أحدث مقتل صمويل باتي، الأب والمعلم الفرنسي البالغ من العمر 47 عاماً، على يد ما يبدو أنّه متشدّدٌ مسلم عاصفةً في أنحاء فرنسا.
بالنسبة لأصدقائه وعائلته، يُمثّل مقتل باتي خسارةً لا تُعوّض. وبالنسبة للبلاد، فإنّ الصدمة الأخيرة وخزت الوعي العام بالتزامن مع محاكمة مهاجمي شارلي إبدو -تذكيراً بأنّ الجروح القديم لم تلتئم بعد.
ويُزعم أنّ عبدالله أنزوروف (18 عاماً) ثارت ثورته بسبب قرار المدرس عرض رسم كاريكاتوري للنبي محمد عارياً خلال حصةٍ عن حرية التعبير، فأخذ حملةً أطلقها أحد أولياء الأمور منفرداً على عاتقه وواجه باتي ليتحوّل الأمر إلى حمام دم.
ومنذ مقتل باتي يوم الجمعة 23 أكتوبر/تشرين الأول، احتشد الآلاف دعماً لـ"حرية التعبير"، متحدين على ما يبدو في القناعة بأنّ هذه العقيدة في الهوية الفرنسية باتت مُهدّدة. وتعهّد الرئيس إيمانويل ماكرون بأنّ "الخوف سيُغيّر صفه"، وهو قسمٌ مشؤوم -كما هو الحال مع خطابه حول الانفصالية في وقتٍ مُبكّر من الشهر الجاري- ويُنذر بزيادة التدقيق في المسلمين بشكلٍ عام وليس الإرهابيين تحديداً.
على خط النار
في أعقاب مقتله، تعهّد كبار الوزراء بإغلاق المنظمات والمساجد التي تُعتبر ذات صلة بالهجوم، بغض النظر عن مدى هشاشة تلك الصلة. وبالنسبة لأولئك الموجودين على خط النار، ومن بينهم الجمعيات الخيرية وجماعة حملات مناهضة الإسلاموفوبيا؛ فإنّ الشعور بالاستهداف ظلماً والتشويه بدعاوى الإرهاب ليس أمراً جديداً.
إذ باتت الشعارات المبسطة الآن من أعمدة الوطنية: فرنسا تحت الهجوم بسبب قيمها، وجميع المواطنين مدعوون للدفاع عنها ضد عدوٍ غير محدد. وهذا العدو عنيفٌ لأنّه مسلم، وبحسب المنطق السياسي، فإنّ كل المسلمين يجب النظر إليهم بعين الريبة ومراقبة أي علامات تديّن بشيءٍ من الخوف.
وهذا بالرغم من أنّ الدراسات كشفت أنّ التديّن في الواقع يُعد حصناً ضد التشدُّد، ورغم عدم وجود أدلة على أنّ الدين والأيديولوجية هي الدوافع الرئيسية للتشدّد العنيف، مع تحديد التطرّف على نطاقٍ واسع بأنّه مشكلةٌ اجتماعية.
ولكن في فرنسا، تُجادل جوقةٌ يومية من الساسة والمعلّقين بضرورة كبح الحريات الدينية للمسلمين تحت اسم الحرية والأمن القومي. وأبرزهم هو إريك زمور الذي أُدين مراراً بالتحريض على الكراهية العنصرية ضد المسلمين، ولكن حرية تعبيره لم تتعرّض لأيّ قيود وما يزال مشاركاً منتظماً في التلفزيون والإذاعة الفرنسية، بينما كتبه ما تزال الأعلى مبيعاً ويحظى بترحيبٍ حار بين العديد من الصحفيين أثناء نشره التنبؤات بالحرب الأهلية الوشيكة داخل المنازل الفرنسية.
دق ناقوس الخطر
ليست القومية الفرنسية فكرةً جديدة، لكن انحرافها إلى شكلٍ من أشكال القومية الإثنية يجب أن يدق ناقوس الخطر بيننا -لأسبابٍ ليس أقلها أنّها ستعود بنتائج عكسية تماماً في الكفاح ضد التشدُّد. إذ إنّه بتنفير المزيد من المسلمين؛ لا تترك الحكومة الفرنسية مجالاً كبيراً للفرنسيين المسلمين حتى يتعايشوا بأمان، ناهيك عن خلق أرضيةٍ خصبة للعقول المحبطة والغاضبة حتى يتم توجيهها إلى التمرّد ضد الدولة.
والمشكلة رغم ذلك هي أنّ وحشية قتل باتي تسد الطرق بالكامل تقريباً أمام التطرّق للمظالم القديمة الكامنة في التهميش الاقتصادي والاجتماعي، والرفض الثقافي، والتمييز بالنسبة لمجتمع لا يُستدعى في وسائل الإعلام إلّا من أجل المساءلة عن العنف المزعوم على يد أتباع ديانته.
كما يستغل المتشددون الإحباط الدائم بين العديد من الفرنسيين المسلمين بسبب معاملتهم على يد الجمهورية -بدءاً من وحشية الشرطة، والتنميط، والفقر، والتمييز الوظيفي، وصولاً إلى الازدراء الصريح والعلني للممارسات التي تُمثّل أساس الهوية الإسلامية مثل مساحات الصلاة، والصيام، واللباس الإسلامي.
ويُصوّر المتعصبون أنفسهم على أنّهم المُحررين لمجتمعٍ مسلم محاصر تُنكَر عليه أبسط حقوقه الدينية، بينما يعتبر الساسة أنفسهم المحررين لأغلبية غير مسلمة محاصرة يُزعَم أنّها تخشى قطع الرؤوس بقدر خشيتها ممرات الطعام الحلال وملابس السباحة الكاملة.
ولم يكُن تعطيل الثنائيات أمراً ضرورياً بقدر أهميته في يومنا هذا -ورغم أنّ أمامه فرصة وضع سياسة تقدُّمية، اختار ماكرون مراراً مغازلة التضاريس اليمينية المُتشدّدة. وضغط من أجل فرض نظامٍ غذائي على المواطنة الفرنسية بحجة المخاوف من الانفصالية، التي عززها بالأخبار الكاذبة والخلط الدائم في خطابه بين التشدُّد و"الطائفية" والمسلمين. وبالنسبة للمستمعين دون تركيز أثناء تحضير العشاء للأطفال، فإنّ الرسالة واضحة: المسلمون هم المشكلة.
الاندماج الاجتماعي
سلطت دراسةٌ أُجرِيَت عام 2019 الضوء على أنّ التطرّف يأتي نتيجة العزلة عن المجتمع. وقال الباحث المشارك في الدراسة نفيس حميد إنّ "السلوك المتشدّد المؤيّد للمجموعة يشتد في أعقاب الإقصاء الاجتماعي". وهذه ليست الدراسة الوحيدة التي تُؤكّد هذه النتائج -إذ حدّد بحثٌ سابق أجراه عمدة مانشستر آندي برنهام بعد هجوم عام 2017 أنّ الافتقار إلى الاندماج الاجتماعي الذي تتجاهله المجتمعات يُمثّل عنصراً أساسياً في التطرّف.
وفرنسا لا تستطيع تحمُّل نتائج مسارها الحالي. ولا أحد منا يستطيع.
ففي أعقاب مقتل باتي، طُعِنَت امرأتين مسلمتين تحت برج إيفل في أعقاب شجارٍ شهد صراخ المهاجمات البيض: "عربٌ قذرون"، في هجومٍ يُعامل على أنّه عنصري. ويتوافق الهجوم مع نمطٍ متصاعد من الهجمات المستهدفة ضد المسلمين، من النساء عادةً.
والمشكلات التي تواجه المسلمين في فرنسا لها عدة أبعاد، والاستهداف المستمر للمسلمين بصفتهم مجتمعاً يُمثّل مشكلة على أساس الهوية الدينية -دون أيّ محاولة لعلاج القضايا المنهجية التي يُواجهونها كمواطنين- سوف يُظهر الازدراء العميق لعدم المساواة التي ابتُلِيَ بها المجتمع الفرنسي.
ووسط نقاشٍ يُركّز بشدة على حرية التعبير، فنحن نادراً ما نستمع مباشرةً إلى الفرنسيين المسلمين. ونادراً ما نسمع عن مجموعة التجارب، أو التوقعات، أو الجدالات التي تُواجهها هذه التركيبة السكانية المتنوعة. ولكنّنا بدلاً من ذلك تتم دعو الأئمة والشخصيات العامة لتقديم إسهامات لا يُمكن أن يدركها إلا القليلون في الواقع.
وهذا الفشل التاريخي في فهم "الآخر" داخل فرنسا، الآخر الذي أصبح فرنسياً بالكامل اليوم ويُطالبون عن حق أن تقبل الجمهورية بهويتهم الكاملة -كمواطنين، وأحفاد المُستَعمرين، وجماعات موصوفة بالعنصرية، وملتزمين دينياً- ضمن تجسُّدها الحديث، هو الصراع الحقيقي الذي يختمر الآن تحت السطح.
تجاهل المظالم
في الأسبوع الجاري، ومع نزول الآلاف إلى شوارع فرنسا تكريماً لباتي ودفاعاً عن "حرية التعبير"، يجب أن ننتبه جداً لما يكمُن في تلك الشعارات. فصحيحٌ أنّ أعمال العنف مثل قتل باتي تُهدّد حرية التعبير حين يتعلّق الأمر بنشر مواد مُصمّمة لإحداث الصدمة والإهانة. لكن حرية التعبير كانت مقموعةً بالنسبة لأولئك الذين لطالما تعرّضت مظالمهم للتجاهل.
و"حرية تعبيرهم" لا تتعلّق برفاهية الإهانة؛ بل تتعلّق بالحق في الاستماع لهم حين يتعلّق الأمر بعدم الشعور بالأمان، والبطالة، والتمييز، والفقر. وهذه الأغلبية الصامتة من المسلمين -وجيرانهم غير المسلمين في الضواحي المنسية- لطالما تعرّضت للإسكات، ونادراً ما ارتقى خطابهم إلى النقاش العام، ونادراً ما اعتُبِرَت مظالمهم قضيةً شهيرة بين المُعلّقين والساسة.
وهناك الكثير من الوسائل التي يُمكن من خلالها تهديد حرية التعبير، وبالنسبة للبعض، فإنّ رفاهية وصول أصواتهم كانت منقوصةً منذ زمنٍ بعيد.
وإنّ كانت هذه المأساة ستُمثّل أيّ قيمةٍ للأمة، فيجب أن تكمُن هذه القيمة في الفحص الدقيق لهوية من يحق له الكلام، قبل أن يتعرّض الخطاب نفسه للتهديد -وكيف يُمكن للقمع تغذية دائرة الاستياء، والإحباط، وخيبة الأمل.
وهناك درسٌ عن حرية التعبير لنا جميعاً هنا: القدرة على الحديث -وإيصال صوتك- ضروريةٌ لجميع من في المجتمع. ولا يجب على مجتمعٍ أن يتطلّع إلى الوحدة المتجانسة، بل يجب عليه الترويج للمساواة بين جميع المواطنين.
– هذا الموضوع مُترجم عن موقع Middle East Eye البريطاني.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.