"الحرب التي سمعنا عنها من أهلنا نعيشها اليوم في لبنان، هكذا بدأ أنس (20 عاماً)، حديثه لـ"عربي بوست"، ليشرح كيف انه بقي لأكثر من 5 ساعات يبحث عن ربطة خبز أو كيلو من الطحين لمنزله لكن دون جدوى؛ فالمحال التجارية باتت مغلقة، بسبب عدم قدرتها على التكيف مع الارتفاع الجنوني لسعر صرف الدولار الذي وصل لنحو 15 ألف ليرة مقابل الدولار الواحد.
يستحضر أنس أجواء سمع وقرأ عنها كأنها تعاد اليوم بصور مختلفة، يقول إن الشح في المؤسسات التجارية وفقدان المواد الغذائية يأتيان في إطار الجشع الذي يمارسه التجار فاللبنانيون مضطرون إلى تحمّل تبعات وجود المنظومة السياسية الفاسدة وكل ما يترتب عليها من غياب الرقابة والجشع وكل ما قد ينتج من فلتان أمني واجتماعي.
في ظل الانهيار الاقتصادي المستمرّ بلبنان والذي بدأ مع نهاية عام 2019، ما أدّى الى تراجع الليرة اللبنانية مقابل الدولار الأمريكي، وصلت الليرة اللبنانيّة الى أدنى مستوياتها وخسرت أكثر من 85% من قيمتها بعدما كان السعر الرسمي، وما زال في المصرف المركزي، 1.500 ليرة لبنانية.
يستحضر أنس أجواء سمع وقرأ عنها كأنها تعاد اليوم بصور مختلفة، يقول إن الشح في المؤسسات التجارية وفقدان المواد الغذائية يأتيان في إطار الجشع الذي يمارسه التجار فاللبنانيون مضطرون إلى تحمّل تبعات وجود المنظومة السياسية الفاسدة وكل ما يترتب عليها من غياب الرقابة والجشع وكل ما قد ينتج من فلتان أمني واجتماعي.
الصراع على المواد الغذائية والأولية
في مشهد غير مسبوق، بدا اللبنانيون يتحاربون في محال بيع المواد الغذائية للحصول على المواد الغذائية الأساسية المدعومة من قبل مصرف لبنان، كالحليب والزيت والسكر والحبوب والعدس.
يقول المواطن محمد المجذوب، وهو أب لولدين، إنه يسرع إلى إنهاء عمله قبل الموعد؛ من أجل الذهاب الى السوبر ماركت وتأمين الحليب لابنته حتى لو امتدت مدة الانتظار ساعات طويلة وحتى لو اضطره الأمر إلى التشاجر. يتابع المجذوب بغضب: "كيف أعود الى المنزل دون تأمين حاجة ابتني الأساسية؟! هل اتركها تموت جوعاً؟! وقتها، أفضل الموت".
وعن الراتب الذي أصبح يساوي 60 دولاراً أمريكياً بعدما كانت قيمته 600 دولار فحدث ولا حرج. هنا تدمع عينا مجذوب ويتذكر بألمٍ أن الحياة تزداد قسوة يوماً بعد يوم، فيمتنع عن اصطحاب وَلَدَيْه اللذين ما زالا صغيرين إلى السوبر ماركت؛ خوفاً من أن يشتهيا شيئاً ولا يستطيع أن يوفره لهما.
إضرابات مسيَسة..
يتحدث مصدر سياسي مطلع لـ"عربي بوست"، قائلاً إن بعض التحركات الاحتجاجية في الشارع والتي أدت إلى القيام بإغلاق المحال التجارية، مدفوعةٌ سياسياً وأمنياً، حيث قام مجموعة من الشبان في طرابلس وبيروت، ويبلغ عددهم بالعشرات ويحملون الحجارة والعصي، بإجبار المؤسسات والمقاهي على الإغلاق بالقوة؛ ما تسبب في اشتباكات بمنطقة عائشة بكار في بيروت.
وبحسب المصدر، فإن الأزمة مرشحة للاستمرار من الجانب الأمني، فالبلاد شهدت خلال الشهرين الماضيين، زيادة نسبة الجريمة والسرقة بمعدل 144% مقارنة بالسنوات الماضية، فيما وصلت حالات الانتحار إلى 40% مقارنة بالعام الماضي.
"المحلات" تعاني، والتجار يريدون حلاً
في الأحياء، توجد محلات بقالة صغيرة تسمى"دكاكين الحي"، يشتري منها بطبيعة الحال سكان المنطقة والجوار، وعادة ما يؤمنون المواد بتكلفة أقل من المحلات التجارية الكبرى.
أما اليوم، فقد تغير الحال كلياً والمواطنون ينصدمون من الأسعار التي تتغير عدة مرات في اليوم عينه. ربال بركة، صاحب دكانة البركة بأحد الأحياء في منطقة دوحة عرمون وهي على ضواحي العاصمة اللبنانية بيروت، يعبّر عن معاناته مؤكداً أن التجار لا يرحمون، إذ يريدون الدفع للبضاعة إما بالدولار نقداً وإما على سعر صرف السوق السوداء. هذا الأمر يؤثر سلبياً على عملية البيع والشراء، فبعض المواد استغنى عن جلبها، لأنها أصبحت تُعرض على الرفوف ومثواها الأخير مستوعب النفايات.
كما يؤكد البركة لـ"عربي بوست"، أن القدرة الشرائية للمواطنين، خصوصاً زبائنه، فقط تراجعت كثيراً، فهو اليوم يواجه معركة تلوح بين الاستمرارية في الخسارة أو عدم الربح في أفضل الأحوال.
"حماية المستهلك" حذَّرت
ليضمن المواطن حقوقه في عملية الشراء والبيع، وُجِد ما يسمى مديرية حماية المستهلك، ويشدد رئيسها زهير برو، على أن اللبنانيين فقدوا الثقة بالدولة اللبنانية وبالتالي يوجدون بأنفسهم بدائل لمواجهة الوضع الاقتصادي المتأزم.
ويعتبر برو أن الأمل بإيجاد حل للأزمة الحالية مفقود، وأن المشكلة ستأخذ أشكالاً كثيرة، ولكن الحل يجب أن يكون سياسياً، ويحمّل الدولة، متمثلة بوزارة الاقتصاد، مسؤولية جشع كبار التجار، لأنها هي التي وفرت لهم الأموال واشتعلت عملية النهب إلى أن أصبحت السلع تصل إلى المستهلك بكميات محدودة يتحاربون عليها في الأسواق.
إضافة إلى ذلك، يرى برو أن الحل متمثل بوضع سياسة دعم مباشرة للمستهلكين، والمقصود هنا وضع سياسة دعم للعائلات الفقيرة وتقديم المساعدات المالية لهم بجدول من الأعمال منظم من قِبل وزارة الاقتصاد.
سياسة الضغط: تجويع الناس أو تشكيل الحكومة؟
بعض المحللين يتوقعون تشكيل الحكومة برئاسة سعد الحريري سريعاً بعد تدهور الأوضاع الذي حصل هذا الأسبوع، ومنهم وزير الداخلية السابق مروان شربل. إلا أن هذا لم يحصل، وفي الحالتين لا يعتبر الخبير الاقتصادي ناصر ياسين أن الحل يكمن في تشكيل الحكومة، ويوافق على كلامه الباحث بمركز كارنغي لدراسات الشرق الأوسط مهند الحاج علي، لأن من وجهة نظره، الأزمة أكثر تعقيداً من مجرد تشكيل حكومة.
ويعتبر ياسين أن الأزمة متعلقة بخطة الدعم غير الحقيقية، لأنها تستخدم من أموال المودعين؛ ومن ثم هذا المبلغ سينفد مع الوقت، لأنه في الأساس أموال الدعم يجب أن تدفعها الدولة اللبنانية متمثلة بوزارة المالية.
بالعودة إلى الشق السياسي وتشكيل الحكومة، يضع مهند الحاج عليّ احتمالات عديدة للوضع الراهن، ومنها إحجام مصرف لبنان عن التدخل مالياً بالسوق أو عبر إحجام المصارف، وذلك له علاقة بالموضوع السياسي، إذ يستخدم الرئيس سعد الحريري وفريقه مصرف لبنان كأداة للضغط على الفريق الآخر المتمثل بالتيار الوطني الحر، الذي يرأسه النائب جبران باسيل وينتمي إلى فريق رئيس الجمهورية العماد ميشال عون.
وعما شهدته البلاد خلال اليومين السابقين، من عملية إغلاق للمحال بالقوة، يروي طه عيتاني، صاحب محل حلاقة في مدينة بيروت، أن محله تعرَّض للاعتداء والتكسير من قِبل بعض الشبان الذين ينتمون إلى الثنائي الشيعي في المنطقة، على الرغم من معرفته بالشبان فإنهم عمدوا إلى تكسير واجهة المحل وإجباره على الإغلاق.
يخشى طه تكرار مثل هذه الأعمال؛ ما سيؤدي إلى خوفه من فتح محله، وبالمحصلة سيجلس في منزله دون عمل بحجة غياب الأمن، ويستهجن طه حديث وزير الداخلية محمد فهمي، عن عدم قدرة القوى الأمنية على أداء دورها، ويعتبر أن هذا الكلام يعني أن الدولة انتهت وتحللت وعلى المواطن أن يخشى الخروج من منزله.