لم يكن مقتل المدرس الفرنسي الذي سخر من النبي محمد عليه الصلاة والسلام الأسبوع الماضي هو بداية الأزمة التي تتصاعد في فرنسا بل هو التجلي الأكبر لها.
الأزمة بدأت بالدفاع المستميت لماكرون عن حرية "التعبير"، وبالأحرى حرية شتم الإسلام تحديداً، فماكرون كرر العديد من التصريحات العنصرية خلال الفترة الماضية.
"سندافع عن الرسوم الكاريكاتيرية".. كان هذا هو تصريح رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون بعد الحادث المؤلم لمقتل المدرس سامويل باتي، والذي قُتل بعد عرضه رسوماً مسيئة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم على يد طالب شيشاني.
أزعم أن تصريحات ماكرون الاستفزازية قبل وبعد الحادث هي التي تؤجج العنصرية ضد المسلمين والعنف في بلاده، فهذه التصريحات المنحازة بشكل تام لمن يسيء للنبي محمد والإسلام بدعوى الحرية ستتسبب في ردود فعل لا تحمد عقباها.
دوماً الحروب الأهلية تبدأ بالتحريض:
دائماً ما تبدأ الحروب الأهلية بالخطاب التحريضي على فئة في المجتمع تمهيداً لقمع تلك الفئة وشحن النفوس ضدها، هذا ما شاهدناه في إفريقيا في الحرب الأهلية الرواندية بين الهوتو والتوتسي 1994، فرغم أن القبيلتين متزوجتان ومترابطتان بدأت الحرب الأهلية بشبكة راديو تحرض إذاعة (ميل كولين) التي كانت معروفة بتحريضها على ذبح التوتسي، شبكة وحيدة بدأت منها كل تلك القصة المؤلمة التي قُتل فيها أكثر من مليون إنسان.
ومن هنا ننتبه لخطورة استخدام الميديا والرسومات والتصريحات في التحريض العنصري على الإسلام، وأكثر ما يستغرب أن تلك التصريحات صادرة من رأس الدولة الذي يريد أن يرضي اليمينيين المتطرفين على حساب أكثر من 5 ملايين من أبناء شعبه.
قصة سخيفة ومكررة يتاجر بها الحكام دوماً حدثت بالضبط في صربيا، حيث كان يعيش الأرثوذوكس والمسلمون الألبان في سلام حتى جاء رئيس عنصري قبيح يدعى ميلوسوفيتش ويرمي فشله في تحسين أوضاع شعبه على المسلمين ويسلط إعلامه ضدهم ويشحنهم، حتى بدأت حرب التطهير العرقي عام 1992 والديني في بلاده والمقابر الجماعية في هذا البلد الأوروبي الهادئ.
الأمثلة السابقة وعشرات غيرها هي جرس إنذار مما يمكن أن يحصل بالنهاية لو استمر الخطاب التحريضي على الإسلام والعنف والعنف المضاد، ولو لم تنتبه قيادات فرنسا لخطورة تبنيها موقفاً معادياً لطائفة من مجتمعها وطائفة ضخمة.
المشكلة في ماكرون وأشباهه وليس الإسلام:
فعلى غرار رئيس صربيا المخلوع ميلوسوفيتش والذي واجه انخفاض شعبيته وتزايد الأزمات الاقتصادية والفقر والبطالة بافتعال أزمة وإلقاء اللوم على المسلمين الألبان بالتسبب في أزمات الاتحاد اليوغوسلافي يقوم ماكرون بنفس السيناريو لمواجهة أزمته السياسية الداخلية.
فقد كشفت استطلاعات رأي منشورة يناير/كانون الثاني الماضي على إذاعة مونت كارلو الفرنسية أن 32٪ من الفرنسيين يؤيدونه، بالمقارنة بمستوى الشعبية الذي كان يتمتع بها قبل انطلاق حركة الاحتجاجات الشعبية المتكررة التي تقودها السترات الصفراء.
وأشارت مونت كارلو أن ماكرون يظل رئيساً غير شعبي، ذلك أن 63٪ من الفرنسيين يعلنون أنهم لا يثقون فيه، وأن نسبة من لا يثقون فيه بصورة نهائية تصل إلى 39٪.
وأفاد استطلاع آخر نظمه "المعهد الفرنسي للرأي العام" في يونيو/حزيران 2020 بتراجع شعبية رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون، وأن شعبية ماكرون انخفضت إلى 38% مقابل 39% في مايو/أيار.
وجددت هذه الاستطلاعات التكهنات بأن ماكرون قد يسعى بحثاً عن زخم جديد قبل الانتخابات الرئاسية سنة 2022، للتخلص من منافسيه.
هذان استطلاعان فقط من عشرات الدراسات والأبحاث التي تكشف أن ماكرون تتدهور شعبيته بالتدريج، ولكي يعيد شعبيته يحاول افتعال أزمات وتوجيه الأنظار لعدو محتمل "الإسلام الراديكالي".
وللأسف نجح ماكرون جزئياً في هذا وسط عدم تراجعه عن تصريحاته العنيفة ضد الإسلام والمسلمين والتي تزايدت حدتها عن الأعوام الماضية.
مثلاً في أبريل/نيسان العام الماضي 2019 كان يركز على الإسلام السياسي كعدو له، ويحاول الابتعاد عن الإسلام بوجه عام، وهذا التصريح انطلق مع تصاعد احتجاجات السترات الصفراء والحركات اليسارية كنوع من التشويش.
وقال ماكرون وقتها بدلاً من الرد على اتهامات المحتجين: "إن الإسلام السياسي تهديد للجمهورية الفرنسية ويسعى للانعزال عنها".
تصريحات غير مفهومة ولا مبررة ولا معروف سببها، فبينما معظم المحتجين من أبناء فرنسا وليس بينهم إسلام سياسي يصب ماكرون غضبه على المسلمين ويهددهم ويحذرهم.
ماكرون مع تصاعد ذروة الاحتجاجات قال أيضاً إنه طلب من حكومته ألا تظهر هوادة مع الحركات الإسلامية، وأن تحولَ بينها وبين الحصول على أي تمويل من الخارج.
خطة ماكرون لفرنسة "الإسلام":
وفي فبراير/شباط 2020 وقبل أزمة كورونا أعلن ماكرون اعتزامه تشديد الحرب على التشدد و"الانفصال الإسلامي" في الأحياء الفرنسية.
وقال إن الانفصال هو "العدو"، ولا يتوافق مع الحرية والمساواة ووحدة الأمة، وأضاف أنه لا يمكن باسم دين ما القبول بمخالفة القوانين، وأنه لا ينبغي أبداً القبول في فرنسا بتغليب قوانين الدين على قوانين الجمهورية الفرنسية.
وأعلن ماكرون عن خطته ضد الانفصال الإسلامي في الأحياء الفرنسية، مؤكداً أنه ليس المقصود من الأمر وصم دين ما، كما أن الأمر لا يتعلق بـ "خطة ضد الإسلام".
خطة ماكرون بحسب ما نُشر بالوكالات مكونة من أربع نقاط أساسية، أولاها تحرير المساجد والمدارس من التأثيرات الأجنبية، وفي النقطة الثانية من خطته دعا ماكرون ممثلي مسلمي فرنسا إلى التنسيق بشكل أفضل فيما بينهم.
فيما خصص الرئيس الفرنسي النقطة الثالثة لمكافحة المحاولات الانفصالية في المجتمع الفرنسي والتي تأخذ أشكالاً مختلفة مثل أوقات الاستحمام المنفصلة في حمامات السباحة العامة وساعات الصلاة في النوادي الرياضية وانتهاكات قانون المساواة بين الفتيات والفتيان، أما النقطة الرابعة والأخيرة فتهدف إلى معالجة إشكالية افتقار الكثير من الأحياء في فرنسا إلى عروض اجتماعية ورياضية وثقافية وعروض من خارج المدارس.
ماكرون يرفض التنديد بالرسوم المسيئة:
وفي بداية سبتمبر/أيلول 2020 رفض الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون انتقاد خطوة المجلة الفرنسية "شارلي إيبدو" بإعادة نشر الرسوم المسيئة للنبي محمد "لكني لن أنتقد قرار المجلة الساخرة بإعادة نشر الرسوم الكاريكاتيرية".
وأضاف:" لست مضطراً للتعبير عن رأيي في هذا الأمر، لا مكان لرئيس فرنسا أبداً في إصدار حكم على اختيار تحرير صحفي أو غرفة تحرير؛ لأننا نتمتع بحرية الصحافة هناك في فرنسا حرية في التجديف مرتبطة بحرية الضمير، أنا هنا لحماية كل هذه الحريات، يمكن في البلاد انتقاد الرئيس والمحافظين والتجديف".
هل الإسلام في أزمة؟
كان يبدو أن شهر أكتوبر/تشرين الأول من بدايته لن يمر بسلام في فرنسا، فماكرون كثف تصريحاته العنصرية ضد الإسلام بداية من أول الشهر وكأنه لا يريد أن ينتهي عام 2020 إلا وهناك فتنة عارمة في أوروبا بفضله.
يوم 1 أكتوبر أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن "الإسلام دين يمر اليوم بأزمة في جميع أنحاء العالم، ولا نراها في بلادنا فقط"، مشدداً على كونها "أزمة عميقة مرتبطة بالتوترات بين الأصولية والمشاريع الدينية والسياسية التي تؤدي إلى تصلب شديد للغاية".
صياغة الإسلام الفرنسي:
كما قال إنه "على الدولة الفرنسية مكافحة الانفصالية الإسلاموية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى تأسيس مجتمع مضاد".
كما أعلن بداية الشهر عن تخصيص مبلغ 10 ملايين يورو لـ"مؤسسة إسلام فرنسا" وعن خلق معهد علمي لـ"الدراسات الإسلامية" قائلاً: "أفكر بشكل خاص في تطوير الدراسات الإسلامية الرفيعة المستوى في الجامعة، لقد قررت إنشاء معهد علمي لعلم الإسلام. سننشئ وظائف إضافية في التعليم العالي لمواصلة العمل في البحث ليس فقط في الحضارة الإسلامية، ولكن أيضاً في حوض البحر الأبيض المتوسط وإفريقيا".
ماكرون قتل المدرس قبل الشاب الشيشاني:
على غرار المقولة التراثية "قتله مَن أخرجه" أزعم أن ماكرون بتشجيعه على استفزاز المسلمين والتحريض عليهم في خطاباته هو من تسبَّب في مقتل المدرس الفرنسي صامويل باتي.
فهو من رفض سن تشريع لمنع الإساءة للأديان كلها، كما طالبت مؤسسات إسلامية عديدة أكثر من مرة، وعلى رأسها الأزهر، وهو من يشجع على الخطاب العنصري ويحذر من تمدد الإسلام في بلاده وفتح الباب لخطاب الكراهية والسخرية من المقدسات.
إن ما حدث من الشاب الشيشاني عمل مفزع، ولكن في نفس الوقت هو تجلّ واضح لأزمة كبرى صنعها اليمين المتطرف الكاره للإسلام، وكانت تلك مجرد نتيجة لمقدمات كثيرة.
ماكرون بدلاً من تهدئة الأمور صرح في تأبين باتي متحدياً مشاعر المسلمين وبدلاً من أن يتعهد بحل الأزمة المتصاعدة قال إنّ صامويل باتي قُتل "لأنّه كان يجسّد الجمهورية".
وأكد ماكرون أن "صامويل باتي قتِل لأنّ الإسلاميين يريدون الاستحواذ على مستقبلنا ويعرفون أنّهم لن يحصلوا على مرادهم بوجود أبطال مطمئني النفس مثله".
وقال ماكرون إن المدرّس قُتل بيد "جبناء"، لأنه كان يجسّد القيم العلمانية والديمقراطية في الجمهورية الفرنسية، إن بلاده لن تتخلى عن "الرسوم الكاريكاتيرية"، في إشارة إلى الرسوم التي قُتل باتي لأنه عرضها على تلاميذه.
ماكرون يسمح بالسخرية من النبي ويرفض السخرية من إسرائيل:
فبينما أقرت الأغلبية البرلمانية التابعة لماكرون نهاية العام الماضي نصاً يوسع تعريف معاداة السامية وتم تبنّي هذا النص بأغلبية ضعيفة، بعد جدل كبير حوله في البرلمان وخارجه ليتم استغلاله لتكميم أفواه منتقدي السياسات الإسرائيلية.
وجاء هذا النص في سياق تعهد سابق للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتوسيع مفهوم معاداة السامية ليشمل معاداة الصهيونية أيضاً حيث صوّت 154 نائباً لصالح النص الجديد فيما صوَّت ضده 72.
والسؤال هنا إذا كنت تمنع الإساءة للمقدسات اليهودية ودور عبادتهم لمَ لا تفعل نفس الأمر للمسلمين أم أن السخرية من اليهود محرمة ومن المسلمين ومقدساتهم مباحة؟
النهاية:
إن إصرار ماكرون على خطابه العنصري سيؤدي لنتائج لا تُحمد عقباها واضطرابات كبيرة في بلاده وعنف وعنف مضاد، رغم أن حل الأمر بسيط جداً وسيريح الجميع ويُخرج فرنسا من أزمتها، لكن ماكرون ورجاله يعاندون حتى تنفجر الأوضاع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.