لطالما كانت زنجبار، أو ساحل الشعب الأسود، موقعاً استراتيجياً على خط الاستواء، وطريق التجارة والقوافل بين آسيا وإفريقيا على مر التاريخ.
وبحسب مؤرخين، فقد دخلها الإسلام قبل قرابة ألف عام تقريباً، في عهد الدولة الأموية، حينما أراد الحجاج بن يوسف الثقفي ضم عُمان، فأرسل الجيوش التي استولت عليها وعلى الجُزُر المجاورة والمحيطة بها، ولهذا تتمتع زنجبار بغالبية سكان يتبعون الديانة المسلمة.
بل يُعتقد أن الإسلام قد دخلها قبل ذلك بكثير، بعد أن كان أول المساجد التي بُنيت في جنوب إفريقيا مسجد قرية كيزمكازي على الساحل الجنوبي لزنجبار، والذي عُثر على أحد جدرانه نقش يرجع لعام 1107.
وعلى الرغم من أنها أصبحت تابعة لدولة تنزانيا في أواخر القرن العشرين، فإنها خاضت كثيراً من المآسي عبر تاريخها الممتد، فكانت ضحية للانتداب البريطاني والغزو البرتغالي، الذي تسبب في إحدى أبشع المجازر بالقرن الإفريقي، المعروفة بمجزرة زنجبار، وراح ضحيتها آلاف المسلمين.
الثورة المجزرة!
في البدء كانت ثورة عنيفة ثم ما لبثت أن تحولت إلى مجزرة ضخمة وقعت في 12 يناير/كانون الثاني 1964، وغيرت إلى الأبد مسار أرخبيل المحيط الهندي الصغير.
كان يُنظر إلى التفسير السائد لثورة 1964 على أنه الإطاحة بأقلية عربية من مُلاك الأراضي من قبل أغلبية إفريقية تسعى للاشتراكية وتقسيم الثورات.
ومع ذلك، فإنّ قتل وطرد عدد كبير من العرب وتأميم وإعادة توزيع الأراضي بعد الثورة، لم تحلّ الانقسامات الأساسية التي تخللت زنجبار بعد الثورة.
فبينما كان العرق هو العدسة الأساسية التي حاولت رسم انقسام بين الطبقة الأرستقراطية غير الإفريقية والسكان الفقراء من الأصول الإفريقية، فإن البنية الاجتماعية المعقدة للمجتمع الزنجباري تكشف أبعد من ذلك.
ولفهم السياق السياسي المتقلب لجزيرة زنجبار والنظام الاجتماعي الغريب الذي أدى إلى الأحداث التي وقعت في عام 1964 بشكل أفضل، من الضروري فهم تاريخ موجز لعبت فيه بريطانيا دوراً مخزياً.
تاريخ الساحل الأسود لإفريقيا
على بُعد 40 ميلاً من ساحل شرق إفريقيا، تتكون زنجبار من جزيرتين رئيسيتين، أونجوجا وبيمبا، وعدد من الجزر المجاورة الأصغر، ومنطقة تنزانيا ذات الأغلبية المسلمة، يهيمن عليها مجتمع إفريقي به أقليات عربية وآسيوية كبيرة.
الكلمة مشتقة من الزنجبار الفارسي والتي تعني "الساحل الأسود" أو أرض الشعب الأسود، وقد كانت زنجبار منذ فترة طويلة قلباً للتجارة في المحيط الهندي ومركزاً لحركات القوافل لألفي عام، بسبب ربطها الجغرافي بين آسيا وإفريقيا وشبه الجزيرة العربية.
ولهذا السبب شهدت الجزيرة خلال تلك الفترة موجات من المهاجرين البحريين على شواطئها، مثل اليمنيين والفرس المعروفين محلياً باسم شيراز، وكذلك العرب والهنود.
هذا التداخل جعل زنجبار متجذرة في كل من تراثها الإفريقي والمحيط الهندي.
بداية من القرن التاسع، عمل التجار من المواطنين الأصليين الناطقين باللغة السواحيلية كوسطاء للتجار لمسافات طويلة في كل من المناطق النائية الإفريقية والمحيط الهندي.
وشهد أوائل القرن السادس عشر زيادة الإمبريالية الأوروبية في المنطقة، وأصبحت زنجبار ملكاً للإمبراطورية البرتغالية لمدة قرنين من الزمان، وحُكمت بمساعدة السلاطين الروافد.
أدى خنق التجارة والسلطة المحلية من قبل البرتغاليين في النهاية إلى قيام النخب الزنجبارية بدعوة العمانيين لمساعدتهم في طرد الإمبراطوريين. وبعد إنشاء المستعمرات التجارية على الساحل الزنجباري، سيطرت الهيمنة العمانية بحلول أواخر القرن السابع عشر.
بعد ثورة قصيرة ضد الحكم العماني في عام 1784، شجعت النخب المحلية التجار من السلطنة على الاستقرار في زنجبار بالنصف الأول من القرن التاسع عشر.
تزامنت هذه الفترة تقريباً مع تأسيس النظام الاجتماعي الذي حكم زنجبار، حيث حدث الازدهار الاقتصادي لكل من زنجبار وجزر بيمبا القريبة بسبب إنتاج القرنفل.
تم جلب أشجار القرنفل الأولى إلى زنجبار من قبل أول حاكم لسلطنة عُمان، وهو السلطان سيد سعيد، الذي نقل قصره ومقر الحكم من مسقط إلى زنجبار عام 1828 وشجع على زراعة القرنفل.
استمر حكم السلالات العمانية من ثلاثينيات القرن التاسع عشر، حيث بدأ العديد من العمانيين في الاستقرار في زنجبار والتزاوج مع السكان المحليين.
أثر التطور اللاحق لنظام المزارع- الذي تدعمه طبقة ملاك الأراضي العربية وطبقة عمالية إفريقية- بعمق على علاقات الإنتاج في الجزيرة، حيث عملت زنجبار كمجتمع من العبيد حتى إلغاء الرق في نهاية المطاف بحلول عام 1897.
وحتى بعد ذلك، استمرت تجارة التوابل في الازدهار إلى أن أصبح اسم زنجبار بين الدول "جزيرة التوابل".
محمية لإمبراطورية بريطانيا الاستعمارية
بعد سلسلة من الغارات التي قام بها الألمان والفرنسيون ضمن مطامعهم الاستعمارية في إفريقيا، نجح الاستعمار البريطاني في دخول البلاد عام 1890.
وعلى الرغم من أنها لم تكن مستعمرة بريطانية رسمية، كانت زنجبار بحلول منتصف القرن العشرين محمية بريطانية بامتياز. فكانت السلالة السلطانية الباقية في الدولة تقع تحت السيطرة البريطانية إدارياً، وتم إعلان الجزيرة ميناءً حراً وكان التاج يسيطر على أسواقها وتجارتها.
لم يوفر أساس الحكم البريطاني في زنجبار أي آلية موثوقة للاستقرار على المدى الطويل، حيث ظلت الأرض والثروة والسلطة في أيدي العرب، إلى جانب طبقة التجار الآسيويين.
وتماماً كما فعلوا في مستعمراتهم الأخرى، كثفت السياسة البريطانية في زنجبار التوترات العرقية القائمة، حيث قام المسؤولون الاستعماريون بإضفاء الطابع المؤسسي على الانقسامات من خلال إنشاء جمعيات محددة بمعايير عنصرية، ينتمي إليها كل مواطن، وتولِّد مزيداً من العداوات والفرقة في لُحمة المجتمع الطبقي بالفعل.
العد التنازلي لأبشع فصول زنجبار الدموية
يقول المؤرخ العسكري إيان سبيلر في مجلة "تاريخ الإمبراطورية والكومنولث": "أدت حقيقة وجود تناقضات اجتماعية اقتصادية خطيرة بين المجموعات العرقية المختلفة إلى أن يصبح الانقسام العرقي والطبقي داخل المجتمع هو القضية السياسية الرئيسية".
وبحلول الخمسينيات من القرن الماضي، كانت هناك أزمة سياسية تختمر على نار هادئة، خاصة مع انتشار مناهضة الاستعمار في جميع أنحاء إفريقيا.
وكجزء من عملية إنهاء الاستعمار، تأسست الدوائر السياسية بحلول عام 1961. وكانت الأحزاب الرئيسية التي نشأت منظمة بشكل أساسي على أسس عرقية: حزب زنجبار القومي بقيادة العرب (ZNP)، والحزب الأفرو شيرازي الذي يهيمن عليه الأفارقة (ASP)، وحزب زنجبار القومي الإفريقي وحزب بيمبا الشعبي (ZPPP).
عندما أعلنت زنجبار استقلالها عن الحماية البريطانية في عام 1963 وأصبحت ملكية دستورية يحكمها السلطان جمشيد بن عبد الله، كان يُنظر إلى الانتخابات على أنها وسيلة لمعالجة المظالم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الموجودة داخل المجتمع الزنجباري.
ثم جاءت نقطة التحول عندما شهدت انتخابات عام 1963، التي أجراها حزب زنجبار القومي العربي (ZNP)، فوز حزب آسيا والمحيط الهادئ (ASP) بزعامة عبيد كرومي بنسبة 54% من الأصوات الشعبية، ومع ذلك لم يحظ إلا بـ13 مقعداً فقط في التمثيل الوطني، في حين فاز تحالف من حزب الغالبية العربية وحزب زنجبار الإفريقي وبيمبا الشعبي بتصويت النسبة المئوية الباقية، والتفرد بالسلطة.
انفجار المشهد السياسي
وبالفعل، انفجر أخيراً المشهد السياسي في صباح يوم 12 يناير/كانون الثاني 1964.
وتمردت مجموعات مسلحة بقيادة عضو حزب (ASP) الأوغندي جون أوكيلو، الذي يُطلق عليه اسم "المشير الميداني لزنجبار وبيمبا"، وتشكلت عصابة شبابية تابعة لرابطة شباب آسيا والمحيط الهادئ مدعومة بضباط شرطة سابقين ساخطين، للضغط على السلطات الأمنية للسيطرة على العاصمة زنجبار.
وكان حزب الأمة، بقيادة الجناح اليساري الراديكالي عبد الرحمن محمد بابو، في مقدمة هذه المجموعات المسلحة.
وفي حين أنه لم يبدأ الانتفاضة، فقد حوّل حزب الأمة الحراك المسلح إلى تمرد ثوري، واستولى على سلطة الدولة. وقد فر السلطان وأعضاء مجلس الوزراء السابقين من الجزيرة.
وتم تكليف حزب آسيا والمحيط الهادئ بقيادة كرومي، المليء بالتناقضات الحزبية الداخلية، بتوجيه الحكومة الثورية الجديدة بالتحالف مع حزب الأمة.
لكن ما تبع ذلك بسرعة كان انتقاماً دموياً ضد السكان العرب والآسيويين في الجزيرة، خاصة مع سنوات طويلة من الدعاية الحثيثة للعنصرية التي غذتها بريطانيا في البلاد. فتم اغتصاب النساء العربيات والآسيويات، ونُهبت ممتلكات العرب والآسيويين.
وفي حين أن هناك تبايناً واسعاً بشأن عدد القتلى الذين يتراوح عددهم بين عدة مئات و20.000 شخص، فقد صنف العديد من العلماء موجة العنف التمييزي ضد العرب على أنها كانت "تطهيراً عرقياً ونية للإبادة الجماعية".
بعد المذبحة المستهدفة، تم ترحيل آلاف آخرين قسراً. وقدر المؤرخ جوناثان غلاسمان أن زنجبار فقدت "ربع سكانها العرب أو أكثر بسبب الطرد أو الفرار أو القتل الجماعي" بحلول نهاية عام 1964.
حرب باردة أدارتها بريطانيا وأمريكا
يؤكد المؤرخ أمريت ويلسون في كتابه "تهديد التحرير"، أنه لا يمكن تجاهل سياق الحرب الباردة أيضاً.
فبالنسبة للبريطانيين والولايات المتحدة، كانت الأحداث التي وقعت في زنجبار مقلقة للغاية واعتُبرت "استيلاءً شيوعياً" على زنجبار لدرجة أن بعض المسؤولين البريطانيين كانوا يخشون أن تصبح زنجبار "كوبا إفريقية" جديدة.
حتى نجحت الولايات المتحدة وبريطانيا في تحييد الحكومة الثورية من خلال هندسة اتحاد زنجبار وتنجانيقا في غضون بضعة أشهر لإنشاء دولة جديدة، هي دولة تنزانيا الموالية للغرب، دون أي موافقة أي من السكان أنفسهم.
بعد الاتحاد، ازداد تدهور الوضع في زنجبار، حيث سيطر حزب آسيا والمحيط الهادئ على الحكم الاستبدادي على الجزر، وقام بتعذيب وسجن أي شخصيات معارضة.
وحتى اليوم، لا تزال الجزيرة الشهيرة تتصارع مع تراثها الدموي، ولا تزال منقسمة حول قضايا الهوية والسياسة مع تنزانيا.
وربما تكون اللغة العربية التي تتكلم بها نسبة كبيرة من الشعب حتى اليوم، ومع ذلك لا تزال لغة محلية غير معترف بها رسمياً مثل اللغة السواحيلية، مؤشراً إلى تاريخ طويل من التهميش والإبادة.