لتغيير الرأي العام الأميركي لصالح إسرائيل. فالأميركيون دون سن الأربعين انقلبوا بشدة ضدها، ولا يبدو أن هناك ما يمكن فعله على المدى القريب لعكس هذا الاتجاه. حتى الحزب الديمقراطي نفسه يسير تدريجيًا بعيدًا عنها؛ إذ يبرز اشتراكي مؤيد لفلسطين كأقوى المرشحين لمنصب عمدة نيويورك القادم، فيما باتت "كلمة إبادة جماعية" تتردد اليوم في الولايات المتحدة أكثر من أي وقت مضى.